الاغتراب في حضرة الوطن!

مئة كلمة وكلمة في قواعد الحياة

 

شبكة النبأ: توجد في كتاب نهج البلاغة لأمير المؤمنين، الامام علي بن ابي طالب عليه السلام، قواعد للفكر والسلوك، يمكنها، فيما لو التجأ إليها الفرد والمجتمع، أن تفتح مسارات صحيحة لهذا البناء، شريطة الالتزام بالتطبيق بعد الايمان بها، وهي من نوادر الحكم وجواهر الكلم، وكلنا نتفق على ان الانسان يحتاج الى قواعد صحيحة للبناء، لكي يبني حياته بالصورة الصحيحة، وطالما ان المجتمع يتكون من مجموع الافراد وتقاربهم مع بعض، فإن المجتمع برمته يحتاج الى تلك القواعد السليمة حتى يبني عليها حياته، وهذه القواعد موجودة في نهج البلاغة، إذ تهدف سلسة مقالات (مئة كلمة وكلمة)، أن تصل الى قواعد تساعد الانسان على البناء السليم، لاسيما اننا نعيش في عالم محتقن، تحكمه ضوابط ومصالح وأخلاقيات مادية بحتة.

حالة الاغتراب التي يشعر بها الانسان تجاه المحيط الذي يعيش فيه، ليست وليدة اليوم، وإنما كان الانسان ولا يزال يواجه الوجود بكثير من الغموض، لكنه غالبا ما يبحث عن الحلول المناسبة لتفسير الظواهر الغامضة التي تواجهه، ويبحث ايضا عن سبل الحلول الممكنة، اذن هاجس الغربة يعيشه الانسان بسبب علاقته مع الوجود والكون، ويحاول من خلال الايمان الحقيقي، واقامة علاقة جوهرية مع الاديان، والمضامين الانسانية، تحميه من الاحساس الموجع بالغربة، ولعل جل الاسباب التي تدفع بالانسان الى الاحساس والشعور بالاغتراب، تكمن في طرائق العيش التي يحصل عليها الانسان في محيطه الاجتماعي.

فاذا كان محميا من التجاوز، حقوقه محفوظة وكرامته مصانة، وقيمته الانسانية محصّنة، فإنه في هذه الحالة لا يشعر بالاغتراب، لأنه يشعر بغنى النفس والروح والعقل، وشخصيته متوازنة، وذاته ممتلئة، على العكس ممن تتعرض شخصيته للسحق والامتهان.

الغربة في الوطن

الغربة في التعريف المباشر لها، هي ابتعاد عن الحاضنة الاجتماعية والمكانية الاولى، لاسباب قسرية او ضغوط مختلفة، اقتصادية او سياسية في الغالب، وقد تكون غربة مكانية داخل الوطن، اي من مدينة الى اخرى، مع اختلاف المحيط الاجتماعي، وربما خارج الوطن الى بلد ومجتمع آخر، ولكن هناك أشكال اخرى للغربة!.

يقول الامام علي عليه السلام في كتاب، درر الكلم وغرر الحكم، وفي نهج البلاغة: ( الْغِنَى فِي الْغُرْبَةِ وَطَنٌ وَ الْفَقْرُ فِي الْوَطَنِ غُرْبَةٌ). هذا يدل على انواع اخرى للغربة، قد تختلف عن الغربة المكانية، ويؤكد هذا القول، أن الانسان قد يكون معرضا لحالة الاغتراب، والشعور بالعزلة، والمعاناة من عدم الانسجام مع محيطيه، حتى لو كانت يعيش في قلب الوطن، أما الاسباب، فقد جعل الامام عليه السلام من الفقر، سببا اساسيا لمثل هذا الشعور الخطير، إذ كيف يمكن للانسان أن يعاني من الغربة ونتائجها وهو يعيش في وطنه، بين شعبه واهله واصدقائه، فضلا عن ذكرياته وكل الجوانب التي تكمّل شخصيته وتاريخه وعلاقاته؟.

لقد أوجز النص البلاغي المذكور اعلاه، ببساطة كبيرة و واضحة، جانبين متناقضين، من العلاقة بين الانسان والغربة، الجانب الاول، الغربة خارج الوطن، والجانب الثاني الغربة خارج الوطن، والمعيار الذي يقارن بين فداحة هذه الغربة او تلك هو الغنى، أو المال، فاذا توافر المال في الغربة، شعر الانسان بأنه محمي ومصان بقوة المال، وهو ليس بحاجة الى ان يمد يده لأحد، إن توافر الاموال اغنته عن الحاجة وهو في الغربة، لذلك فان هذا الامر سيمنحه شعورا بالتوازن والرضى، قد لا يجده حتى لو كان يعيش في ارضه وبين اهله!، بسبب الفقر.

من هنا تحرص القوانين الوضعية، والتعاليم السماوية، والنصوص الفلسفية التي تخص حياة الانسان وعلاقاته، تحرص على اهمية احترام القيمة الانسانية للفرد، من خلال عدم تعريضه للفقر والاحتياج، والمحافظة على حقوقه وكرامته، خاصة من الانظمة السياسية المتخلفة التي غالبا ما تكون سببا رئيسيا في هدر كرامة الانسان وبالتالي دفعه للشعور بالغربة حتى عندما يكون داخل وطنه.

الغني لا يشعر بالاغتراب

يشير النص البلاغي في أعلاه، الى أن الانسان يمكنه أن يعيش بكرامة حتى في بلاد الغربة، اذا كان محميا بالمال، بمعنى اذا كان غنيا، يمكنه أن يعيش بطريقة تصون له كرامته، وتحمي قيمته الانسانية، بقوة المال، لانه سوف يكون قادرا على توفير كل عناصر الاحساس والشعور بوجود الحاضنة الاجتماعية والمكانية اذا كان غنيا، على العكس من وجوده في الوطن الام برفقة الفقر!، الذي سيجعله معرضا للشعور بحالة اغتراب قاسية، فهو وإن كان يعيش في ارضه ووطنه الفعلي مع قومة واهله وذويه، إلا انه بسبب الفقر سوف يعيش في حاضنة غريبة قاسية، لا توفر له الشعور بالامان والتقدير والاكتفاء، فضلا عن فشل الوطن في تحقيق ذات الانسان، وجعله نهبا للافكار الانعزالية.

الفقر في حالة كهذه هو السبب الاساسي الذي يدمر انسانية الانسان، لاسيما اذا كان النظام السياسي، لا يعير اهتماما كافيا للانسان، ولا يهتم الا بمن يقف الى جانبه في تعضيد حكمه وحماية عرشه من السقوط، عند ذاك ليس هناك مفر من محاصرة الاغتراب للانسان، وليس له خلاص الا بالبحث عن حاضنة اخرى حتى لو كانت غريبة وبعيدة عنه، كونه يشعر بالمهانة والدونية والانحطاط وهو في وطنه وبين اهله، إذاً ما هو المبرر لبقائه في محيط لا يحمي كرامته ولا وجوده!.

في حالة كهذه تكون الغربة وطنا يحمي كرامة الانسان بالمال، ويكون الوطن الام طاردا لابنائه، بسبب الفقر الذي يدمر شخصية الانسان وقيمته، بل و وجوده كله، ويجعله غاطسا في الغربة وهو بين اهله وعلى ارضه!.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 3/تشرين الاول/2013 - 26/ذو القعدة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م