اليابانيون بشر مثلنا لا يختلفون عنا في شيء من هذه الناحية. أما
اليابان كأرض فإنها تفتقر للموارد الطبيعية من نفط وثروات معدنية
وأمثالها مما حبا الله به الأرض العربية الغنية حدَّ التخمة بثرواتها
وكنوزها الثمينة، ويكفيها في ذلك النفط والغاز.
وفوق ما تعانيه اليابان من نقص في الموارد الطبيعية، فإنه وطن ينام
ويصحو على قلق دائم، ليس بسبب «كأن الريح تحتي» كما يقول عمنا المتنبي،
بل لأنه على صفيحة بركانية نشطة. ففي اليابان يوجد 86 بركانا نشطا، وهو
على موعد دائم مع الزلازل التي كان آخرها وأعنفها ما أطلق عليه «زلزال
شرق اليابان العظيم» عام 2011 والذي بلغت شدته تسع درجات تقريبا على
مقياس ريختر، وأدى إلى أسوأ كارثة بشرية منذ الحرب العالمية الثانية،
وتسببت الأمواج العاتية الناتجة عنه في انصهار ثلاثة مفاعلات نووية في
أسوأ حادث نووي في العالم منذ كارثة تشرنوبيل عام 1986.
واليابان أيضا بلد ذو إرث ثقيل من الحروب والصراعات الداخلية
والخارجية مع الجيران؛ مع روسيا والصين وكوريا. ووضعت الحرب العالمية
الثانية أوزارها عام 1945 بعد أن تلقت اليابان أسوأ الهزائم وأمرها،
فاستسلمت إثر إلقاء القنبلتين النوويتين الأمريكيتين عليها.
ومع كل هذا استطاعت اليابان في فترة قياسية أن تعود لذاتها، وأن تقف
مع نفسها وقفة صادقة، لتبدأ عهدا جديدا ذا سمات مختلفة عن الماضي،
ولتشق طريقها بسرعة هائلة نحو التقدم ومنافسة الدول الصناعية الكبرى.
البداية كانت من الدستور الجديد الذي غير صفة الإمبراطور من «إله
للشعب الياباني» كما في الدستور القديم إلى «رمز الدولة ووحدة شعبها».
فلم يعد يتمتع بأي سلطة، بل له مهام احتفالية فقط مثل تسمية رئيس
الوزراء بعد انتخابه من قبل البرلمان، حتى أن العائلة الإمبراطورية لا
تتمتع بحق الانتخاب.
وتضمن الدستور الجديد مبادئ أساسية مثل الحكم النيابي وضمان حقوق
المواطنين، حيث يضمن الدستور الياباني للمواطنين جميع حقوقهم المدنية،
مثل «حق الحرية، المساواة، حق الانتخاب، حرية التجمع والتعبير والتفكير
والكلام والاعتقاد، حق العمل، حق التملك، حق المحاكمات العادلة، حق
مقاضاة الدولة، وغير ذلك»، ويتم اعتبار كل مواطن فردا مستقلا بذاته.
وشكلت المادة التاسعة منه تغييرا جوهريا في السياسة اليابانية إذ نصت
على التطلع بصدق إلى سلام عالمي قائم على العدل والنظام، وأن الشعب
الياباني وبالحق السيادي للأمة ينبذ وللأبد الحرب والتهديد باستخدام
القوة أو استخدامها كوسيلة لتسوية النزاعات الدولية.
لقد قررت اليابان أن تتخلى عن تاريخها العسكري وأن تتبنى منظومة
جديدة من القيم العملية، وأن تنتقل من بارادايم paradigm إلى آخر، مما
مكنها من مواجهة أخطائها بشجاعة بالغة وعزم أكيد على تجاوزها، لصنع
المستقبل المختلف.
في كتابه الجميل الممتع «العرب وجهة نظر يابانية» يقول الياباني
نوبو أكي نوتوهارا: «كثيراً ما واجهت هذا السؤال في البلدان العربية:
لقد ضربتكم الولايات المتحدة الأمريكية بالقنابل الذرية فلماذا
تتعاملون معها؟. العرب عموما ينتظرون من اليابانيين عداء عميقاً
للولايات المتحدة الأمريكية لأنها دمرت المدن اليابانية كافة. ولكن طرح
هذه المسألة على هذا النحو لا يؤدي إلى شيء. علينا نحن اليابانيين أن
نعي أخطاءنا في الحرب العالمية الثانية أولا ثم أن نصحح هذه الأخطاء
لأننا استعمرنا شعوبا آسيوية كثيرة ثانياً. وأخيراً علينا أن نتخلص من
الأسباب التي أدت إلى القمع في اليابان وخارجها. إذن المشكلة ليست في
أن نكره أمريكا أم لا. المشكلة في أن نعرف دورنا بصورة صحيحة ثم أن
نمارس نقداً ذاتياً بلا مجاملة لأنفسنا بعدئذ نختار الطريق الذي يصحح
الانحراف ويمنع تكراره في المستقبل. أما المشاعر وحدها فإنها مسألة
شخصية محدودة لا تصنع مستقبلاً. من هذا الموقع نفهم مأساة هيروشيما
وناغاساكي، ونفهم علاقتنا مع العالم».
استثمروا في الإنسان تتقدموا
الاستثمار في الإنسان هو الركيزة الأساس في البناء الاقتصادي
والاجتماعي في اليابان منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهو سر نجاح
اليابان في الوصول إلى مصاف الدول الصناعية الكبرى. لم ينتظر
اليابانيون أن تمطر السماء عليهم ذهبا، أو تخرج الأرض لهم نفطا أو
معادن نفيسة، فهم يعرفون أرضهم وسماءهم جيدا. ولكنهم يدركون أيضا أن
لديهم ما هو أغلى من كل ذلك، وهو الإنسان الذي يحقق الاستثمار فيه أعلى
العائدات. فاختصر اليابانيون الطريق وركزوا على الإنسان وتعليمه
وتدريبه ليكون الفرد الياباني منجم ذهب متنقل من خلال إنتاجه النوعي
الوفير.
من التعليم بدأ اليابانيون قصة نجاحهم، إذ أصبح الأولوية الأولى في
البلاد، وتم تحديد الأهداف الكبرى للعملية التعليمية وتتلخص في إثراء
العقل، وتوسيع نطاق الاستقلالية لدى الطالب، وتنمية مشاعر احترام
الحياة البشرية وكرامة الإنسان، وتنمية روح المشاركة مع المجموعة،
والاعتراف بمزايا الآخرين ونكران الذات. كما تم وضع الخطط العملية
لترجمة تلك الأهداف على أرض الواقع. فاليابانيون لا يضعون خططهم في
الأدراج انتظارا لعفريت مصباح علاء الدين أن يحققها لهم. ولذا استطاعوا
في سنوات قليلة أن يصنعوا معجزتهم بأيديهم، وأن يجعلوا اليابان في
المرتبة العالمية الثالثة اقتصاديا بعد الولايات المتحدة والصين،
متفوقة على الدول الأوروبية. في العام 1995 صادقت اليابان على قانون
العلم والتكنولوجيا كعمود فقري لسياساتها الهادفة إلى أن تكون اليابان
في الكوكبة الأولى لسباق التفوق العلمي في القرن الحادي والعشرين. وفي
نهاية 2008 احتلت تويوتا اليابانية المرتبة الأولى عالميا في سوق
السيارات متفوقة على شركة جنرال موتورز الأمريكية. وتقول الأرقام إن
اليابان دخلت القرن الحادي والعشرين بجيش من العلماء قوامه 73000 باحث
علمي في حقول التطوير ومشاريع المستقبل، وأنها ترصد واحدة من أعلى
الميزانيات للبحث العلمي بواقع 3، 6% من الناتج الداخلي الخام متقدمة
على الولايات المتحدة.
التعليم في اليابان لا يقوم كما هو الحال في كثير من دول العالم
الثالث على التلقين والحفظ، وعلى علاقة مضطربة مع المحيط الخارجي، وعلى
عداوة مستحكمة بين الطالب والكتاب والمدرسة وربما المعلم أيضا. المدرسة
في اليابان معمل كبير يكتسب فيه الفرد القيم الحياتية الجميلة بالإضافة
للمعرفة العلمية والمهارة العملية.
في موقع السفارة السعودية في اليابان على الانترنت ملخص وافٍ لأهم
ملامح وخصائص نظام التعليم هناك، فهو يذكر مثلا أنه لا يوجد في المدارس
اليابانية حارس أو فراش، إذ يقوم التلميذ نفسه عند نهاية اليوم الدراسي
بكنس وتنظيف القاعات الدراسية بل وكنس ومسح الممرات بقطع قماش مبللة.
بل والأكثر من ذلك غسل دورات المياه وجمع أوراق الشجر المتساقط في فناء
المدرسة وكذلك القمامة إذا وجدت. فالنظام الياباني للتعليم يركز على
تنمية الشعور بالجماعة والمسؤولية لدى التلاميذ والطلاب تجاه المجتمع
بادئًا بالبيئة المدرسية المحيطة بهم، مثل المحافظة على المباني
الدراسية والأدوات التعليمية والأثاث المدرسي وغير ذلك.
وهذا السلوك ينتقل لاحقا لبيئة العمل حيث يبدأ الصباح بتنظيف
المكاتب وورش التصنيع بمشاركة الجميع دون استثناء.
وتأكيدا على قيمة الاعتماد على الذات والعمل ضمن فريق واحد، فإن
المدارس اليابانية تخلو من المقاصف، ولكن يوجد مطبخ به أستاذة تغذية
وعدد من الطاهيات حيث يتناول التلاميذ وجبات مطهية طازجة تُطهى يوميًا
بالمدرسة. ويقوم التلاميذ بتقسيم أنفسهم إلى مجموعات إحداها تقوم
بتهيئة القاعة الدراسية لتناول الطعام، وثانية مثلاً تقوم بإحضار
الطعام من المطبخ، وثالثة تقوم بتوزيع هذا الطعام على التلاميذ.
من القيم الأخرى التي يركز عليها النظام التعليمي في اليابان هي
قيمة الجد والمثابرة. ومن المقولات المشهورة عندهم ما معناها أن أربع
ساعات نوم تعني النجاح بينما خمس ساعات نوم تعني الرسوب، فالنجاح
والتفوق لا يتحددان باختلاف الموهبة والذكاء ولكن بالاختلاف في بذل
الجهد.
الحديث عن التعليم في اليابان وخصائصه طويل، وملخص رسالته يقول:
استثمروا في الإنسان تتقدموا، وتجاهلوه تندموا.
http://www.facebook.com/profile.php?id=692249194
http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/badirshibib.htm |