تسييس الطائفية يكشف الإفلاس السياسي

 

شبكة النبأ: مآل خطير للغاية ومأساوي في آن، تشهده شعوبنا الناهضة والطامحة للتغيير والإصلاح، فهي حملت طموحاتها وحقوقها على أكتافها طوال العقود الماضية، وخاضت الصراع المرير مع الحكام والأنظمة الديكتاتورية والقمعية، ودفعت ثمن ذلك سيلاً من الدماء والتشريد والتجاوزات على المقدسات والأعراض. ثم تجد اليوم أن تلكم الطموحات والحقوق، التي تتضمن اهدافاً في القيم والمبادئ، تتحول الى جسور لطموحات سياسية لهذا البلد أو تلك الجهة أو حتى تلك الشخصية.

في النصف الثاني من القرن الماضي، احتاجت السياسة لدى الاحزاب والتنظيمات المعارضة، الى "التسييس" لقولبة حقوق القاعدة الجماهيرية، فكانت تجربة تسييس القضية الكردية في العراق، كما تم تسييس القضية العربية في ايران (عرب الاحواز). فنجحت التجربة في مكان وفشلت في آخر. لكن بالمحصلة؛ لم تتسبب التجربة في مزيد من المعاناة والآلام التي يتحملها بالأساس أصحاب القضية. إنما اصبحت بالنسبة لهم جسراً نحو تحقيق طموحاتهم واهدافهم، كما حصل مع أكراد العراق. والسبب هو أن القومية، مفهوم اجتماعي يندرج ضمن المنظومة السياسية، فالمطالب القومية، مفهومة ومشروعة في أية دولة بالعالم.

لكن يبدو الأمر مختلف تماماً مع القضية الدينية والطائفية، لأن العقيدة أشمل وأعمّ بكثير من السياسة، مع ذلك، وبفضل الحالة المتأصلة في النفوس والتبني الواسع والعميق، وجد الساسة من أهل المعارضة، أنها الباب الأوسع التي يمكن ان يلجوا من خلالها مع طموحاتهم ومصالحهم، بعد أن تملكهم شعور رهيب بالإفلاس السياسي بسبب نفاذ كل الاوراق والخيارات في ساحة الصراع مع الأنظمة الحاكمة. هذا الشعور انعكس بالضرورة على الساحة الجماهيرية التي تعد الاحزاب والتنظيمات أملها الكبير، الامر الذي جعلها تقبل بأي بديل دون التمعّن والتفكّر في عواقبه لعله يكون طوق نجاة من أزماته ومشاكله. وهذا تحديداً ما سهّل عملية تسييس الطائفية في غير بلد عربي واسلامي، وأدى الى انحراف الطريق نحو الاهداف الحقيقية والمطالب المشروعة للشعوب.

لمن يتابع ملف تسييس الطائفية في ساحة الصراع بين الشعوب والأنظمة الحاكمة في المنطقة، يجد أن مساؤئ ومخاطر هذا الملف، لم تتضح إلا بعد اكتمال ملامح قضيتين متداخلتين؛

الاولى: تدويل قضايا الشعوب، وإعادة تجربة "الحروب بالنيابة"، لكن هذه المرة أقسى وأشدّ، لأن التدخل الخارجي مصحوباً بشحن طائفي ومذهبي، أسفر عن توجهات تكفيرية – دموية، انتشرت كالفيروس الفتاك في جسد الأمة، فصحت الشعوب على وجود تنظيمات وجماعات بأسماء متعددة وشعار واحد، وهي تدعو الى التكفير والإقصاء والتصفية الجسدية لمن يرفض الانصياع لأوامرها نواهيها.

هذا التدخل، أفقد الشعوب أهم ركائز وجودها، وهي وحدة القضية والمصير ضمن خيمة الوطن أو الدين، فباتت المطالبات لا تنطلق فقط من مذاهب وطوائف، إنما من جماعات داخل المذهب الواحد، ومن داخل الوطن الواحد، مما ينبئ بتمزق رهيب في كيان المجتمعات، وضياع القضايا الحقّة في متاهات المزايدات السياسية بين العواصم الاقليمية والدولية.. ولنا في العراق ثم سوريا، مثالاً بارزاً على نجاح هذا النوع من التآمر المعد له سلفاً لاستيعاب المطالبات الحقيقية بالتغيير والإصلاح ليس في ظاهر الأنظمة السياسية، إنما في النهج السياسي وكيان الدول الغارقة في مستنقع الفساد .

وهذا ما دفع بعض المراقبين الى الإشارة بالبنان الى أطراف دولية متنفذة بالوقوف خلف عملية التسييس الطائفي، من خلال السكوت على رموز هذا التسييس وعدم النيل منهم وانتقادهم، ثم تغطية اخبارهم في وسائل الاعلام، والتركيز على وجود "أغلبية سنية" هنا أو "أقلية شيعية" هناك وبالعكس، كما هو النهج الذي تلتزم به وكالة "رويترز" البريطانية للانباء.

أما القضية الثانية: فهي النزيف الحاد الذي يعانيه الشعب العراقي والشعب السوري في الوقت الحاضر، بسبب استمرار أعمال القتل الجماعي للأبرياء من النساء والاطفال، وقد شهد العالم كيف أن الابرياء البعيدين عن ساحة المواجهة المتكافئة، يقتلون على الهوية في هذين البلدين، ثم تنشر مقاطع الفيديو على وسائل الاتصال في النت لمزيد من تكريس هذه الحالة المقيتة. وقد أشّر بعض المراقبين الى أن الضجة المفتعلة أخيراً في مدينة البصرة جنوب العراق، باستهداف عشيرة "السعدون" السنية، وتعرض عدد من ابنائها للقتل والتشريد والتهديد، تندرج ضمن مسلسل التحشيد الطائفي المدفوع الثمن، حيث يبدو ان هذه العشيرة البعيدة عن أجواء المشاحنات الطائفية في محافظة الانبار والموصل، مطالبة من قبل جهات مشبوهة لأن تتناول هي الاخرى جرعة التسييس وتشارك في "المعمعة" ولا يكون السنّة في الجنوب بعيدين عما يعيشه أقرانهم في المناطق الاخرى.

من هنا يبدو الطريق مظلماً وحالكاً أمام الطوائف المطالبة بحقوقها، وهو أمر مشروع في كل مكان، لكن ليس عبر هذا الطريق المليء بالألغام والمكائد. فأن يتبع الانسان مذهباً أو طائفة، ليس بعيب أو مدعاة للإثارة والحساسية، فهذا يندرج ضمن حرية الرأي والمعتقد في كل مكان من العالم، لكن أن تتحول هذه الحالة المقدسة والروحانية الى مطيّة للمصالح السياسية الضيقة والآنية، فهذا ما لا يقبله عقل، لأن العقيدة ومنظومة القيم والمبادئ غير قابلة للتغيير، كما هو حال السياسة، الامر الذي يفرض على الشعوب اتخاذ جانب الحيطة والحذر والتأني من أي تحرك في ساحة الصراع، والمحافظة على الحالة الدينية والانتماء الطائفي طاهرة نقية من البصمات السياسية، وبعدها ليدلي السياسي المعارض بدلوه، اذا كان يعد نفسه يمثل حقاً شعبه وأمته،وأميناً على اهدافها وطموحاتها ومستقبلها.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 24/أيلول/2013 - 17/ذو القعدة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م