لو شاء الله أن نفخ الروح في رفات إنسان مات قبل مئات السنين في أية
بقعة من بقاع الأرض، ثم نشره في اليابان أو الصين أو اميركا أو باكستان
أو مصر او جنوب افريقيا أو البرازيل، أو أية بلدة من هذه المعمورة،
فإنه بلا شك سيموت صعقاً من هول الصدمة، وفي أحسن الفروض يسقط على وجهه
مغشياً عليه، وإذا أردنا أن نحسن الظن بمثل هذا الرجل العائد من القبور
فانه سيقول مع نفسه أن الله بعثه ليوم القيامة، وأنه في جرم سماوي غير
الكرة الأرضية، ولكن إذا عرف أنَّ الله أخرجه من جدثه الى الأرض نفسها،
فالسؤال العريض الذي يقفز في ناظريه: هل هذه هي ذات الأرض التي عشت
فيها ردحاً من الزمن؟، وما هذه الأدوات والآلات العجيبة الغريبة
المتوزعة هنا وهناك؟، هل هي من صنع مخلوقات ذكية قادمة من بطن الكون
السحيق؟، أسئلة لا سقف لها ولا حد تتراقص في مخيلته، فكل جانب من هذه
الحياة يبهره ويهوي به إلى وادي التعجب.
بل إنَّ الواحد منّا اذا سافر إلى بلدان قريبة أو بعيدة يرى فيها من
العجائب ما تعقد لسانه وحاجبيه، مع أنه يعيش التطور الذي تشهده الحياة
في المجالات كافة، فما بالك بمن عاد من وراء القرون؟ فلا وجه للمقارنة
أبداً.
ومن الوسائل التي تطورت على مر العصور، ويلمسها الإنسان، هي الطاقة،
فالإنسان الأول كان يستخدم الحطب للتدفئة والطبخ، وظلت هذه الوسيلة
سارية حتى يومنا ولا يستطيع الإنسان عنها فكاكاً لأنها الأقرب الى
حياته المعاشية ومتوفرة في كل مكان، واستخدم الفحم الحجري والفحم
الخشبي، واستخدم القير والزفت، واستخدم النفط والغاز، واستخدم الماء
الثقيل، واليوم يستخدم الذرة لصناعة الطاقة، فبدأ مسلسل الطاقة من
الشيء الملموس الى الشيء الذي لا يُرى، والمسافة كبيرة، لا يعقلها حتى
إنسان اليوم فكيف بإنسان العهد الأول والعهد القديم والعهد الوسيط
والعهد القريب؟ ومرة أخرى: لا وجه للمقايسة أبداً.
والطاقة حالها حال الكثير من وسائل الحياة التي تخضع لموردي الخير
والشر، فالنار كطاقة تستخدم تارة للتدفئة والطبخ وعمل الطابوق وصهر
الحديد وأمثال ذلك، وتارة تستخدم لحرق المزارع وحرق البيوت وحرق
الإنسان، فالطاقة هي الطاقة ولكن الاستخدام ومكانه ودواعيه وآثاره
يكسبها الخيرية أو الشرّية، فتكون مفيدة مرة ومضرة ثانية، والذرّة على
ضآلتها فإنها طاقة جبارة لها أن تجعل مدينة كبيرة مثل نيويوك تعيش
النهار في الليل لضيائها، ولها أن تجعل مدينة كبيرة مثل هيروشيما
وناكازاكي في اليابان قاعاً صفصفاً لنارها، والقاسم المشترك في
الطاقتين هو الذرة.
ولكن كيف يتم التعامل مع الذرة بحيث لا يُساء استخدامها في الشرور
وتهديد الشعوب وابتزازها وسلبها السرور، وهل يملك الفقه الإسلامي الذي
جاء به محمد بن عبد الله(ص) ونشره انطلاقاً من جزيرة العرب قبل خمسة
عشر قرناً حلولاً في ترشيد استخدامات الذرة، وهل عرف انسان القرون
الماضية الذرة اصلاً؟
هذه الأسئلة وغيرها يستعرضها المحقق الفقيه آية الله الشيخ محمد
صادق الكرباسي في كتيب "شريعة الذرة" الصادر العام الجاري 2013م في
بيروت عن بيت العلم للنابهين في 56 صفحة حوت تمهيداً مع 75 مسألة
شرعية قدّم وعلّق عليها القاضي الفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري.
نعمة أم نقمة؟
اقترنت الذرة في ذهن الإنسان بالأسلحة الذرية والنووية، وما أنزلته
القوات الاميركية من دمار على المدن اليابانية في 6 و9 آب أغسطس 1945م
وتعرض مئات الآلاف الى الموت أو الإعاقة البدنية والنفسية وعموم
الإصابات الصحية التي انسحبت آثارها الى الأجيال وحتى يومنا هذا، فما
طبعته صور هيروشيما وناكازاكي ومفاعل تشيرنوبيل في أوكرانيا في الذاكرة
من مآس أحالت الذرة الى بعبع قاتم وخطر داهم، في حين أنها منبع الخير
إذا استخدمت في مسارها الصحيح، فالمشكلة ليست في الذرة وأمثالها وإنما
في الاستعمالات، فالحديد على سبيل المثال الذي جاء ذكره في القرآن
الكريم فيه بأس شديد (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ
وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) سورة الحديد: 25، يستخدم لبناء الجسور
والعمارات والطائرات، ويستخدم للتصنيع الحربي، وحتى الأسلحة فإنها
تستخدم مرة للدفاع ومرة للعدوان، فالمادة بشكل عام تدخل مدار الخير
والشر حسب ارادة الإنسان، وهكذا ينبغي النظر الى الذرة، وبتعبير الفقيه
الغديري معلّقاً: (والحق أنَّ الذرّة نعمة إلهية عظيمة ومنحة ربانية
كبيرة، ينبغي للخيّرين الإهتمام بكشف ما فيها من الفوائد والآثار
لإيصال سفينة حياة الإنسان إلى ساحل السعادة والنجاح والصلاح، والقيام
بما يهم البشر في الوصول إلى الهدف السامي لخلقته).
من هنا، فليس من السليم التخوف من الذرة، مادامت لها استخدامات
كثيرة ومتعددة تنفع الإنسان، وقد ورد ذكرها في القرآن الكريم من حيث
التعريف اللغوي لها في خمسة مواضع، منها قوله تعالى: (لا يعزبُ عنه
مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض) سورة سبأ: 3، بل على العكس، إن
التخوف من الاستخدامات السيئة يعزز الاتجاه نحو توفير الجهد في سبيل
الاستخدامات المفيدة لها، من هنا يرى الفقيه الكرباسي أنه: (يجوز
للمسلم وغيره أن يتعلّم العلوم المرتبطة بالذّرة شرط أن لا ينوي الفساد
أو الإفساد سواء للمجتمع أو البيئة أو غيرهما) إذ: (لا يجوز استخدام
الطاقة الذرية لأغراض فاسدة كسلاح فتّاك وسلاح دمارٍ شاملٍ بأي وجه كان
حتى وإنْ كان الطرف الآخر معادياً، حيث إنها من السلاح المفرط الذي لا
يجيزه الشرع بتاتاً)، وحسب تقدير الشيخ الغديري في تعليقه على المسألة:
(بل ولا يجوز التعاون وحماية الجهة المستخدمة لها في المحرّم، سواء
أكان من قبل شخص أو شركة أو حكومة أو جماعة، فحكمه حينئذ كالخمر بل أشدّ
منه، لأن الخمر يفسد الشخص، والطاقة الذرّية تفسد المجتمع أو البيئة
إذا استُخدمت في الإفساد والتخريب)، وهو امر يثبّته الفقيه الكرباسي في
مسألة أخرى إذ: (لا يجوز التعاون مع الذين يريدون استخدام الذرّة في
الوجهة غير الشرعية، فكل تعاون معهم مهما كان صغيراً أو بسيطاً أو
قليلاً فإنه حرام)
ولكن هل تقف الدولة مكتوفة الأيدي في مقابل دولة أخرى تهددها بأسلحة
ذرية أو نووية؟
هنا يرى الفقيه الكرباسي أنه: (يجوز للدولة الشرعية الاستفادة من
الطاقة الذرية في مسائل الحرب وصناعة الأسلحة العادية التي لا تُعد من
أسلحة الدمار، شأنها شأن باقي المصنوعات الحربية، ما لم تكن من النوع
الفتّاك)، من هنا: (إذا استخدمت إحدى الدول القنابل الذرية المدمّرة
فهذا لا يوجب استخدامها لضربهم بأمثالها إلا إذا وجد حاكم الشرع ضرورة
ذلك، مع مراعاة كامل الحيطة والإحتياط وبالمقدار الضروري)، ويزيد
الغديري أنه: (ويجب القيام لمنعها عن استخدام الذرّة بنحو ما أمكن)،
وكسلاح ردع، يقرر الكرباسي: (يجوز تهديد العدو باستخدام مثل هذه القوة
إن استخدمها هو لأنه سلاح رادع قد يُجنِّب الوطن والمواطن آثاره
المدمرة)، وإذا تنجّز التمكن من العدو الذي يتملك المفاعل النووي ذات
الاستخدامات العسكرية، فلا يبيح الظفر تدمير المفاعل لآثاره الخطيرة،
إذ: (لا يجوز تفجير المركز النووي حتى وإن كان في أرض العدو لأنَّ
آثاره تعمُّ وتشمل الناس والبيئة والحيوان وغيرها وعليهم أن يفكّكوه
بشكل سليم)، نعم: (إذا كان المركز النووي مُعدّاً للإستفادة المحرّمة
فقط ويمكن تخريبه بطريقة لا تؤثر على البيئة والناس، عندها يجوز تفجيره
شرط عدم إلحاق الأضرار على البشر والبيئة).
الحماية النووية
ورغم صغر الذرة وضآلة وزنها، فإنها في عالم الطاقة خطيرة للغاية،
ولأنها كذلك فإن العاملين في حقلها يختلفون عن غيرهم من حيث المرتب
الشهري والحماية الشخصية والعناية الذاتية، فهم معرّضون لأضرارها
الجانبية، كما أنهم محط أنظار الآخر المعادي حتى وإن كانت استخدامات
المفاعل النووي في المجالات السلمية، وفي منطقة الشرق الأوسط تظهر مثل
هذه الحساسية بخاصة وقد شهدنا على سبيل المثال قصف مفاعل تموز النووي
في بغداد في 7 حزيران يونيو 1981م من قبل الطائرات الإسرائيلية، أي في
الذكرى السنوية لنكسة حزيران عام 1967م، مستغلة انشغال نظام بغداد في
الحرب التي أشعلها مع إيران عام 1980م وانتهت عام 1988م، وجرت خلال هذه
الفترة وبعدها مقتل العديد من علماء الذرة في ظروف غامضة في العراق،
وجرى الأمر مثله مع علماء الذرة في إيران ومصر وباكستان وغيرها، فالقوى
التي تتمنى أن ترى البلدان العربية والإسلامية ضعيفة وأسيرة لغيرها من
مصلحتها أن تقضي على الرؤوس الذكية، لاسيما وأن الأبحاث النووية تتطلب
عقليات واعية وذهنيات متفتحة.
ولأن الأمر على جانب كبيرة من الأهمية والخطورة، من هنا يرى الفقيه
الكرباسي أنَّ: (التآمر على دولة شرعية وكشف عوراتها محرّم بما فيها
امتلاكها للطاقة النووية، وتشتد الحُرمة إنْ كان المتآمر قد تعاونَ مع
العدو)، ومن باب أولى: (لا يحق للعالم وكذا العامل في مثل هذه الحقول
الخطرة أن يتعامل مع أعداء الوطن بأي شكل من أشكال التعاون وهو من
المحرّمات الكبيرة، وما يحصل عليه من الأموال يُعد حراماً)، ولا يقتصر
العدو على الخارج كما في تعليق الفقيه الغديري: (من دون فرق بين أعداء
الداخل أو الخارج، سياسية واقتصادية، دينية وغير دينيّة)، ويقتضى الأمر
من أجل ديمومة عمل المنشئات الذرية والنووية المحافظة على حياة العلماء
والعاملين في هذا الحقل: (فعلى المسؤولين المحافظة على العلماء
المختصين في هذا المجال بل كل مَنْ هو في دائرة خطر الإغتيال أو
الإختطاف)، وهذا الحكم كما يعلق الشيخ الغديري: (يعم ويشمل جميع
الحالات سواء كانت حالة حرب أو غيرها، وفي حالة الحرب يكون أشد)، ولأن
حقل الذرة يمثل أسرار بلد وأمة وكيان ومدنية وحضارة فإنه: (لا يجوز
لعلماء الذرة بل وغيرهم أنْ يعرّضوا أنفسهم للمخاطر، ولا يكونوا سبباً
لتعريض الدولة الشرعية للمخاطر)، ويشدد الكرباسي أنه في حالة: (إذا
اختُطف العالم أو العامل في مثل هذه الحقول الخطيرة لا يحق له الإفصاح
عن أمور تتعلق بأمن الوطن)، ويضيف الغديري معلّقاً: (ولا يجوز له أنْ
يقي نفسه مقابل هلاك الآخرين).
إن موضوع الذرة والطاقة الذرية والمفاعلات النووية واستخداماتها في
السلم والحرب، في الخير والشر، من المواضيع الشائكة في عالم اليوم وله
تشعبات كثيرة على درجة كبيرة من الأهمية في حياة الإنسانية، ويكاد يكون
المحقق آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي حسب مطالعاتي أوّل الفقهاء
ممّن تناول المسألة من جانبها التشريعي بتفريعاتها المختلفة، فاتحاً
كوّة لفقهاء الشريعة للخوض في هذا الموضوع الحساس من أجل ترشيد
استعمالات الذرّة بما فيه خير البشرية وسلامة الكرة الأرضية.
* الرأي الآخر للدراسات- لندن
http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/nazeeralkhazraji.htm |