د. عزالدين عناية في حوار بشأن حاضر الإسلام السياسي ومستقبله في كل من تونس ومصر

حوار: عبد السلام سكيه

 

شبكة النبأ:

قبل سنتين، اختارت شعوب "الربيع العربي" الإسلاميين لحكمها، و بعد عامين يسعون لطردهم لماذا هذا التحول؟

الشعوب التي شهدت الربيع العربي هي كالفرس الجموح تعيش غليانا محتدما ومتواصلا، وهو أمرٌ طبيعيٌ في سوسيولوجيا الثورة. حيث تنظر الشعوب المنتفضة إلى المؤسسات والأحزاب والقادة، بمثابة الوسائل، لبلوغ أهداف منشودة بأسرع وقت ممكن. وعادة تكون تطلعاتها رومانسية وتعوزها الواقعية، وأي إخلال بالهدف، مهما كانت مبرراته، من شأنه أن يبدّد رصيد تلك الثقة. فعندما يستحكم فيروس الثورة بشعب مّا يغدو إرضاؤه صعبا. والحالة الثورية كما تمنح الثقة بشكل عفوي تنزعها بشكل سريع أيضا، وهو ما عاشته مصر مع من صعّدتهم للسلطة وما تشهده تونس راهنا. وبالتالي، الإسلاميون أو غيرهم، سيلقون المصير نفسه، إلى حين تهدأ الأوضاع. هناك معادلة اجتماعية معقَّدة وشائكة، صعب أن يدركها ساسة مبتدئون، بعضهم لفظتهم السجون، وآخرون قدموا من المنافي، وغيرهم استقلوا قطار التحول بانتهازية فائقة، ليجدوا أنفسهم في موضع الصدارة.

فالتعاطي مع السياسة في الأوضاع الثورية، خصوصا منها التي لم تستبطن توجها إيديولوجيا موحَّدا، غير التعاطي مع الأوضاع العادية. والأحزاب التي صعِدت للسلطة في تونس ومصر، عوّلت على الشرعية الانتخابية وحسبتها سدرة المنتهى، وغفلت عن أن البنية الاجتماعية عقب الثورات هي بنية مضطربة، كل يوم هي في شأن. هذه المرحلة حساسة ينبغي التعاطي معها بحكمة ومرونة، ومن لم يمتثل لذلك يكون عرضة للسقوط، ومن هذا الباب تأكل "الثورات" أبناءها وتقول هل من مزيد.

وقد كان تراجع منسوب موالاة الإسلاميين في مصر ناتجا عن عوامل عدة، ألخّصها بإيجاز: بدءا ينبغي أن نقرّ أن مصر لم تحصل فيها ثورة، وأن ما حدث هو تجييش هائل للناس لإسقاط نظام فاسد، فالشعب ما كان مهيأ أصلا للثورة. وما حصل هو تقليد لما جرى في تونس، ومغامرة لامتطاء حصان التاريخ الذي أطلّ من بلاد المغرب. والثورات ما لم تندلع بحافز داخلي، فهي سرعان ما تتعثر. وما نشهده في مصر اليوم هو انهيار لحلم الثورة وتبخّر لرومانسية الثوار. فالحنجرة التي صدحت بالرحيل على مبارك تستصرخه اليوم للعودة لإنقاذ البلاد!

ذلك أن من عوامل تراجع الإسلاميين في مصر أو "طردهم" -كما قلتم- وهو سوء قراءتهم للواقع، من حيث تقدير ثقل المؤسسة العسكرية المستحكمة ببنية الدولة، وهو ما يعني عمى سياسيا ومهْلَكة من قبل مرسي وحكومته؛ فضلا عن الإصرار والتعنت على المضي قُدما في مسارات سياسية خاطئة: إملاء الإعلان الدستوري، والاستفتاء على الدستور، ومناطحة القضاء، ومجابهة المثقفين والإعلام. الأمر الذي جرّ إلى شَقِّ الطبقة السياسية برمتها وفكِّ الإجماع الشعبي، ولعل ذلك ما أدى إلى الإطاحة بالإسلاميين في مصر.

هل بقاء رموز النظام السابق في تونس ومصر-رجالات بن علي ومبارك- لها يد فيما اصطلح عليه ب"شيطنة الإخوان" والتي انتهجها الإعلام خصوصا؟

هناك طرف في الواقعين التونسي والمصري لا يمكن تغييبه، ولا يمكن استبعاده تحت أي مبرر، ونعني به الجزء الوطني الصالح وغير الفاسد من النظام القديم. فالنظام السابق ليس برمته شرّا محضا كما يُصوَّر خطأً. وبناء على هذا الإدراك الموضوعي لواقع ما قبل الثورة، نتفطن أيضا إلى أن النظام السابق حيٌّ يرزق، ولا يمكن طمسه بين عشية وضحاها. كما أن النظام القديم ليس أشخاصا فحسب، بل هو عقلية وسلوك وثقافة؛ وبالتالي السبيل الأسلم للتعامل معه وهو الفرز والمحاسبة والاستيعاب، لا كما يقول المثل إلقاء الرضيع مع الماء العفن.

فقبل تولّدِ ظاهرة "شيطنة الإخوان" هناك أخطاء ارتكبها الإسلاميون، لعل أبرزها التعامل بمنطق الغنيمة مع السلطة. فكان التعويل على المُوالي والتابع للتنظيم والحزب والغفلة عن تشريك الأكفأ والأقدر والأعلم، وهو ما شلّ قدرتهم على التحكم بالواقع وعطّل عملية الإصلاح وأصابها بالتعثر. فلو أخذنا على سبيل المثال ما حدث في تونس، لقد حشرت أحزاب الترويكا الحاكمة –النهضة والتكتل والمؤتمر- المجلس الوطني التأسيسي، المكلَّف أساسا بصياغة الدستور، بكمّ هائل من الحشو، من المنخنقة والموقوذة والمتردّية والنطيحة، ممن لا تتوفر فيهم الكفاءة. وأبرز مظاهر ذلك العور أن المجلس التأسيسي لما دفع بمسودة الدستور للشعب كانت عملا فاضحا، حوَت زهاء الستين خطأ لغويا. يجهل من صاغها –أو من كلفوا بتدبيجها والمصادقة عليها- قواعد العدد والمعدود والممنوع من الصرف، وغيرها من البديهيات النحوية، ناهيك عن ثغرات الصياغة القانونية والركاكة اللغوية.

من جانب آخر، أرى أن "شيطنة الإخوان" نابعة عن عامل رئيسي. هناك فئة مهمة في المجتمع ليست في صف الإسلاميين، وهي فئة واسعة متكونة من رجال الثقافة والإعلام والفنانين. وقد تم التعامل معها بازدراء أو باستعداء، وهو ما أجج عش الدبابير وحرّض شرائح عدة ضدهم. وللذّكرِ فهذه الفئة لديها حساسية مفرطة من الإخوان ومن فكر الإخوان ومن تاريخ الإخوان.

ما واقعية أن ولاء الإخوان للتنظيم العالمي أكبر من الولاء للوطن، وهل هنالك شواهد تملكها على ذلك؟

لا أود النظر للأمور على غرار نظر العقل العربي الكسول في تهويماته المزمنة: "التنظيم العالمي للصهيونية"، و"التنظيم العالمي للماسونية" و"التنظيم العالمي للإخوان"، وغيرها من المبالغات الوهمية والساذجة. هناك إخفاق لحزب سياسي ينشط داخل حيز اجتماعي وهو الساحة المصرية، أخطأ في التحكم بلعبة السلطة نتيجة صبيانيته السياسية، وليس نتيجة أن ولاءه للتنظيم العالمي أكبر من ولائه للوطن. لقد فشل الإخوان في مصر لأن الوهْم استبد بهم، أنهم قوة ضاربة، ولم يقدّروا وزن غيرهم حق قدره. فتنظيم يفتقر في صفّه إلى المثقف والمفكر وعالم الاجتماع وعالم السياسة وإلى الشاعر والروائي، ومحشوّ بشبه الواعظ والفقيه والمتحمّس والمتنطع، هو تنظيم أجوف وأعرج. لذلك عجز الإخوان عن التنبه إلى الواقع منذ إصدار مرسي الإعلان الدستوري وما لاقاه من رفض في أوساط النخبة.

وقد زاد صلف حكومة مرسي بعد أن صوّت في الخامس والعشرين من ديسمبر 2012 عشرة ملايين على دستور، انفرد الإخوان بصياغته، وعارضه سبعة ملايين من المصريين. تضمّن حشرا للدين بشكل معيب بما يشجع على تأويله بما ينافي مطلب مدنية الدولة، وما يسهّل استدعاء الدين المُدَسْتَر لخوض معركة ليست معركته. فمثلا نصّ دستور الإخوان (الدستور المصري) بشكل فجّ على المذهبية الإسلامية، في المادة 219 من الفصل الثاني: "مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية، وقواعدها الأصولية والفقهية، ومصادرها المعتبرة، في مذاهب أهل السنة والجماعة"، والحال أن عدم التنصيص يكفل للشريعة علويتها وانفتاحها أكثر مما يضمنه التنصيص. فإدخال الدين في باطن الدساتير كان مجلبة لمشاكل، الشعوب في غنى عنها، ومدعاة لتضييق واسع.

وعودة إلى مسألة التنظيم العالمي للإخوان المسلمين أقول إنها أسطورة كبيرة ألحقت ضررا بأهلها قبل أن تلحق ضررا بخصومها. وتلك عاقبة من لا يؤسس رؤاه ومساره على نهج عقلاني سديد.

بعد الأزمة في تونس وعزل مرسي، ماذا بقي من الإسلام السياسي؟

لا يمكن الحديث عن انهيار الإسلام السياسي أو تواريه، كما تسارع بعض تحليلات "الفاست فود" الإعلامي غير الرصينة، ولكن هناك ارتطام بالواقع. فالإسلام السياسي لم يتعاط مع الواقع بتروٍّ، بل بتساهل مفرط إلى حد السذاجة أحيانا، ما جرّه إلى الصدام السياسي في مصر وإلى الترنّح في تونس. ولعل ذلك عائد بالأساس إلى ضعف التكوين العلمي في المجال السياسي والسوسيولوجي لأهله وأنصاره. فليس هناك استقراء موضوعي للواقع وللعناصر الفاعلة فيه، بل هناك عواطف جياشة متقاسَمة بين شرائح واسعة من الأنصار، عادة ما تكون مضلّلة. وأقدِّر أن الإسلام السياسي الإخواني في مصر قد وضع نفسه في مواجهة خاطئة مع المؤسسة العسكرية ومع الدولة، وهي معركة غير مأمونة العواقب، لا يخوضها إلا حالم سياسي، لا يتعاطى بموضوعية مع الواقع، ولا مع الوضع الإقليمي، ولا مع الوضع الدولي. الإسلام السياسي غير الإخواني، الذي ينحو منحى متزنا ومسالما في التعاطي مع الواقع المصري هو المرشح ليكون الطرح البديل في الساحة المصرية.

وأما الإسلام السياسي السلمي في تونس، وعلى رأسه حركة النهضة، فإن الفوز بذاته والخروج من عنق الزجاجة مرهون بتجنب احتكار السلطة، وتقديم الكفاءات التونسية لا الموالية، وتجنب تهميش المثقفين، والإنصات للصوت المخالف. وأما الإسلام السياسي العنيف –الذي بدأ يطل برأسه- فلا مستقبل له في تونس، وهو إسلام كارثي على الإسلام وعلى نفسه. أنصح أهله وأنصاره بقراءة التاريخ والاتعاظ بما جرى في مجتمعات أخرى.

ما هي مخارج الأزمة في تونس؟

أقدّر أن حركة النهضة التي تتزعم الترويكا الحاكمة في تونس قد تضررت مصداقيتها السياسية، لكن ذلك لا يعني خروجها من اللعبة السياسية أو عدم إمساكها بمجرياتها. وبشكل عام، تحوز حركة النهضة في تونس شعبية بين العامة، بين الشرائح الاجتماعية ذات التكوين الدراسي المتدنّي والمتوسط، ولها شعبية بين مستبطني الثقافة المحافظة ذات الطابع القروي. فهي تعبر عن رؤاهم وخطابهم وتطلعاتهم. في حين بين النخبة وأوساط الطبقة المثقفة، ذات التكوين الجامعي، فهي تتراجع بشكل لافت.

وجراء ما حصل من تضرر لمصداقية حركة النهضة، فهي غير قادرة على لمّ الطيف السياسي التونسي المتناثر في الراهن. فهناك ثلاث قوى رئيسية تتحكم بالمشهد السياسي التونسي: النهضة ومختلف الأحزاب ذات المنحى المحافظ والإسلامي؛ والاتحاد العام التونسي للشغل ومجمل الأحزاب اليسارية والاشتراكية؛ وحزب نداء تونس وشراذم البورقيبيين وبقايا النظام السابق. وهذه التكتلات الثلاثة لا يمكن لإحداها أن تنفي الأخرى. في إدراكهم معا لخطورة الظرف الذي تمر به تونس، وتعاليهم عن مصالحهم الضيقة، بالإمكان إخراج البلد من الأزمة التي يتخبط فيها.

هل يمكن أن يكون مفتاح الحل الوساطة الجزائرية، و لماذا تبدي الأطراف التونسية-النهضة و نداء تونس- تحفظا في تأكيد وجود وساطة جزائرية؟

لا بد أن نقرّ أن الثورة التونسية كانت متخوّفة في بداية نجاحها من النظام الجزائري أشد التخوف، لكن النظام في هذا البلد المجاور أبدى رصانة وحكمة عاليتين قل نظيرهما، في التعاطي مع الشأن التونسي. والحمد لله أن عنصر الثقة دب بين الطرفين وتبدّدت تلك الهواجس، فالثورة التونسية ليست تهديدا للجار الجزائري، لأن بوصلتها بالأساس باتجاه إرساء إصلاحات اجتماعية واقتصادية داخلية. والدولة الجزائرية الثابتة في خطاها، ليست متربصة بالثورة التونسية، كما يريد بعض الغلاة ترويج ذلك، على غرار ما أدلى به محمد العربي زيتوت من حديث إلى جريدة "الصباح الأسبوعي" التونسية في شهر جويلية الفارط. فأن يتوجّه سياسيون تونسيون إلى الجزائر، وبشكل دوري، هو إدراك من كلا الطرفين أن ما يمسّ تونس من أذى يمس الجزائر، والعكس أيضا. والجزائر هي أول بلد يلجأ إليه التونسي حين تداهمه الشدائد، وهل ينكر الأخ أخاه عند اشتداد المحن؟ مع ذلك أقدّر أن حل الأزمة السياسية الحالية في تونس هو في تونس، وأخشى أن يؤدي التصلب بالنهضة إلى ما أدى بمرسي وجماعته، والعاقل من استقرأ واقعه بعين فاحصة واتعظ بغيره قبل فوات الأوان. ولكن هذا التشاور بين قادة الدولتين لا يلغي ما للبلدين من انشغالات مشتركة، بشأن ما يعتري الواقع السياسي في تونس، ومن حق الجزائر أن تخشى من الارتدادات السلبية للثورة التونسية. فهناك فضاء حريات في تونس منفلت وغير معهود، لا تعضده سلطات قضائية وأمنية قوية وحازمة، ما يمكن أن يستغله بعض المتنطّعين لإلحاق الضرر بأمن البلدين.

ما توقعاتك من الإسلاميين في الجزائرر قبيل أشهر من الانتخابات الرئاسية؟

الجزائر كدولة ذات سياسة معتدلة وواقعية حسمت موقفها من الإسلام السياسي منذ مدة، فكلّ توجه إسلامي فوضوي وغير ناضج استراتيجيا هو خارج اللعبة السياسية. والإسلاميون في الجزائر ينبغي أن يدركوا أن لا مجال للعنتريات الصبيانية، لأن الإسلام السياسي إما أن يكون ديمقراطيا وعقلانيا في توجهاته، وفي طروحاته، أو لا يكون، والحالتان المصرية والتونسية ماثلتان أمامه.

كما أنه آن الأوان للتيار الإسلامي أن يتوجه إلى العمل الفكري المبني على الطروحات العقلانية والعلمية، وأن يتحرر من الخيار السياسوي الصرف الذي جرّ الويلات، لأن الإسلام العظيم أوسع من أن تختزله السياسة. فالعمل على تجييش الناس بخطاب ديني حماسي، لا جدوى منه، لأن مشكلة الإسلام السياسي اليوم داخلية، ينبغي أن تحدث فيه مراجعات تعيد النظر في التجربة الإسلاموية التي شهدتها أمّتنا منذ مطلع القرن المنصرم إلى اليوم. فما عادت الشعارات كافية لحل مشاكل الشعوب، بل يتطلب تخطيها رؤية عقلانية. ومن هذا الباب الإسلاميون في الجزائر مدعوون إلى التعامل مع واقعهم بأعين جزائرية، وبعقل جزائري، بعيدا عن أي اهتداء أو تقليد للخارج. فالتجارب الإسلاموية المستورَدة عادة ما تكون تجارب مسقَطة وكارثية.

* عزالدين عناية (أستاذ تونسي بجامعة روما-إيطاليا)

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 24/أيلول/2013 - 17/ذو القعدة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م