للوهلة الأولى، يبدو الأمر وكأن منطقة الشرق الأوسط الكبير بالكامل
تنزلق إلى الفوضى. فالحرب الأهلية لا تزال مستعرة في سوريا، في حين
ترزح الدول المجاورة لها ــ وخاصة الأردن ولبنان الهشة ــ تحت وطأة
أكثر من مليوني لاجئ. وتدهورت الأوضاع في ليبيا بشكل كبير إلى حالة من
الفوضى القَبَلية، ويترقب النظام الأفغاني الضعيف انسحاب قوات منظمة
حلف شمال الأطلسي في عام 2014. وفي مصر مددت الحكومة التي تدعمها
المؤسسة العسكرية حالة الطوارئ، ويشهد العراق تصاعداً في العنف
الطائفي، حيث تجاوزت حصيلة القتلى بين المدنيين خمسة آلاف قتيل فضلاً
عن أربعة عشر ألف مصاب تقريباً منذ بداية هذا العام وحده.
ولكن هناك رغم كل هذا استثناءً لهذا النمط في مكان بعيد كل البعيد
عن كل التوقعات. على مدى عقود من الزمان، ألقت إيران بظل خطير من
المواجهة على الشرق الأوسط؛ والآن تبدو الجمهورية الإسلامية حريصة على
إنهاء المواجهة مع الغرب بشأن برنامجها النووي.
والواقع أن هذا التحول ــ والدور المفاجئ الذي لعبته كجزيرة من
الأمل في بحر هائج من الاضطراب والفوضى ــ يدعو إلى التفكير في زعامة
أميركا للعالم وما يمكن للولايات المتحدة أن تحققه عندما تستخدم مبدأ
التعددية (وخاصة في التعامل مع الضفة المقابلة للأطلسي) بكامل طاقته.
ففي وقت حيث كانت الولايات المتحدة تعرض غالباً صورة من التردد والضعف
ــ والتي انعكست في الشعار المؤسف "القيادة من الخلف" ــ تجسد إيران
الإمكانات التي تنطوي عليها الاستجابة الدولية عندما تضطلع الولايات
المتحدة بدور القيادة من الخطوط الأمامية.
لقد حافظت الولايات المتحدة على نظام عقوبات واسع النطاق ضد إيران
منذ منتصف تسعينيات القرن العشرين، وفرضت هذا النظام بقوة ــ على سبيل
المثال، فرضت عقوبات على بنك اتس اس بي سي في العام الماضي بلغت قيمتها
1.9 مليار دولار، ووضع الكيانات التي تساعد إيران في التهرب من القيود
المالية على قائمة سوداء. بيد أن هذه العقوبات لم تصبح موجعة إلا من
خلال المشاركة المتنامية من قِبَل طائفة واسعة من البلدان.
وانعكس هذا بوضوح في الفوز الانتخابي الساحق الذي حققه الرئيس
الإيراني حسن روحاني في يونيو/حزيران. كانت حملة روحاني الانتخابية
تقوم على تعهد بالسعي إلى "المشاركة البنّاءة" مع المجتمع الدولي.
والواقع أن الزخم المبكر والدعم الواضح ــ أو على الأقل التسامح ــ من
جانب المرشد الأعلى آية الله على خامنئي يعكس سأم الإيرانيين من العزلة
الدولية وما يشعرون به من مرارة إزاء الخراب الاقتصادي الذي جلبته
العقوبات المتزايدة الشدة.
لا شك أن العقوبات الدولية المفروضة على إيران ازدادت إحكاماً مع سد
الثغرات التي تخللتها. فبعد تغلبه على تحفظه الأولي، عزز الاتحاد
الأوروبي إلى حد كبير من نهجه العقابي في التعامل مع الكيانات
الإيرانية المرتبطة بالأنشطة النووية (ولو أن أحكاماً قضائية حديثة
ألقت بظلال من الشك على بعض التدابير). والأمر الأكثر أهمية هو أن
جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك (سويفت) قررت في عام 2012
استبعاد 14 بنكاً إيرانياً من شبكتها (التي تعتبر القناة الرائدة
لتنفيذ المعاملات الإلكترونية الدولية بين البنوك على مستوى العالم).
ولعل الرغبة في إلغاء هذا التدبير كانت من بين العوامل الأساسية التي
دفعت إيران إلى تغيير مسارها الدبلوماسي، كما ذكرت بعض التقارير.
وأيضاً كانت الجهود التي بذلتها أميركا لإقناع الشركاء الدوليين
بخفض اعتمادهم على النفط الإيراني ــ تحت التهديد جزئياً بمعاقبة
مؤسساتهم المالية ــ فعّالة للغاية. فمنذ عام 2011 هبطت صادرات النفط
الإيرانية، من نحو 2.5 برميل يومياً إلى ما يقرب من 1.3 مليون برميل
يوميا، ويرجع هذا جزئياً إلى حظر شامل على صادرات النفط إلى الاتحاد
الأوروبي وتخفيضات كبيرة من قِبَل الصين واليابان والهند وجنوب
أفريقيا. وقد أدى هذا إلى انخفاض حاد في صافي عائدات إيران من صادرات
النفط، من 95 مليار دولار في عام 2011 إلى 69 مليار دولار في عام 2012
ــ وهو انحدار مأساوي بالنسبة لدولة حيث تشكل مبيعاتها من النفط 80% من
عائدات التصدير ونحو 50% من إيرادات الحكومة.
وكانت هذه الاستجابة المتعددة الأطراف نتيجة لبصيرة ثاقبة والتزام
صبور. فقد لعبت الولايات المتحدة دورها القيادي من خلال الجهد والعرق.
وبدلاً من إرسال جيش عسكري، نشرت الولايات المتحدة جيشاً من
الدبلوماسيين المسلحين بالقدرة على الإقناع لتعزيز الحجة الداعمة
لضرورة فرض عقوبات أكثر قوة.
كما ذهبت المساعي الأميركية إلى ما هو أبعد من الحكومات. فلسنوات
عديدة، كانت الولايات المتحدة حريصة على مد يدها إلى المؤسسات الدولية
والقطاع الخاص. (وأذكر أنني تلقيت عِدة تقارير مفصلة بشأن إيران من
الوفود الأميركية خلال عملي كمستشار عام لمجموعة البنك الدولي). وقد
استمرت هذه الجهود في ظل إدارة أوباما، حيث تواصلت وزارة الخزانة
الأميركية مع 145 مؤسسة مالية في أكثر من 60 دولة منذ عام 2010.
وكان تأثير ذلك على الاقتصاد الإيراني ساحقا. فقد انكمش الناتج
المحلي الإجمالي الإيراني بنسبة 1.9% من مارس/آذار 2012 إلى مارس 2013،
ويتوقع صندوق النقد الدولي انخفاضاً إضافياً بنسبة 1.3% هذا العام. كما
انهارت العملة الإيرانية، حيث هبطت قيمة الريال غير الرسمية من نحو 13
ألف ريال في مقابل الدولار الأميركي في سبتمبر/أيلول 2011 إلى نحو 30
ألف ريال في مقابل الدولار هذا الصيف. وليس من المستغرب أن يرتفع
التضخم إلى عنان السماء، حيث بلغ المعدل وفقاً لإعلان البنك المركزي في
إيران رسمياً نحو 39% عن 12 شهراً انتهت في أغسطس/آب.
هذه هي الأرقام التي تدعم وجهة النظر التي تزعم أن الموقف
الدبلوماسي الإيراني الجديد أكثر من مجرد واجهة. ولكن أهميتها لا ترجع
فقط إلى أن حل القضية النووية "من الممكن أن يساعد كأساس لسلام أوسع
نطاقا"، كما قال أوباما أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر
الماضي، فهي تبين أيضاً ما يمكن إنجازه.
منذ تجربة أميركا في العراق وأفغانستان، سمعنا الكثير من الأحاديث
حول ما لا تستطيع الولايات المتحدة أن تنجزه. ولكننا الآن أمام مثال
واضح لما يمكن تحقيقه تحت لواء القيادة الأميركية بالجهود التعددية
الحقيقية المدعومة بالعمل الشاق. وإننا لنرجو أن يكون هذا النجاح سبباً
في تشجيع أوباما والولايات المتحدة على الانخراط في مثل هذه الجهود
بشكل أكثر تكرارا، حتى لا تظل الانفراجات كتلك التي نشهدها مع إيران
الآن الاستثناء وليس القاعدة.
* وزيرة الخارجية الإسباني السابق والنائب
السابق لرئيس البنك الدولي وعضوة في مجلس الدولة الاسباني
http://www.project-syndicate.org/ |