شبكة النبأ: ثمة علاقة جدلية يتبادلها
الواقع وتوابعه، مع منظومة القيم التي تتدخل في تحديد مسارات وتوجهات
الواقع، فالانشطة البشرية المختلفة التي ينطوي عليها الواقع، لا يمكن
أن تكون عشوائية، أو ذات بعد اعتباطي يخلو من الهدف، لذلك يأتي دور
منظومة القيم في علاقة جدلية مع الواقع كي تنتظم حركة الواقع، وتصبح
اكثر تأثيرا في حياة الانسان.
ولعلنا نتفق أن الانسان بطبيعته وتركيبته النفسية، ينحو في الغالب
الى المصلحة الفردية، ويندفع الى تغليب ميوله واهوائه ورغباته، على
حساب غيره من الناس، لأن الهدف الذاتي يتقدم على الهدف الجمعي، بسبب
حالة حب الذات التي تدفع بالانسان الى حماية مصالحه وتحقيق رغباته، وقد
يأخذ هذا المنحى مسارات خطيرة، عندما تغيب او تضعف منظومة القيم في
التدخل لضبط ايقاع حركة الواقع، لهذا لابد من ضوابط تحد من تفضيل الذات
على الجمع او على الآخر، لاسيما اذا اصبح الامر منافيا للاعراف،
والقوانين والضوابط الشرعية وما شابه، هنا لابد ان تسيطر منظومة القيم
على حركة الواقع، لكي تحد من حالات الخلل والتجاوز الذي قد يحدث،
كنتيجة لتفضيل الذات على الآخر.
يقول الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي
(رحمه الله)، في كتابه القيّم الموسوم بـ (الفقه: المستقبل)، في هذا
المجال: )إن القيم وحدها لا تؤدّي ثمارها، لذلك لابدّ من ملاحظة الواقع
أيضاً، إذ لا يمكن تحقق القيم بدون الواقع في الفراغ، ولا يمكن تحقق
الواقع السليم بدون قيم، والقيم هي التي تسمو بالإنسان فوق الواقع،
وتجعله متطلعاً، واعياً، مدركاً لمهام مستقبله، فالقيم تخرج الإنسان من
شخصانية نظرته، ومن أفقه الشخصي المحدود، بل تخرجه من نصفية نظرته
المحلية والموضعية وشبهها إلى إطلاقية نظرته الإنسانية، لتشمل العالم
الذي يعيش فيه على امتداده واتّساعه، لا عرضاً فحسب، بل طولاً أيضاً).
القيم وهاجس المستقبل
تمتلك منظومة القيم قدرة كبيرة على تحريك هواجس الانسان، ودفعها في
مسارات تنحو الى المستقبل اكثر من سواه، فيما يتعلق بأبعاد الزمن
الثلاثة (الماضي/ الحاضر/ المستقبل)، بمعنى أن الانسان المنضوي تحت
مجموعة من القيم والملتزم بها، بإمكانه ان يتحرك أفضل من سواه نحو
صناعة المستقبل، والسبب يعود الى انحسار العشوائية في التفكير والعمل
معا، فيصبح الانسان في هذ الحالة صاحب رؤية مستقبلية، تتحرك وفق سبل
وطرائق تخضع للقيم، وتأخذ منها الدوافع المطلوبة لصناعة مستقبل افضل،
بمعنى أن القيم تضفي على الواقع بعدا مستقبليا، كما يقول الامام
الشيرازي في كتابه هذا، وبذلك تنفتح حركة الانسان على آفاق متعددة و
واسعة، ويخرج هذا الانسان برؤيته من أسر المنافع الضيقة، حتى الفعل
السياسي لا يبقى محكوما بالمصلحة الذاتية، لأن السياسة ذات طابع واقعي
ينطوي على انانية واضحة، كما تؤكد السياسات الدولية القائمة.
لذلك يؤكد الامام الشيرازي في كتابه (الفقه: المستقبل) على أن (القيم
تجعل الإنسان مستقبلياً؛ لأنها تضفي البعد المستقبلي للواقع. فالسياسة
واقع، ولكنها عندما تمتزج بالأخلاق تصبح السياسة أفقاً واسعاً لا ينحصر
في المصالح الضيقة، والأنانيات وبردود الأفعال الآنية، كما هي اليوم
بعض السياسات الدولية التي تتعلق بالواقع فقط دون الأخذ بالقيم، فتصبح
أفعالاً وردود أفعال، محورها المصالح الشخصية أو القومية أو الأمنية
الضيقة فقط).
وهكذا يمكن ملاحظة افتقار الواقع لحالة الاكتمال، والأفضلية في حالة
غياب منظومة القيم، إذ ينشط التوجّه الاناني على حساب الايثار والتعاون
المتبادل، على المستوى الفردي والجمعي، بل حتى على مستوى العلاقات
الدولية، حيث تحكم القيم تحركات الدول الكبرى نحو مصالحها، وتحد منها
لصالح الدول الاقل قوة واضعف اقتصادا، لذلك لابد من الاهتمام بالقيم
وعلاقتها الجدلية بالواقع، حماية لحاضر ومستقبل البشرية.
صناعة الواقع بغياب القيم
من الظواهر المريبة على المستوى الدولي، ذلك الاهتمام الكبير بواقع
الدول، مع الاهمال المتعمد للقيم وتطويرها، واعطائها الاسبقية في تنظيم
الأنشطة البشرية المختلفة، لذلك كما يشير الامام الشيرازي، هناك اهتمام
واضح من الغرب بالواقع وتطويره، مع اهمال كبير لمنظومة القيم، الامر
الذي قاد البشرية الى نوع من الانفصام أضرّ بها بشكل كبير وجوهري.
يقول الامام الشيرازي حول هذا الجانب بكتابه المذكور نفسه: (الملاحظ
أنّ بعض الشعوب تقدمت كثيراً في صُنع الواقع، لكنها لم تتقدّم في مجال
القيم. فعلى سبيل المثال: إنّ التقدم العلمي والصناعي في الدول الغربية
لم يواكبه تقدم في نطاق القيم، سواء كانت عقدية أو أخلاقية أو
إيمانية.. فالمطلوب أن يقترن هذا الجزء بذلك الكل، حتى لا تشهد
الانفصام الذي أضرَّ بالبشرية كثيراً).
لذلك لابد أن يكون هناك نوع من التكامل بين الطرفين، الواقع من جهة،
ومنظومة القيم من جهة اخرى، لأن العلاقة الجدلية السليمة بين الاثنين،
تشكل حلا نموذجيا للمشكلات التي تفرزها حالة التناقض، بين الواقع
والقيم على المستوى الدولي، او حتى على مستوى العلاقات القائمة بين
الجماعات والافراد مع بعضهم، فالواقع هنا يمثل الجانب المادي، أما
القيم فهي تمثل الجانب المعنوي او الاخلاقي، وعندما تربط بين الجانبين
علاقة جدلية تكاملية، فإن النتائج سوف تكون جيدة وذات منحى انساني
منضبط، يراعي الجميع على حد سواء.
من هنا يؤكد الامام الشيرازي قائلا في هذا المجال: (عندما يتحقق
التكامل بين الواقع والقيم تذوب الصراعات، وينتهي التنافس غير المشروع،
وتعم العدالة، ويسود السلام، ويعلو صوت الحق، ويعيش الناس في طمأنينة
وأمن، ويزدهر المستقبل يوماً بعد يوم. وهذه هي أهداف كل أمة صالحة تطمح
إلى بناء المستقبل السعيد المشرق، فإذا انتهت البشرية إلى هذا الفهم،
وإلى هذه النظرة الشمولية، وتمكنت من وضع المقاييس اللازمة لعدم
الانفلات من هذا الفهم، يكون ذلك اليوم يوم سعادة وهناء). |