الرضا النفسي..

حجر الزاوية في الصحة والاضطراب النفسي

د. اسعد الامارة

 

الرضا النفسي يؤدي إلى الراحة والإتزان الإنفعالي حتماً وإلى تحقيق أهداف الحياة والطموح ويكون الفرد منسجماً مع نفسه، وينعكس هذا الإنسجام مع البيئة الخارجية وعلى الأخرين المحيطين به، فيشعر بلقاء الاخرين بسعادة لا توصف وقد يجد صدى هذا الإتزان بالتفاعل السوي مع الناس الذين يلتقيهم، حتى قال علماء الصحة النفسية أن من علائم الصحة النفسية هو أقل ما يمكن في الشخصية من اختلالات يجد صداه في الأخرين، فالصورة الاجتماعية هي التي تعكس صورة الفرد الخارجية. رغم ان هناك صورة أخرى له يحتفظ بها في داخله، يدرك ذاته كما هي من الداخل. ويقول"د.احمد عكاشه" قد ينظر المجتمع إلى إنسان ما على أنه عبقري وذكي وناجح وله الصفات الحميدة ولكن بينه وبين نفسه يعرف الحقيقة وهي قد تختلف عن رأي الناس.. الشعور الداخلي بالدونية، الشعور بالتعالي، الشعور بأنه ليس كما يتصور الاخرين..إلخ من تصورات تحملها ثنايا نفسه.

من هنا نذهب إلى الجانب الآخر من الرضا!! كيف يكون نقيض الاول وهو عدم الرضا عن النفس؟ كيف تكون؟

ربما يشعر الفرد بالخوف والقلق دائماً ولكن يخفي هذه المشاعر، قد يشعر بأن الأخرين يحاولون إيذاءه ويضمرون له السوء ولكن يخفي تلك المشاعر ويسيطر على مشاعره تماماً، نحن نبحث عن التوافق مع البيئة ومع الأخرين لكي ننعم بشيء من السعادة ولكن الهفوات التي تصدر منا لاشعوريا هي التي تقود الناس لتشخيصنا، لا في مواقف الهدوء والراحة، بل في لحظات الإنفعال والمواقف الصعبة والازمات، هنا تتفتت الشخصية وتتحلل وتبدو على حقيقتها فالشخصية الهستيرية الاستعراضية تظهر واضحة وجلية.. والحقيقة أن الشخصية الهستيرية ليست مرضاً بحد ذاته، وانما نمط من انماط الشخصية تتميز بالتقلب المستمر بالمزاج والعواطف مع حدوث تغيير سريع بالوجدان.. (الوجدان هو الحب والكراهية) ويحدث لاتفه الاسباب التي لا تستحق أن يزعل أو يختلف الشخص من أجلها، وهي تشمل هذه الحالة –الشخصية، الذكور والاناث على حد السواء وان زادت لدى النساء أكثر من الرجال.

نجد عدم الاتزان النفسي والإنفعالي عند النساء وعدم الرضا من خلال سلوكها السريع وقراراتها غير الموزونة.. إنها الفتاة التي تثور من أجل حبها.. وتهجر عائلتها وبيتها لتتزوج من حبيبها، ولكن بعد فترة قصيرة تبدأ عاطفتها في الفتور والانطفاء وتبحث عن عاطفة أخرى بديله، ومن المحتمل أن تقيم علاقات وهي متزوجة ولكن لا تمارس هذه العلاقات بصدق وانما للاستعراض والتباهي، وفي داخلها برود جنسي لا مع زوجها فحسب بل مع من توهمه بأنها تحبه وتعشقه ومستعدة للموت من أجله.. انها الشخصية الهستيرية. ومن ملامح هذه تذبذبها السريع وعجزها عن إقامة علاقة ثابتة لمدة طويلة لعدم القدرة على الاستمرار والمثابرة ونفاذ الصبر سريعاً ويصفها "د. احمد عكاشة" هي تماماً مثل القرص الفوار.. سرعان ما تفور ولكن بعد فترة وجيزة تهدأ.. هذه الشخصية سريعة التأثر بالاحداث اليومية والاخبار المثيرة.. كيف يكون الرضا النفسي إذن؟؟!!

 إن عدم الرضا يؤدي إلى التدهور النفسي والاختلال المرضي فكل الاضطرابات النفسية تبدأ من عدم الرضا النفسي، وكل التدهور تكون بداياته هي نقطة عدم التفاهم داخل النفس، فالنفس تضرب نفسها حتى يكون الإغتراب داخل النفس، يعيش الإنسان بين أهله ويشعر بالإغتراب، يدرك إنه لا ينتمي لهم لا في السلوك ولا في العلاقات ولا في التفاهم.. حتى يبدو غريباً عنهم، فيميل للعزلة وينتابه القلق الدائم مع رؤية سوداوية للاشياء والأمكنة والاشخاص، ويرى في أقرب الناس له بأنهم ليس كما هو.. يشك فيهم، تزداد الوساوس تجاه المقربين، تكون علاقته بزوجته مضطربة، لا تستقيم حياته معها بسبب خيالاته المرضية، ليس تجاهها فحسب، بل تجاه من يعرفهم جميعاً، ترتد افكاره نحو داخله فتبدأ مشاكله الجسدية تتضخم ومنها اعراض القولون العصبي، حيث اثبتت التجارب أن سببه الرئيس هو الإنفعالات الداخلية التي لم تجد منصرفاً له، أو المعدة وتقرحاتها بسبب شدة الافكار السوداوية، أو ربما تبدأ مشكلاته من ارتفاع ضغط الدم أو مع مرض السكر أو النوبات القلبية..الخ، انه لم يتصالح مع نفسه، اصبحت نفسه واقرب الناس له وهي زوجته واهله من الد اعداءه.. تفترسه آهاته الداخلية غير المعلنة فيطلب الدواء من الداء، فيرغب أن يعالج الداء بدواء المرض فيطلب العلاج من الإكتئاب أو الفصام أو البرانويا فتكون الهذاءات والهلاوس هي التي تريحه وهو يتحدث مع نفسه، بعد أن قطع صلته بالواقع والمحيطين به من اسرته والآخرين من افراد المجتمع ولجأ إلى الحوار مع نفسه ولكن هذه المرة بصوت مسموع، ويكون قد أطلق لحيته وترك نفسه وملابسه ملوثة وهو يمشي بلا وعي وقد فقد القدرة على ادراك الواقع المعاش واختار لنفسه واقعاً بناه لنفسه وهو واقع المرض العقلي "الذهاني".

 لم تكن حالة الرضا النفسي مجرد حالة تعبر بالكلمات، وإنما هو واقع حقيقي يعيشه الإنسان ويخطط له ويواجه مصاعب الحياة وأزماته وصراعاته بكل قوة وما اتيح له من مواجهة وإلا فشل واصبح نهباُ للصراعات الداخلية التي تؤدي به إلى الاضطرابات النفسية والعقلية.

إن الشعور بعدم الرضا النفسي يقود إلى اليأس، وهذا اليأس يقود إلى الانتحار فقد اثبتت الدراسات النفسية المتخصصة أن سبب الإنتحار هو الشعور العميق باليأس وان اليأس هو المكون الاساس والعرض الجوهري في الاكتئاب. ومن ادبيات علم النفس واسسه ان الاتجاه السلبي نحو الذات هو عدم رضا النفس عن نفسها ويقود ذلك إلى اتجاه سلبي نحو الحاضر وهو بنفس الوقت إتجاه سلبي نحو المستقبل، فلا الحاضر يسعفني ولا ذاتي تعينني، وكونت في نفسي شعوراً بالعجز الذي يجعلني غير جدير بالحياة، ويدور في بالي دائماً انني أشعر باليأس، أشعر أن لا قيمة لي في الحياة.. وهكذا تحول الرضا إلى صراع في ذاتي وهو الذي سيقودني إلى متاهات في نفسي وهي الخوف من الحاضر ومن المستقبل.

* استاذ جامعي وباحث نفسي

elemara_32@hotmail.com

http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/Asaadalamiri.htm

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 19/تشرين الاول/2013 - 14/ذو الحجة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م