حرية التعبير بين الحق الشخصي ومنظومة القيم الدينية والاجتماعية

اعداد: حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: الحق في التعبير ام الحق في الشتيمة والاساءة والتشهير؟

الاول يشير الى ما كفلته القوانين والتشريعات الدولية المتعلقة بحقوق الانسان، والصادرة عن المنظمات المعنية بهذا المجال، وهو ايضا مكفول في الكثير من دساتير الدول بين ما هو كفالة حقيقية نافذة وفاعلة وبين ما هو فقرة قانونية نغيب كثيرا عند التعاملات اليومية..

اما الثاني فيشير الى الاختلاط الحاصل لهذا المفهوم في اذهان الكثير عند ممارستهم لهذا الحق، ويعتبرون ذلك جزءا من الحرية في التعبير المكفولة دوليا وقانونيا..

كتأريخ لهذا المفهوم فهو قد وجد في بريطانيا في القرون الوسطى بصدور قانون ما عرف بـ (حرية الكلام في البرلمان) والذي اصدره البرلمان البريطاني وقتها.. وهو هنا حق من حقوق السياسيين الذين يمثلون افراد المجتمع.

التطور في المفهوم حصل على يد الفيلسوف (جون ستيوارت ميل) والذي اتجه الى نواح اخرى اصبح المفهوم يتمدد ويتوسع من خلالها.. وقد وضع هذا الفيلسوف حدا واحدا لهذا المفهوم وهو ما اطلق عليه (الحاق الضر) بشخص اخر.

حرية الكلام، التي بدأت بطابع سياسي، تطورت في الغرب الى (حرية التعبير)، واصبحت اوسع من السابق لأن أشكال التعبير عن المعلومات والآراء تتعدد فتشمل الكلام وغيره من الرموز كالرسوم والموسيقى.

تختلف ثقافات الشعوب وقيمها في ما يتعلق بالكثير من الحقوق والواجبات، وتختلف ايضا في العديد من الاحكام تجاه الكثير من القضايا.. هذه الاختلافات تتوزع على ما هو ديني وما هو ثقافي وما هو سياسي، وما يندرج تحتها من عناوين كثيرة ومشعبة.

وكثيرا ما لامست حرية التعبير هذه المساحات، مثيرة الكثير من اللغط حولها، اي حول الحق في التعبير وحدود ذلك.

الإعلان العالمي لحقوق الانسان ورغم تاكيده على الحريات، الا انه قد وضع ضوابط لهذه الحريات.. ولم يقيدها بحريات الآخرين فقط، ولكنه قيدها كذلك بالنظام العام والمصلحة العامة والأخلاق، وذلك حيث ذكر بالمادة (29) البند (2) (يخضع الفرد فى ممارسة حقوقه وحرياته لتلك القيود التى يقررها القانون فقط، لضمان الاعتراف بحقوق الغير وحرياته واحترامها ولتحقيق المقتضيات العادلة للنظام العام والمصلحة العامة والأخلاق فى مجتمع ديمقراطى".

الاتفاقية الدولية للحقوق السياسية والمدنية فقد أشارت في الفقرة الثالثة من المادة 19 إلى أنه تربط ممارسة الحقوق المنصوص عليها في الفقرة 2 من المادة بواجبات ومسؤوليات خاصة وعلى ذلك فإنها قد تخضع لقيود معينة، وذلك بالاستناد إلى نصوص القانون التي تكون ضرورية، وذلك:-

أ- من أجل احترام سمعة الآخرين.

ب- من أجل حماية الأمن الوطني أو النظام العام أو الصحة العامة أو الأخلاق.

وبالرجوع إلى نص الفقرة الثانية نلاحظ أنها تتعلق بحرية التعبير، أي أن هذه المادة قد فرقت بين حرية الرأي وحرية التعبير عنها واعتبرت الأولى شيئا خاصا وفرديا للإنسان مادام كان في حدود اعتقاده ومحيطه الشخصي لذلك أطلقت العنان لها، أما إذا أراد الإنسان التعبير فقد أحاطت ذلك بمجموعة من الضوابط.

ويعزى موقف الاتفاقية ذلك إلى عدد من الأسباب:-

1- اختلاف المجتمعات البشرية المطلوب انضمام دولها إلى الاتفاقية والالتزام بها من حيث الموروث الديني والثقافي والعادات والتقاليد التي تستلزم أن يكون التعبير بصورة لا تتنافى مع القيم والعادات حسبما يمليه موروثها الثقافي والديني.

2- لكي لا تستغل حرية التعبير بوسائل الكتابة أو التصوير أو الأعمال الفنية بما يؤدي إلى زعزعة المجتمع الداخلي للدولة من حيث الأمن العام أو الصحة العامة أو الأخلاق أو النظام العام بها، وبالتالي سيؤدي تخوف بعض الحكومات من ذلك إلى الإحجام عن الانضمام إلى الاتفاقية والالتزام بأحكامها أو قد يؤدي على الأقل إلى تحفظها على النصوص التي تكفل هذه الحرية.

3- كذلك لكي لا تتعدى حرية التعبير ذاتها في الممارسة إلى الاعتداء على حقوق الإنسان الأخرى كحق الآخرين في حماية حياتهم الخاصة وسمعتهم.

لا يقتصر الخلاف والجدل حول الحق في حرية التعبير على الدول التي لا تتمتع به قليلا او كثيرا، فالكثير من الدول الاوربية تشهد جدالا من هذا النوع، وقد تتشابه المنطلقات نفسها مع الكثير من منطلقات في الدول المحرومة من هذا الحق..

المؤيدون لحق التعبير بالمطلق، يعتبرون حرية التعبير مبدأ أكثر قداسة من المقدّس نفسه، وأسّا لا تقوم الديمقراطية من دونه.

المعترضون يرون أن المسألة ليست مطلقة إلى هذا الحدّ، لأنهم في الأصل مع حرية التعبير، ولكنها حرية مسؤولة غايتها تقديم ما يخدم الصالح العام اجتماعيا أو سياسيا أو فنيا، وليس خلق الفوضى لغايات تجارية أو سياسية.

في هذا الصدد يمكن الاشارة الى مثل من تجربة حدثت في فرنسا، وهو مقال نشرته صحيفة (لوكانار أنشيني) أشهر صحيفة ساخرة في فرنسا. وجه فيه كاتبه نقدا لاذعا لزملائه في جريدة (شارلي هبدو) لأنهم سوّوا في رأيه بين السلفيين والسواد الأعظم من المسلمين الذين لا يشاطرونهم غلوّهم وتطرفهم، واتهمهم بالاستهتار بأرواح البشر، خصوصا بعد الأحداث العنيفة التي شهدتها ليبيا وتونس ومصر، خلص فيه إلى أن (المسؤولية ليست حدا قد يفرضه القانون على حرية التعبير، وإنما هي حدّ يفرضه كل واحد على نفسه، بكل حرية).

وكان هذا الجدل قد اعقب نشر الرسوم المسيئة للنبي محمد (صلى الله عليه واله وسلم) في الدنمارك واعادة نشرها في فرنسا.

وفي هذا الصدد تتساءل الفيلسوفة الفرنسية شنطال دلصول: (كيف نفسر للسلفيين أنهم ملزَمون، باسم الديمقراطية، بقبول خطاب يسيء إلى نبيّهم، فيما خطابات مسيئة أخرى تعتبر جرائم رأي ؟) ففي فرنسا، ليس كل خطاب يُتداول حرّا بالضرورة، بل إن القانون الفرنسي يعاقب كل خطاب ممنوع، وهي من الكثرة بمكان، كالعنصرية، ومعاداة السامية، وإنكار محرقة اليهود أو إبادة الأرمن، وانتقاد الشذوذ الجنسي.

ولا يقتصر الامر على فرنسا وحدها بل يشمل كذلك بلدانا اوربية اخرى. مثال ذلك:

ألمانيا: في القانون الأساسي الألماني ينص البند الخامس على حق حرية الرأي والتعبير، ولكنه يرسم حدوداً مماثلة للقانون الفرنسي تمنع خطابات الكراهية ضد العرق والدين والميول الجنسية إضافة إلى منع استعمال الرموز النازية مثل الصليب المعقوف.

بولندا: لحد هذا اليوم يعتبر الإساءة إلى الكنيسة الكاثوليكية ورئيس الدولة جريمة يعاقب عليها القانون.

كندا: يمنع القانون الكندي خطابات وأفكار الكراهية ضد أي مجموعة دينية أو عرقية وتمنع الأفكار أو الكلام أو الصور التي تعتبر مسيئة أخلاقيا من الناحية الجنسية حسب القوانين الكندية وفي 29 ابريل 2004 وافق البرلمان على قانون يمنع الإساءة لشخص بسبب ميوله الجنسية.

الولايات المتحدة: في الولايات المتحدة وضعت المحكمة العليا مقياسا لما يكن اعتباره إساءة أو خرق لحدود حرية التعبير ويسمى باختبار ميلر Miller test وبدأ العمل به في عام 1973 ويعتمد المقياس على 3 مبادئ رئيسية وهي : عما إذا كان غالبية الأشخاص في المجتمع يرون طريقة التعبير مقبولة وعما إذا كان طريقة إبداء الرأي يعارض القوانين الجنائية للولاية وعما إذا كانت طريقة عرض الرأي يتحلى بصفات فنية أو أدبية جادة.

بلجيكا: منعت السلطات المحلية لمدينة Middelkerke في 6 فبراير 2006 الفنان ديفد سيرني David Cerny من عرض تمثال للرئيس العراقي السابق صدام حسين في أحد المعارض الفنية. ويظهر التمثال صدام حسين على هيئة سمكة قرش ويده مكبلةٌ بالأغلال من الخلف في حوض من الفورمالين. واعتبرت السلطات هذا العمل الفني مثيرا للجدل وقد يسبب احتجاجات من الأطراف المؤيدة للرئيس العراقي السابق.

يقول توكفيل: (إذا كان القانون يسمح للمواطن أن يفعل كل شيء، فلتمنعه الأخلاق على الأقل من التجاسر على كل شيء). فالديمقراطية في رأيه لا يمكن أن تنتشر بحق إلا في المجتمعات المتحضرة، على نحو يغدو فيه احترام المعتقدات والآراء مراسا وعادة وليس فرضا بقوة القانون. وبذا تكون حرية التعبير التي هي سمة أساس من سمات الدول الديمقراطية مقيّدة بوازع أخلاقي أهمّ من القانون، وبشعور بالمسؤولية وإن لم يرد ذكره في أحكام الدستور.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 14/تشرين الاول/2013 - 8/ذو الحجة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م