لنرتقِ الى التقدم الحضاري الذي رسمه أمير المؤمنين (ع)

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: يتصور البعض عدم صلة بين مفهوم "الحضارة"، و "الدين". منشأ هذا التصور من كون الحضارة – في عيون هذا البعض- هو البنايات الشاهقة والجسور الطويلة المعلقة فوق الانهار والبحار، ومختلف أشكال التقدم التقني والصناعي. بينما الدين يهتم بالجانب المعنوي للانسان، ويتكفل فقط بتنظيم الأحكام والطقوس العبادية، لذا نشهد حالة استلاب واضحة في الساحة الثقافية، فالارقام والصور والاحصائيات عن مراقي التقدم والتطور الذي بلغته الدول الصناعية، لاسيما الغربية منها، تملأ صفحات النت، وايضاً وسائل الإعلام، حتى العربية والاسلامية، بشكل يكرس في نفس الانسان المسلم مشاعر الخيبة والوضاعة والهزيمة أمام الآخر المتقدم والمتطور، ليس في المجال الاقتصادي، بل المجال السياسي والثقافي. ولكن..

هنالك زاويا مظلمة عديدة في الساحة لم تسلط عليها الضوء، فالأمر ليس بهذا السوء والسوداوية التي يرسمها البعض.. ففي الإسلام من القواعد والأنظمة ما يكفي لأن تفيد البشرية كلها – وليس المسلمين وحدهم- في تحقيق التقدم والرفاهية والعيش الكريم، وهذه حقيقة أقرها الباحثون الغربيون قبل المسلمون، لكن مشكلتنا في عدم القدرة على ترجمة تلكم القواعد والانظمة على أرض الواقع، وهذا ما يسعى اليه سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي – دام ظله- في أحاديثه ومؤلفاته، حيث يشير الينا بوجود النماذج المضيئة، متمثلة في الرسول الأكرم وأهل بيته صلوات الله عليهم، الذين قدموا لنا وللعالم النظام المتكامل لحياة سعيدة ناجحة، تكفل التقدم والتطور للشعوب.

في حديث له أمام وفد من الاكاديميين العراقيين، أشار سماحته الى التجربة التي عاشتها الأمة في ظل حكم أمير المؤمنين عليه السلام، حيث أكد على أنها وفّرت لانسان ذلك اليوم، وللانسانية جمعاء شروط النهوض والتقدم، ولذا فانه عليه السلام، يُعد الرائد في التقدم الحضاري على سائر الأمم السالفة والحاضرة. وسلط سماحته على الجانب السياسي في نظام حكم الامام علي، عليه السلام، وعدّ النجاح في هذا الجانب مفتاحاً للنجاح في الميادين الاخرى، مثل الاقتصاد والاجتماع وغيرها، ومن أهم استحقاقات النظام السياسي، الحرية، التي تمثل نافذة الشعوب والأمم نحو الابداع والتطور والتطلع نحو المستقبل، بل تشكل قاسماً مشتركاً لعديد السبل نحو نجاح الاقتصاد والاجتماع. لذا يشير سماحته الى المساحات الواسعة من الحرية التي منحها أمير المؤمنين، عليه السلام، ومنها حرية العمل والتجارة، وأن تبتعد الحكومة أو السلطة التنفيذية عن التدخل في سير عجلة الاقتصاد، إنما تكتفي بدور الرقابة والإشراف، فيما يكون ابناء الشعب والأمة بأجمعهم مشتركون في دفع عجلة هذا الاقتصاد من خلال العمل او الاستثمار والابداع.

سماحته يستشهد بمثال بارز على أحقية منهج أمير المؤمنين عليه السلام، ليس من واقع أمتنا ، إنما من الأمة اليابانية.. حيث أوضح بأن اليابان إنما تقدمت وتطورت، لأنها عملت بوصايا أمير المؤمنين، عليه السلام، وقال: "ان الذي مكّن اليابان من النهوض بعد هزيمتها ودمارها في الحرب العالمية الثانية، هو العمل بفقرة من كتاب الإمام أمير المؤمنين، صلوات الله عليه، إلى مالك الأشتر، رضوان الله تعالى عليه، حينما ولاّه مصر، حيث كتب إليه - ما مضمونه- بأن يجعل التجارة حرّة، بالأخصّ التصدير والاستيراد، وأن يكون دوره - أي دور الحاكم والحكومة - هو الرقابة فقط، لكي لا يحدث غبناً بحقّ الناس. فكان ما عمل به اليابان أنه جعل التجارة بيد الشعب الياباني ، فتقدّم و ارتفع حتى صار يزاحم أميركا في اقتصادها..".

 وينقل عن امبراطور اليابان الراحل "هيروهيتو" الذي يُنسب اليه الفضل في نهضة اليابان بعد الحرب، عن أهم عوامل نهضة بلده وتقدمها، فأجاب: "بدأنا بما أنتهى به الآخرون، وتعلمنا من أخطائهم". هذه الخطوة التي رفعها اليابانيون تذكرنا بما قاله الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، فنبينا الأكرم يوضح لنا أن هنالك مفاهيم وقيم أخلاقية سائدة لدى البشر قبل بعثته، وها هو يتمم تلك المنظومة الاخلاقية ويضع لها الإطار النهائي في ظل الإسلام. فاذا كانت الاخلاق موجودة قبل البعثة النبوية، وقد تم تكميلها، ألا يجدر بنا البحث عن التجارب السابقة في ميادين أخرى لاسيما في مجال العلم والمعرفة، ولنكن متممين للعلوم والمعارف بتجاربنا وابداعنا على طريق النهوض والتقدم في المجالات كافة.

وهذا ما امتنع عنه حكامنا طيلة قرن من الزمن، بل ومنذ القرن التاسع عشر، حيث بدأت الأمة بالتدهور والتسافل في مراقي الحضارة، والتخلف عن الأمم المتحضرة ، عندما وضع الحكام العصي في عجلة التقدم العلمي ، بينما شجعوا وحثوا على الهرولة للحاق بركب الحضارة الغربية، على أنها هي مصدر العلم والمعرفة، وليست المدن الاسلامية المعروفة بمدارسها وجامعاتها. وقد جاء في مقال للكاتب المصري "صلاح سليمان" في صحيفة "القدس العربي" الصادرة بلندن، أن في عهد أبناء محمد علي باشا، شهدت مصر غلق العديد من المصانع والمدارس، حتى وصل الحال أن يقول: محمد سعيد باشا – الابن الرابع لمحمد علي- بعد اغلاق المدارس "أمة جاهلة أسلس قيادة من أمة متعلمة".

من هنا يتضح أن النظام السياسي له دوره الفاعل والكبير في رسم سياسة الدولة وتوجيه الأمة نحو شاطئ الأمان، وهذا تحديداً ما يشير اليه سماحة المرجع الشيرازي في دعوته الاكاديميين العراقيين الى أن يسهموا في التأثير على القرار السياسي بما يؤدي الى تحسين الأداء الحكومي في المجالات كافة. ولذا نجده يوجه الدعوة المباشرة الى الشريحة المثقفة والاكاديمية لأن تحاول أن تبني "عراق الغد عبر الشباب، وذلك بتثقيفهم بثقافة الإمام عليّ بن أبي طالب، صلوات الله وسلامه عليه، فهذا العمل من أهم المسؤوليات اليوم، كما أنه أهم شيء تعطونه لمستقبل العراق، ولمستقبل الإسلام، ولمستقبل أهل البيت، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وكذلك لمستقبل المنطقة والعالم كلّه. فثقافة الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه، وسيرته وتاريخه، كل ذلك فريد ولا نظير له إلى يومنا هذا".

فاذا بلغ الشباب المسلم في العراق، وفي أي بقعة من العالم، مرتبة من الفهم والإدراك لما يحمله من كنز عظيم متمثلاً بمنهج و سيرة أهل البيت، عليهم السلام، لاسيما سيرة النبي الأكرم وأمير المؤمنين صلوات الله عليهم، نظراً الى أنهما قدما الى البشرية نظاماً متكاملاً يكفل للانسان المضي قدماً في طريق الرقي والتقدم في المجالات كافة، وهذا يدعونا، كما يدعو الشباب لأن يوسعوا ثقافتهم ومعرفتهم بهذه السيرة والمنهج، وجاء هذا في دعوة مفتوحة لسماحة المرجع الشيرازي، الى المعنيين بأمر التربية والتعليم الى أن يربوا "شباب العراق على قيم ومبادئ وثقافة الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه، وليس على حبّه والولاء له فقط، فالولاء واجب.. اسعوا إلى ذلك حتى يعرف ويعلم شباب العراق من كان عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه، وماذا عمل. فّإذا علموا ذلك فسيصلحون العالم كلّه وليس العراق أو المنطقة فحسب..".

إن الشعوب المتقدمة والمتحضرة لم تحقق اهدافها إلا بوجود هوية ثقافية وفلسفة او نظرية للحياة، وإلا كان سعيها وجهدها هباءً منثورا، ونحن نلاحظ الجهود والمساعي المضنية التي تبذلها دولنا، من خلال الجامعات ومراكز البحث العلمي نظرياً وعملياً، لكن نتائج كل هذه الجهود تذهب الى غايات واهداف متعددة بل متباعدة، إذ لا توجد بوتقة واحدة تصهر هذه الجهود لتصب في رافد واحد، بينما نلاحظ العكس في دول مثل اليابان، تبنت الاستقلال والحرية والتعاون، والشعور بالمسؤولية، ليس كشعارات سياسية للاستهلاك الاعلامي، إنما عقيدة للصغار والكبار، وهكذا نجحوا وتقدموا، وهكذا بامكاننا ان ننجح ونتقدم.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 24/تشرين الاول/2013 - 19/ذو الحجة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م