منزلق الشعارات السياسية... بين الحاكم والمحكوم

 

شبكة النبأ: من الجدران في الطرقات الضيقة والمظلمة، الى أعالي الساحات العامة والشوارع الرئيسية، ثم عبر وسائل الإعلام والاتصال السريعة الانتشار، نرى تطور حالة الشعار السياسي في بلادنا. ففي وقت كان أحدهم يكتب عبارات تحريضية ضد النظام الحاكم، ويفر من المكان سريعاً، نجده اليوم موظفاً او مسؤولاً في النظام الحاكم الجديد. ومع تطوره وتحوله من حال الى آخر، فان شعاراته تتحول و تتطور ايضاً. فالشعارات التحريضية تتحول الى تعبوية وايجابية. فمن "الثورة" و"التحرير" و"الموت للطاغية"، و"الموت لأمريكا"، الى "البناء" و "الاستقلال" و "الديمقراطية".

هذه الظاهرة لحظناها مع ظهور المنظومة الثورية – اليسارية في العالم، حيث انطلقت في البلاد التي قامت في أنظمة حكم على أكتاف الناس، عندما سيرتهم الشعارات الثورية والحماسية، من قبيل "يا عمال العالم اتحدوا.. وطن حر وشعب سعيد"، ثم درجت في بلادنا شعارات قومية، مثل "أمة عربية واحدة"، ثم تفرعت منها شعارات عن "الوطن" وعن "معارك المصير"، و"التحرير" وغيرها مما يشد الشعوب في دوامة العنف والمواجهة مع عدو مفترض وهاجس مجهول، أطلق عليه بداية "الامبريالية"، ثم "التوسعية"، ثم "الاحتلال" في الوقت الحاضر. وبما ان هذه الشعارات تلامس واقع الناس وتحاكي الى – حد ما- واقع الفقر والحرمان والتخلف، فانها تأخذ حيّزاً كبيراً في وجدان وعقول شريحة واسعة، بل حتى يصل الأمر الى التقديس والتضحية من اجلها.

بينما في البلاد التي قامت في الأنظمة السياسية على العقول والثقافة والافكار، فان الشعارات، ليست فقط لا تجد مكاناً لها، بل لا يجد الناس هناك حاجة اليها. فالتطور والتقدم، وتوفير الأمن والرفاهية والعدل الذي تنشده الحكومات هناك، يتحقق من خلال المؤسسات الدستورية، ومنظمات المجتمع المدني، وبفضل وجود دوائر ضغط ناشطة، مثل الاكاديميين والعشائر والتجار وعلماء الدين. وبكلمة؛ يكون الحديث عن أي وعد حكومي بتقدم البلاد، قائماً على أساس واقعي ملموس، وليس على شعارات مرفوعة في الشوارع والساحات العامة. نعم؛ هنالك شعارات في البلاد المتحضرة والمتقدمة، بيد أنها مجرد أشبه ما تكون بعلامات المرور في الشوارع، ترشد الناس الى الالتزام بالنظافة والهدوء والتعاون واحترام الآخر وغيرها.

هذا النمط، غير متوفر في بلادنا، وتحديداً في العراق وايران، والمثالان سقناهما، لانها أكثر دول المنطقة استخداماً للشعارات التعبوية والحماسية، فقد تقدمت على البلاد الاخرى في عملية التغيير الشامل والكبير، إلا ان "الشعارات" من حيث المفهوم والمنطوق، بقيت على مستواها السطحي في ثقافة الناس، في حين نلاحظ استعجال الناس نحو التطوير والتحديث في جميع نواحي الحياة، وهذه سنّة الحياة التي يواكبها الناس عفويةً. ففي ايران لا يبرح الناس يبحثون عن الحرية، بينما في العراق، الناس يبحثون عن الحداثة والتطوير. هذه المواكبة هي التي تدفع بالمسؤول في الدولة لأن يلبي طلبات ورغبات الشارع العام، فتتم هنا عملية تبادل منفعة في من وراء رفع الشعارات؛ المسؤول الحكومي يمرر قراراته و اجراءاته، والجماهير ترى القدر المناسب من تلبية حاجاتها ورغباتها.

ومن أبرز الامثلة على التراجع عن الشعارات، رغم ضخامتها وأبعادها الاجتماعية والسياسية، ما حصل بعد انتهاء الحرب العراقية – الايرانية، عندما سأل أحد الصحفيين الاجانب الرئيس الايراني الأسبق هاشمي رفسنجاني عن كيفية القبول بقرار مجلس الأمن الدولي الخاص بوقف إطلاق النار، وكانت ايران تدعو الى الى الحرب والقتال حتى معاقبة المعتدي – صدام-؟ فأجاب على الفور وبكل بساطة: "كان ذلك من الشعارات.."! علماً إن جحافل المتطوعين باتجاه جبهات القتال وطيلة ثمان سنوات، كانت مشحونة بالدرجة الاولى بالأمل والوعد بأن تنتهي الحرب بمعاقبة صدام، أو تحقيق النصر عليه، لا أن تؤول الأمور الى ما آلت اليه. ثم جاء دور تعديل شعارات أخرى تتعلق بعلاقة ايران بالعالم الخارجي، حيث كانت القيادة الايرانية تشرك شعبها في مواجهة التحديات الخارجية، بإطلاق نداء الموت والويل لهذا البلد وذاك، وفي المقدمة "أمريكا"، ثم "الاتحاد السوفيتي" السابق، هذا الى جانب شخص "صدام"، وايضاً دول اوربية خاضت لفترة من الزمن معترك الصراع مع ايران، مثل بريطانيا وفرنسا. لكن ما برحت شعارات "الموت..." تتعدّل مع تعديل وتحسين العلاقات مع العالم الخارجي، فقبل أن ينهار الاتحاد السوفيتي، جرب الشعب الايراني إلغاء شعار "الموت للاتحاد السوفيتي" بعد عقد الزمن، ثم تطبع الناس على حذف الشعار نفسه مع الدول الاوربية، بل حتى "صدام" الذي دخل في الذاكرة الايرانية من أوسع ابوابها، وأوجد جرحاً عميقاً في المجتمع الايراني، فقد خلا اسمه من الشعارات المعادية، إذا به يتحول الى "سيادة رئيس الجمهورية العراقية...."! كما جاء في الرسائل المتبادلة بين الاخير و رفسنجاني في تسعينيات القرن الماضي.

وفي الوقت الحاضر، هنالك إشارات في الأوساط الثقافية في ايران لوضع حدٍ لشعار "الموت لأمريكا"، ويسوق المتحدثين عن هذه المحاولة الجديدة، أدلة منطقية و أخلاقية، بأن من غير المعقول إطلاق عبارة "الموت" على "أمريكا" التي تضم اضافة الى الحكومة والقيادة السياسية، شعب كبير وشرائح اجتماعية متعددة، ربما لا علاقة لها بالقرارات الجائرة والخاطئة التي يتخذها الرئيس الامريكي. ثم هنالك الحديث عن لا أخلاقية دعوة "الموت" لأحد.. وغيرها من المبررات التي كان بالامكان إثارتها خلال السنوات الماضية.

أما في العراق، فهنالك شعارات ترددها بعض وسائل الاعلام الموالية للحكومة، من قبيل "القانون" أو "النزاهة"، يثير حاجة الناس وشجونهم في الوقت نفسه، في وقت ما يزال العراق يعاني الفوضى والمحسوبية والمحاباة، وابرز دليل على ذلك، استمرار مسلسل العنف وسفك الدماء في وقت تتحدث عن الحكومة عن "الأمن" والاجراءات العديدة لتحقيقه، ومنها إشراك الناس في هذه الاجراءات، من خلال التزامهم الدقيق في طوابير "السونار" او نقاط التفتيش وغير ذلك. لكن في الوقت نفسه، نلاحظ الآثار السلبية لهذه الشعارات على ذهنية وثقافة المجتمع، عندما يشعر المواطن أن هذه الشعارات ما هي إلا وسيلة لتحقيق غايات خاصة لدى مسؤولي الدولة، بل الوصول الى مكاسب سياسية وحتى مادية، مما يستتبع آثار كارثية على العلاقة بين المواطن والمسؤول. أما اذا كانت الشعارات ذات أبعاد عقائدية وثقافية، كالتي لاحظناها في ايران، فان أبعاد الكارثة تكون أكبر، لأن الشعار هنا، ليس حديث على الألسن تتناقله وسائل الاعلام و يرفع على اللافتات في الشوارع، إنما هو بمنزلة "خارطة طريق" لشريحة واسعة من الشعب، بحيث يسترخص احياناً أغلى ما يملك، وهو النفس، لتحقيق هذا الشعار، واتخاذه هوية ثقافية وحضارية له، وهذا تحديداً ما سوّقه رجال السياسة في ايران، وهذا ما نلاحظه في جوهر الإصرار على امتلاك الطاقة النووية، وهي ان ايران يجب ان تكون محترمة لدى العالم لاسيما عند الولايات المتحدة. وإذن؛ اذا افترضنا زوال حالة العداء بين البلدين، فان الشعار ربما ينقلب الى "حياة" وليس موت لأمريكا، لأنها ستكون بلداً صديقاً كما هو الحال مع روسيا التي قامت على أنقاض "الاتحاد السوفيتي" السابق.

رب سائل يسأل؛ أن هذه الشعارات لا يرددها المسؤول ويروج لها وحده، بل الناس هم ايضاً مشتركون في عملية الترويج والتبني، من خلال مسيراتهم الجماهيرية واحتفالاتهم ومهرجاناتهم وبالنتيجة سكوتهم عن هذه الشعارات ومسايرتهم لها. فالحقيقة؛ الناس في كل مكان، لهم دورهم في التأسيس والانتخاب والاختيار، لكنهم بعيدون عن التنفيذ والتطبيق، لانهم ببساطة مشغولون بحياتهم اليومية، لذا تكون القيم والمبادئ ومجمل الالتزامات هي الوحيدة في الساحة ويتم التضحية بها من قبل البعض في أجهزة الدولة، في معظم بلادنا الاسلامية، لكن كان هذه الالتزامات عميقة الجذور وراسخة لدى الشارع العام، ولو بدرجات معينة، لن يجرؤ المسؤول، مهما كان منصبه، من التلاعب بمشاعر الناس ومصائرهم، لانهم سيفكرون اكثر من مرة قبل أن يرفعوا شعاراً معيناً لخدمة مصالحهم وغاياتهم.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 28/تشرين الاول/2013 - 23/ذو الحجة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م