مواطن المعرفة... الجامعات في عصر عولمة مجتمع العلوم

 

شبكة النبأ: منذ الإصلاحات التي قام بها فيلهيلم فون هومبولت، أي منذ مطلع القرن التاسع عشر يغلب على التعليم الجامعي في ألمانيا في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية أسلوب المحاضرات التي تأخذ شكل حلقات البحث والنقاش، أي أن العملية التدريسية تقوم بشكل أساسي على الحوار المشترك بين الدارسين والمدرسين حول مشكلات محددة.

المحاضرة بصفتها شكل من أشكال التعليم وإيصال المعلومات، حيث يتحدث طرف، بينما يقوم الآخر بالإصغاء والكتابة تلعب في هذه الحال دورا جانبيا،  كان هومبولت يتطلع إلى أن تكون المدرسة مكان يخدم فيه المُدَرس التلاميذ،  أما الجامعة فيجب أن تكون مكانا يعمل فيه البروفيسور مع الطلبة في خدمة العلم.

كانت مثل الأفكار تعتبر ثورة حقيقية في ذلك الوقت، تمكنت الجامعات الألمانية بفضلها من اكتساب شهرة عالمية متميزة. ولكن، ما الذي بقي من كل هذا؟.

مع تبني نظام شهادات البكالوريوس والماجستير تغيرت الأمور قليلا،  حتى الوصول إلى البكالوريوس يكاد المشروع التعليمي ينحصر في جمع وحفظ المعلومات، وغالبا من خلال المحاضرات بشكلها التقليدي.

أما خلال مرحلة الماجستير (والدراسات العليا) فإن الغلبة تكون لأشكال حلقة البحث والمناقشات والحوارات العلمية. وبشكل إجمالي، فإن من نتيجة مشروع بولونيا الذي ينص على توحيد أنظمة الشهادات في أوروبا، كان انخفاض عدد الذين يقطعون الدراسة في ألمانيا، قبل انتهائها والوصول إلى التخرج. ثمن هذه النتيجة كان تقييد وتحديد ما اعتبره فون هومبولت من شروط العملية العلمية وهي مبادئ "التفرد والحرية". وهي مبادئ يمكن الآن تحقيقها فقط خلال مرحلة الماجستير. من يريد الدراسة في جامعة ألمانية، ويريد التعرف الحقيقي على أسلوب العمل التخصصي في قطاع العلوم الألماني، يمكنه معايشة هذه الأمور على أرض الواقع بعد انتهاء مرحلة البكالوريوس. ولكن أين هو المكان الصحيح لذلك؟.

يتميز عالم الجامعات الألماني بالتنوع والاختلاف الذي يشكل نقاط ضعف ونقاط قوة هذا العالم في ذات الوقت. أسباب هذا التناقض تكمن في البنية الفدرالية لقطاع العلوم في ألمانيا، إضافة إلى حقيقة أن تمويل الجامعات هو من مسؤولية الولايات الألمانية الستة عشر. ويصل الحد هنا إلى الحظر التام للمساهمة في التمويل، مما يقود إلى أن تكون الموارد التمويلية من الحكومة الاتحادية متاحة للجامعات، فقط من أجل تمويل برامج خاصة محددة مؤقتة. وبشكل أكثر دقة ووضوحا يمكن القول أن الجامعات في الولايات "الأغنى" تكون عادة أفضل من حيث التجهيزات والإمكانات من مثيلاتها في الولايات الأقل غنى. إلا أن نظام التراتبية في عالم الجامعات الألمانية أقل قوة وحِدَة منه في باقي البلدان الأوروبية، أي أن الفوارق تبقى ضئيلة نسبيا. ولم تغير مبادرة التميز التي تحصل بموجبها بعض الجامعات منذ عدة سنوات على مصادر تمويل إضافية أي شيء: فقد جعلت من عدد من الجامعات القوية أكثر قوة من ذي قبل، ولكن لا يمكن رغم ذلك أن يقول المرء أن الجامعات التي لم تحصل على صفة التميز قد أصبحت مواقع علمية من الدرجة الثانية. إنه في الواقع نظام تراتبي أفقي، هو ذلك الذي يتصف به عالم الجامعات الألماني.

رغم ذلك مازال يمكن ملاحظة تقسيم ثلاثي، تطور خلال القرن التاسع عشر: الجامعات التي يقول فيها المرء أنها "تمسك المدينة"، لأنها تحكم حياتها الاجتماعية. هنا تتجلى "حياة الطلبة" في أشد صورها، حيث أنها تطبع الحياة الاجتماعية في المدينة بطابعها. مدن مثل هايدلبيرغ وماربورغ وتوبينغن تعتبر أمثلة على هذا النوع من مدينة الطلبة الكلاسيكية. ثم هناك الجامعات الموجودة في المدن الكبيرة أو في عواصم الولايات، وهي تأخذ مظهر "الرؤية السياسية"، وهنا يكون عادة تطوير المناهج والتخصصات الدراسية أكثر تطورا وبروزا بالمقارنة مع غيرها من الجامعات. وفي الختام يوجد جامعات تعمل في الغالب مع معاهد ماكس-بلانك أو مع مراكز تابعة لمؤسسة لايبنيتس، وهي تضم بين صفوفها مجموعة من العلماء البارزين، وربما من حملة جائزة نوبل، ولهذا السبب فهي تتمتع بسمعة عالمية ممتازة. هنا تغلب صورة التميز العلمي على هذه الجامعات.

من أجل الحكم على شهرة ومكانة الموقع العلمي، من المهم دائما تحديد اتجاه الثقافة العلمية التي يتطلع إليها المرء: علوم الطبيعة أو المجتمع أو الثقافة. دون أدنى شك يلعب استخدام الوسائل المالية في دعم التميز العلمي في مجال العلوم الطبيعية والتطبيقية دورا رئيسيا، بينما ليس من النادر في مجال العلوم الثقافية أن يكفي بروز "رأس متميز واحد" ليمنح جامعة بأكملها سمعة متميزة وشهرة كبيرة. وبشكل مبسط يمكن القول: ما تعنيه فرق الباحثين بأكملها، بما في ذلك المختبرات والتجهيزات في مجال العلوم الطبيعية والتطبيقية، يعادل ما يعنيه أشخاص بمفردهم بما في ذلك بيئة مثقفة ملهمة والوقت اللازم لكتابة الكتب في مجال العلوم الثقافية. العلوم الاجتماعية تتحرك في مكان ما بين هذين الاتجاهين. تتجلى مبادرات التميز في الواقع فيما يتعلق "بالفرق" العلمية، بينما من النادر أن تتم إثارة "الرؤوس" من خلال هذه المبادرات. الدوامات التي أثارها السباق نحو التميز غالبا ما كانت مزعجة بالنسبة لهذه الرؤوس، أكثر من كونها مشجعة لها. وعندما يتأثر مستوى أدائها، فإن ذلك غالبا ما يكون بسبب سير العمل التعليمي أكثر منه بسبب نقص الموارد المالية. إلا أنه رغم ذلك فقد تم تحقيق الكثير من التقدم في هذا المجال. بحسب www.deutschland.de.

ولكن ماذا عن التصنيفات العالمية التي لا تحتل أي من الجامعات الألمانية مكانة متقدمة فيها؟ أخيرا وليس آخرا كانت هذه التصنيفات هي التي أثارت الجهود وقادتها نحو إطلاق مبادرة التميز: كانت الفكرة خلف هذه المبادرة هي أن بلدا مثل ألمانيا، لابد أن يتمتع أيضا في المجال العلمي بمكانة عالمية متقدمة. ولكن لو كان الأمر يدور بالفعل فقط حول مسألة الموقع في التصنيفات، لكان من المجدي أن يتم "شراء" بعض حملة جائزة نوبل لفترة قصيرة بالكثير من المال، والاستفادة منهم في التقدم على لوائح التصنيف، كما فعلت بعض الدول الأخرى، أو دفع الكثير من المال للقائمين على وضع اللوائح لكي يراعوا الجامعات الألمانية ويهتموا بها أكثر. إن عدم اتخاذ السياسة مثل هذه الإجراءات – ولو كان ذلك يعود إلى عدم فهم أو جهل طرق وأسس القياس والمقارنة المتبعة – قاد إلى الكثير من الفوائد لقطاع العلوم: المزيد من المحتوى، القليل من الشكليات! من يريد أن يضع تصورا واقعيا للجامعات الألمانية، يتوجب عليه أن يأخذ بالحسبان العلماء والأساتذة الذي درسوا في ألمانيا ويعملون الآن في خيرة الجامعات والمؤسسات العالمية: أيضا في مواطن المعرفة تعتبر ألمانيا بلدا مصدرا يتمتع بالكثير من الديناميكية.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 22/تشرين الاول/2013 - 17/ذو الحجة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م