تُشَكِّلُ واقِعةُ الغَديرِ، في مَنهجِ أَهلِ بيّتِ النُّبوَةِ
ومَدرسَتِهم، أَكثرَ مِنْ حدثٍ تاريخيٍّ عَابرٍ. فَهِيَ تُعتَبرُ،
ركناً أَساسيّاً في مُعتقَدِ مَدرَسةِ أَهلِ البيّت(ع) وأَتبَاعِهِم.
وهَذا الاعتِقادُ لَمّْ يَكُنْ مِنْ إِفرازَاتِ حَالةٍ عاطفيَّةٍ،
تَستَثيرُها المَشاعِرُ الشَخصيَّةُ الجيّاشَةُ، الّتي قَدّْ تَجعَلُ
المُحِبَّ، يَميْلُ مَيلاً عاطِفيَّاً غَريزيَّاً، تُحَرِّكُهُ
الدَّوافِعُ اللاشعوريَّةُ، بتَأْثِيرِ التَّقليدِ المُنبَعثِ، مِنْ
تَصَوّراتِ الإِرثِ التَّاريخيّ، للبِيئَةِ الّتي يعيشُ فِيها
الإِنسان.
إِنَّ وجُودَ خَطِّ الإِمامَةِ، يُعتبَرُ عَامِلاً يتَفاعَلُ دوماً،
عَلى أَرضِ الواقِعِ، مَعَ مُتطَلَّباتِ الإِنسانِ الدِّينِيَّةِ
والدُّنيَويَّة. كمَا يُعتبَرُ مَفهُومُ الإِمَامَةِ ضَمانَةً
أَكيدَةً، لِحِفْظِ الكِيَانِ الرِّسَاليّ للإِسلام، بَعِيْداً عَنْ
كُلِّ انحرافٍ أَو زَيْغٍ، عَلى مُسْتَوَى العَقيدَةِ، والتَّشْريعِ،
والسلوك. هذا الاعتِقادُ الرَّاسِخُ بهذهِ القَضِيَّةِ الرِّساليَّةِ،
لَهُ جُذورُهُ الواقِعِيَّةُ، الّتي تَستَنِدُ إِلى الوَقائِعِ
التّاريخِيَّةِ الصَّحيحَةِ، الّتي أَجْمَعَ عَلى صِحَّتِها، جَميعُ
رِواةِ الحَديثِ، فِي الصَّدرِ الأَوَّلِ مِنَ تَاريخِ الإِسلام. (...
عمل الأئمة في مرحلة لاحقة على حماية الشريعة ومقاومة الانحراف الذي
أشاعه فقهاء البلاط والعلماء المنحرفون، والتصدي لمحاولات تزوير الدين
والعبث بأحكامه، أما المرحلة الأخيرة فاتَّجه العمل فيها صوب تجسيد
الدين في الحياة، وتطبيق أحكامه)، (قيادة المسيرة في رؤية الإمام
السّجاد (ع)/ حسين باقر).
لَقَدّْ حَاوَلَ مُزَيّفو التّاريخِ، الّذينَ رَبَطوا مَصِيرَهُمْ،
بِمَصِيِر سِيَاسَةِ الطُّغَاةِ، أَنْ يَخْتَزِلوا الوَصَايَا الّتي
أَكَّدَ عَليها النَّبي(ص)، بِعَدَدٍ مِنَ الخُطَبِ، الّتي أَلقاها(ص)
بجِمُوعِ النَّاسِ، فِي حِجَتِهِ الأَخيرَةِ، لبيتِ اللهِ الحَرام،
والّتي بَلَغَ مَجْمُوعُهَا سِتَّ خُطَبٍ، فاخْتَزلُوها بخُطبَةٍ
واحِدَةٍ، أَطلَقُوا عَليّها (خُطبَةَ حِجَةِ الوَداع). يَذكُرُ
الشَيّخُ (علي الكوراني) في كِتابِهِ (آياتُ الغدير/ ص88): أَنَّ هناكَ
خَمْسَ خُطَبٍ، سَبَقَتْ خُطبَةَ (غَديرِ خُمٍّ) هي: (الأولى يوم
السابعِ مِن ذِي الحِجةِ بمكةَ، والثانيةُ يوم عرفة، والثالثةُ يوم
النَّحر بمِنى، والرابعةُ يوم القَر بمِنى، والخامسةُ يوم النُّفر
الأوّل بمِنى أيضاً)(انتهى). هذهِ الخُطَبُ السِتّ، أَجْمَلَ فِيها
النَّبيُّ(ص) وَصايَاهُ للأُمَّةِ، بِشَكْلٍ مُوجَزٍ ومُكثَّفٍ أَيّضاً.
لَقَدّْ بَلَّغَ الرَّسُوْلُ(ص) الأُمَّةَ، بطَريقَةٍ إِعلامِيَّةٍ
بارِعَةٍ، فَحَقَّقَ (ص) ثلاثَةَ مَقاصِدٍ:
الأَوّلُ: أَوْصَلَ (ص)، رِسالتَهُ الهادِفَةُ إِلى الآخرينَ،
بطريقَةِ الإِتّصَالِ المُباشرِ مَعَ الجُمْهُور.
الثّاني: قَصَدَ (ص)، أَنْ يكونَ التَّبليغُ بهذا الشكلِ، حتّى
يتحَقَّقَ اشتهارُ هذهِ الواقِعَةَ، فَلا يَستطيعُ أَحدٌ أَنْ يُشكَكَ
فِي حُدُوثِها مُستقبلاً.
الثّالثُ: ذَكّرَ (ص)الأُمَّةَ، بمَبادِئ الإِسلامِ الأَساسيّةِ،
الّتي بلَّغَ بها عَلى مدارِ مُدَّةِ نُبُوَّتِهِ (ص). والّتي
استغرَقَتْ ثلاثاً وعشرينَ سنةٍ. والتأكيدُ على وجُوبِ اتِّباعِها،
والإِلتزامُ الحَرفِي بِحدُودِها الشَّرعِيَّة. ومِنَ المُفِيدِ أَنْ
نستعرِضَ بَعضَ هذهِ المبادِئ، والّتي منها:
1. التآخي بين البشر، وإلغاء التّمايز القومي.
2. حُسنُ معاملةِ النِّساء، وعدم ظلمِهنَّ.
3. وِحدَةُ الأُمّةِ الإِسلاميّة.
4. إلغاءُ آثارِ الجاهلِيَّةِ ومآثِرها وتشريعاتِها المخالفة
للإِسلام.
5. الأخوّةُ والتكافؤ بين المسلمين.
6. احترامُ الملكيَّةِ الشَّخصيةِ، وتَحريمِ أَموالِ المسلمينَ على
بعضهم.
7. احترامُ حياةِ المسلم، وتَحريمِ دِماءِ المسلمين على بعضهم.
8. احترامُ عِرضِ المسلم وكرامته، وتَحريمِ أَعراضهم على بعضهم.
9. مَنْ قالَ لا إله إلا الله، فقد عُصِمَ مالُهُ ودَمُهُ.
10. الحِفاظُ على علاقةِ التَّعايُشِ السِّلميّ بين المسلمينَ
وأَهلِ الكتاب.
11. خِتَامُ النُّبوَةِ به(ص)، وخِتامُ الأُمَمِ بأُمَّتِه.
12. النّبيُّ شاهِدٌ على الأُمَّةِ في الآخرة.
13. الحذرُ مِنَ الأَعمالِ الّتي تجرُّ إِلى الانحراف، وإِنْ كانتْ
بسيطة.
14. التحذيرُ مِنَ الكَذِبِ على النَّبيّ (ص)، والتحقُقُ فيما
يُنقلُ عنه. (آيات الغدير/ ص55/ مع بعض التصرف).
وأَحداثُ التّاريخِ تُجزمُ بشكلٍ مؤكَدٍ، بأَنْ لا تُوجَدَ واقعةٌ
تاريخيّةٌ كواقعةِ الغديرِ، أَجمعَ عليها المسلمونَ، وتعدَّدَتْ مصادرُ
روايَتها. فَقَدّْ أَحصى وضبَطَ العَلامَةُ الجليْلُ، الشيخُ عبدُ
الحسينِ أَحمدَ الأَمينيّ النَّجَفيّ (قُدِّس سِرِّه)، في موسوعتهِ
الغَرّاء (الغدير)، بأَجزائِها الأَحَدَ عَشَر. فذكَرَ الشيخُ الأمينيّ
مائةَ وعَشرَ، صحابياً رووا حديثَ واقعةِ الغديرِ، وبطُرُقٍ مختلفةٍ،
وكذلك مِثلُهُم مِن التَّابعين.
إِنَّ هكذا استفَاضَةٌ وإِجماعٌ، في مصادرَ تاريخيّةٍ تَروي حادثَةً
تاريخيَّةً معيَّنةً، تُخرِجُنا مِنْ كُلِّ دَوائرِ الشَكِّ، الّتي
يَرسِمُها الظلَمَةُ المُتغطْرسونَ من حُكّامِ الجَوّر، فِي محاولاتِهم
لطَمسِ الحَقائِقِ التَّاريخيَّةِ النَّاصِعَةِ، خَوفاً على عُروشِهِم
مِنَ الانهيارِ، تحتَ ضربات مطارقِ الحَقّ.
فِي الثَامنِ عَشرَ مِنَ شهرِ ذِي الحِجَّةِ الحرامِ، مِنَ العامِ
العاشِرِ الهِجري، جَمَعَ رَسولُ اللهِ (ص)، حَجيجَ المسلمينَ، الّذينَ
حَجّوا معَهُ حِجَّة الوَداع، فَي مَنطقةِ (غَديرِ خَمٍّ أوخُمٍّ)
بمنطقةِ الجُحفَةِ، الّتي مِنها تتفرقُ الطُّرقُ، إِلى الأَمصارِ
والأَقطار. فنزلَ عليه(ص) الأَمينُ جبرائِيلَ(ع)، مُبلّغاً قوّلِه
تَعالى: (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ
رَبِّكَ وإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ واللَّهُ
يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْكافِرِينَ)(صدقَ اللهُ العليُ العظيم). لقَدّْ قَرَنَ اللهُ تَعالى،
أَمرَ التَبليغِ بالولايَةِ لأَميرِ المؤمنينَ(ع)، بأَمرِ تَبليغِ
الرِّسالَةِ كُلِّها، باعتبارِ الإِمامَةِ، هي الامتدادِ الطَّبيعي،
لجَوْهَرِ الرِّسالَةِ الإِسلاميَّة.
ومِنَ الدُّروسِ المُهمَّةِ لهذهِ الواقِعَةِ، أَنَّ المُسلمينَ
كُلُّهُم، وكانَ عدَدُهم يَربو على المائَةِ وعشرينَ أَلفاً، مِنْ
مُختلفِ بقاعِ أَرضِ الإِسلام. اجتَمعوا بأَمرِ رسولِ اللهِ (ص).
ليُبَلِغَهُمْ بأَمْرِ الولايَةِ، حيث نَزلَ قَولُهُ تعالى: (يَا
أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ
وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ
يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْكَافِرِينَ).
ثُمَّ أَمرَ النَّبيُّ (ص) الجميعَ، بمصافَحةِ عليٍّ بنَ أَبي
طالبٍ(ع)، وتهنِئَتِهِ بالولايَةِ الإِلهيَّة. فَطفِقَ النَّاسُ
يُهنِّئونَهُ (ع)، وكانَ في مُقدمَتِهم الصَّحابَةُ، أَبي بكرٍ
وعُمَرٍ. وقالَ عمرُ بنَ الخطّابِ، كلمتَهُ الشّهيرةَ، عندما دَّنا
مِنْ أَميرِ المؤمنينَ(ع) مُهنِئاً لهُ، فَضربَ على كَتفِ أَميرِ
المؤمنينَ(ع)، غِبطَةً وتعظيماً لهذا الشَّرَفِ العظيمِ، وقالَ : (بَخٍ
بَخٍ يا ابنَ أَبي طالب، أَصبحتَ مولانا ومَولى المؤمنين). وبعد ذلك
نزلَ قولُه تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإِسلام دِيناً).
إِنَّ هذا الدَّرسَ، يُعطينا فُرصَةً كبيرةً للتَّأَمُلِ، فِي
واقِعِنا اليومَ، لنُجيبَ بأَنفُسِنا على تَساؤلاتٍ مهمّةٍ، تَصِلُ إلى
حَدِّ التَّحَدِيات المَصيْرِيَّةِ، وهذهِ التَّساؤلاتِ هي:
1. هَلّْ موضوعُ وراثَةُ الأَنبياءِ، وتَوَلي الأَوصياءِ مِنْ
بَعدِهم، زِمامِ قِيادَةِ الأُمَّةِ، أَمرٌ تتفرَدُ به مدرسَةُ أَهلَ
البيّتِ (ع)، أَمّْ إِنَّهُ أَمرٌ موجودٌ في الرسالاتِ السماويَّةِ
السابقَة؟. بِهذا الخُصوصِ يَذكرُ الشيخُ (علي الكوراني): (.... ونظام
الاثني عشر نقيباً الذي شرعه الله في بني إسرائيل، والإثني عشر حوارياً
لعيسى، وأن النبي صلى الله عليه وآله طلب من الأنصار في أول بيعتهم له
أن يختاروا منهم اثني عشر نقيباً.. ثم بشر الأمة بالأئمة الاثني عشر من
بعده)(مصدر سابق/ ص107)
2. هّلّْ ستَنجحُ الأُمَّةُ الإِسلاميّةُ، بالصمودِ بوجهِ
المُخَططاتِ المُعاديَةِ للإِسلامِ، (خصوصاً التي يُنظِّمُها، بعضُ
المسلمينَ المنحرفينَ عقائِديّاً وفكريّاً وثقافِيّاً). هذهِ المخططاتُ
الّتي تَقْصِدُ تفريقَ الكلمةِ، وشَقِّ وحدةِ الصَّفِ، عن طريقِ خداعِ
البُسَطاءِ والجَهلةِ، وتهويلِ الأُمورِ وتضّخيمِها فِي أَذهانِهم
السَاذجَةِ، وتصويرِ مُحبّي أَهلِ البيّتِ(ع)، بأَنهُم كفرةٌ وأَهلُ
ضَلالَةٍ و بِدعَةٍ، ومزيفينَ للتاريخ؟.
3. هَلّْ سيَنجَحُ المثقَّفونَ المُسلمونَ النُّخبويّونَ
المُلتَزِمونَ، مِنْ احتواءِ صَدى تلكَ الادعاءات، الّتي هي أَصلاً
بِدعةً دخيلَةً، على الإِسلامِ وتاريخهِ. ويتمكنونَ مِنْ إِسكاتِ
أَبواقِ الإِعلامِ المأجورِ للأَعداءِ، والّذي لا يَكِّفُّ عَنْ تَشويهِ
الحَقائِقِ، وتَثّويرِ المَشاعِرِ، بينَ بعضِ المسلمينَ وبعضهِم الآخر؟.
4. هَلّْ تَتَمَكنُ الأُمَّةُ، مِنْ تَطبيقِ مبادِئ رسالَةِ
الإِسلامِ، الّتي حَدَّدَها، النَّبي الكريم (ص)؟.
5. هَلّْ تَستطيعُ الأُمَّةُ الصّمودَ، بوَجهِ تَحدياتِ الحَاضِرِ
والمُستقبلِ. أَمّْ أَنَّها سَتَنهارُ أَمامَ تَحدياتِ الأَعداء؟.
6. إِنَّ المؤَشراتِ تَدِلُّ على أَنَّ الإِعلامَ العالميَّ
الموجَّهُ ضِدَّ المُسلمينَ، لهُ أَثرٌ سَلبيّ على حياتهم. فَهَلّْ
سيَتمكنُ هذا الإِعلامُ، مِنِ اقناعِ الجيلِ المعاصرِ، بِأَنَّ
الإِسلامَ مُجرَّدُ تُراثٍ، لا نَفعَ فيه، لكثرةِ الصِّراعاتِ
الفكريَّةِ والعقائديَّةِ الموجودَةِ في واقِعه. لِذا يجبُ أَنْ
يُحفَظَ هذا التراثُ في أَدراجِ المتاحِفِ، لِنُبعِدَ المَشاكِلَ عَنْ
حاضِرِنا ومُستَقبَلِنا؟.
إِنَّ الإجابةَ على هذهِ الأَسئلةِ، تَكمُنُ فِي مقدارِ تَحمُّلِ
الأُمَّةِ ونُخَبِها، للمسؤوليَّةِ الرساليَّةِ، وفَهمِها العَميْقِ
لدورِها الإِنسانِيّ فِي الوجُود، كمَا أَرادَ اللهُ تعالى ورسولُهُ
الخَاتَمُ(ص). وَلا يكونُ ذلكَ أَبَداً، بدونِ السَيرِ على نَهجِ
مَدرَسةِ الإِمَامَةِ المَعصُومَةِ، الّتي طَهّرَها اللهُ تَعالى مِنَ
الرِّجْسِ تَطْهِيرا. والعاقِبَةُ للمُتَّقين.
* كاتِبٌ وبَاحِثٌ عِراقيّ
Mjsunbah1@gmail.com
http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/mohamedjoaad.htm |