انا خائف... اذا انا موجود

انا اكذب... اذا انا اتجمل

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: مقولة الوجود الديكارتية، شك يتأسس عليه الوجود الانساني.. وهو وجود مدرك ومدرك (بكسر وفتح الراء على التوالي).. كسر اليقينيات الجاهزة، وفتح افاق جديدة ليقينيات قد تكون نفسها في المحصلة النهائية، لكنه فضل الريادة والاكتشاف.

ابراهيم في شكوكه الكبرى عبّد لنا طريق اليقين المطلق، اليقين التوحيدي الكبير.. ومنه ابوته لتلك التوحيديات الثلاثة. قاده الشك الى السؤال، وكان سؤاله حرجا محرجا، لكنه شجاع في الوقت نفسه.. اليس السؤال شجاعة؟ انه التحدي المطلق امام الخوف المطلق..

كان السؤال، واجابته التي يستبطنها، معول هدم وتكسير لاصنام الخوف واليقينيات الكبرى، لامة إنّتا وجدنا اباؤنا على ملة..

التحدي الابراهيمي، امتلك الصدق في زمن الاكاذيب، وهو زمن بنته المخاوف الانسانية الحقيقية منها والمتوهمة.. اليس هو من تحدى خوفه على الولد وشهر سكينه امام تضحية الاستجابة للطلب الالهي؟

كل اكذوبة كبرى هي نتاج خوف كبير. والخوف الكبير يرافقه خيال اكبر منه. من هنا اجتراح المعجزات في الميثولوجيات والاساطير التي وصلت الينا، او التي ننسجها في حياتنا الحاضرة..جلجامش في اسطورته خاف من الموت، فاسس رحلة البحث عن عشبة الخلود.. لم يجد العشبة، ولم يكتشف السر، وفي النهاية واجه مخاوفه وانتهى مثل صديقه انكيدو.. وبفضل هذا الخوف وصلت تلك الاسطورة..

الخيال وليد الخوف، والحلم يلده الامن والطمأنينة.. الخيال جامح بطبعه، فوضوي غير مرتب.. الحلم فيه مسحة من الرقة واللطافة، انه شحنة من الامل..

كيف كنت تسيطر على ضحاياك الاكبر حجما منك؟

كنت امنحهم الامل.. من حوار مع قاتل

على حافة الموت كان ينزرع الامل..لكنه امل ممزوج بالخوف، وعند هذه اللحظة الجميع يبكي ويتوسل، حتى الملحدون منهم، كانوا يصلون لرب كانوا ملحدين به قبل لحظة الشروع بالامل.في اي درجة كانوا صادقين، في درجة الاطمئنان الزائف الذي غلف حياتهم، ام عند حافة حافة الخوف من لحظة اتية لاعودة منها الى سابقتها؟ ما فائدة الصدق في لحظة عابرة الى زوال؟

هل تذكرون لحظة اخرى مستمرة في حياتنا وقراءاتنا، انها اللحظة العلوية، جدير بالصلاة هو المعبود، لاخوفا ولاطمعا..

لماذا يكذب الانسان؟

خوفان لذلك: الخوف من الاعتراف والخوف من العقاب..

الاعتراف فضيلة، لكنها فضيلة مسكوت عنها، لانتحدث عنها الا بمقدار ان تكون حاجبة لاكاذيبنا، من منا لايكذب، او لو تلطفنا في السؤال، من منا يعترف؟

لا احد يطيق اعترافا على نفسه.. انه في داخلها صدى ورجعه، لكنه لايتردد ابعد من ذلك، نحن نكبت صرخات اعترافاتنا، وحين نخرجها بعد صراع ننكسر فيه دوما، نكون في مقام التجمّل.. اقول لنفسي: أنا لا أكذب ولكني أتجمل، العنوان حملته قصة لاحسان عبد القدوس، واصبحت عنوانا لفيلم تلفزيوني،لأحمد زكي وآثار الحكيم..

الجميع يتجمل، الاطفال والرجال والنساء.

قد نبرر التجمّل للطفل، صانع الاساطير والمبالغات، على افتراض انها مصدر لسعادتنا، مابال الرجال والنساء يتجملون، هل لان ذلك مصدر سعادة دائمة ومستمرة؟

الكذب لايكشف حقيقتنا، والحقيقة التي نستعرضها امام الاخرين هي حقيقة زائفة، تسقط اصباغ تجميلها في لحظة انسانية نادرا مانستفيق عليها..فقط في لحظة الموت، (موت معنوي)  اليس الناس اموات اكاذيبهم، وعند (الموت – الصدق ) ينتبهون؟ ولاتتحق الانتباهة الا عند الوعي بالشيء..

في مجتمعاتنا، رفيقا درب يلازمان مسيرتنا منذ لحظة الولادة وحتى لحظة الموت، انهما الخوف والكذب، وكل واحد منهما هو نتاج الاخر.. الخوف من كل شيء، والكذب على كل شيء..

السياسة في مجتمعاتنا، اطواق من الخوف، كلمات – ايماءات – اشارات – قرارات (الامير – الزعيم – القائد – الحاكم)، كل طوق منها يولد الخوف، وكل عبور او نفاذ من هذا الطوق يولد الاكاذيب.. وهي اطواق نجاتنا.. اذا نجونا فاننا نستمر في العيش وفي الحياة..

الحلقة مفرغة، نحن لانكسر تلك الاطواق بشجاعة الاعتراف وصدقه، بل نؤسس لاطواق جديدة، لانستطيع كسرها، لاننا نتجمل بها، وتصبح هي كل وجودنا..

من هنا هذا الاستبداد والطغيان الذي لم يفارق سياستنا وساستنا، ففيهما الخائف والمخيف..

خوفنا معادل موضوعي لوجودنا، والخوف لايجعلنا ندرك تفاهة هذا الوجود الزائف، نكذب على انفسنا ونتجمل من خلال اكاذيبنا، ف ((الامير – الزعيم – القائد – الحاكم) واحد منا، وهو مثلنا خائف ومخيف، ويكذب علينا، ونصدق اكاذيبه ونصفق لها، فهو ايضا يتجمل..

انا خائف، اذا انا موجود... انا اكذب لكي اتجمل.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 19/تشرين الاول/2013 - 14/ذو الحجة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م