قبل أكثر من ستة قرون كتب المؤرخ التونسي ابن خلدون «1332 - 1406 م»
في مقدمته الشهيرة أن «العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك... فإذا ملكوا
أمة من الأمم جعلوا غاية ملكهم الانتفاع بأخذ ما في أيديهم، وتركوا ما
سوى ذلك من الأحكام بينهم». ومعنى هذا بتعبير آخر أنهم لم يرقوا إلى
المستوى الحضاري المطلوب لرجل السياسة الرشيد الذي يحسن التعاطي مع
شؤونها ومتطلباتها بوعي وحكمة، إذ كل همهم تحصيل المكاسب الجاهزة
السريعة دون التفكير بالتطوير والإدارة والعمران. فهم كما يقول الشاعر:
وإنْ درَّت نياقك فاحتلبها.. فما تدري الفصيل لمن يكونُ.
ويتحدث في أحد فصول الكتاب عن تأصل داء السلطة عندهم، وبالتالي فإن
الحديث عن تداولها بينهم سلميا أمر دونه خرط القتاد كما يقولون. يقول
بلسان عالم الاجتماع: وأيضاً فهم متنافسون في الرئاسة وقلَّ أن يسلم
أحد منهم الأمر لغيره ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته إلا في
الأقل وعلى كره من أجل الحياء، فيتعدد الحكام منهم والأمراء وتختلف
الأيدي على الرعية في الجباية والأحكام فيفسد العمران وينتقض.
هل كان ابن خلدون يريد أن يقول لنا: انفضوا أيديكم، لن تأتيكم
الديمقراطية؟!
الغريب أن تونسيا آخر هو أبو القاسم الشابي «1909 - 1934» والذي أتى
بعد ابن خلدون بخمسة قرون، جاء محرضا على التغيير بشعره الذي يحفظه
الجميع، وبالذات بيته الأشهر:
إذا الشعب يوما أراد الحياة.. فلا بد أن يستجيب القدر
والأغرب أن المشهد العربي الجديد ابتدأ من تونس، حيث انتفض الشارع
التونسي وأطاح بحكم زين العابدين بن علي في 15/1/2011، ليكتب الفصل
الأول مما عرف بالربيع العربي، والذي لا يزال حتى الآن «2013» كتابا
مفتوحا ما اكتمل إنجازه بعد، ولا ندري إلى أين ينتهي مصيره. هل ينتهي
إلى طريق مسدود كما انتهت الموجات التي سبقتها، والتي أسماها نادر كاظم
«موجات الأمل الكبرى» في كتابه «إنقاذ الأمل؛ الطريق الطويل إلى الربيع
العربي»؟ ويقصد بالموجات الكبرى ثلاث موجات في مسيرة ممتدة على مدى
قرنين في التاريخ العربي الحديث نحو النهضة والحرية والتمدن. بدأت -
كما يرى الكاتب - بموجة التنوير ثم موجة الثورة وتلتها موجة التحول
الديمقراطي قبل أن تولد الموجة الرابعة المسماة بالربيع العربي.
يقول نادر كاظم في كتابه القيم هذا: الحاصل أن الطابع المباغت في «الربيع
العربي» قد حفز «ملكة إصدار الأحكام» لدى كثير من المتفائلين ممن أخذهم
حماسهم إلى حد الاعتقاد بأن «الربيع العربي» سيجلب الديمقراطية
الليبرالية الناجزة إلى هذه المنطقة لا محالة، وسيكون فاتحة عصر جديد
من التحولات الكبرى والمصيرية، وأنه حدث سوف يطوي صفحة ويفتح أخرى، بل
هو «أشبه بالمعجزة» التي ستحقق المستحيل وتفتح المجال «لكي ينبلج عصر
عربي جديد، وينفتح أفق غير مسبوق للعمل السياسي والتحول الديمقراطي» في
هذه المنطقة. إلا أنه لن يكون من الصعب أن نتوقع حجم الإحساس بخيبة
الأمل الذي سيكون في انتظار مثل هذه الاستجابات المتحمسة والمبالغة في
سقف توقعاتها، وذلك بعد أن ظهرت على السطح الكثير من مؤشرات الانتكاسة
حتى في بلدان «الربيع العربي» ذاتها.
إذن لا يزال الطريق طويلا، ولا تزال رؤية ابن خلدون تفعل فعلها إلى
حد كبير.
الديمقراطية التي لا تأتي (4)
كتب هاشم صالح في جريدة الشرق الأوسط في تاريخ 6 سبتمبر 2013 يقول:
أراهن على أن الظروف الموضوعية لتحقق الديمقراطية في العالم العربي
والإسلامي ككل لم تتوفر حتى الآن. ولذلك فكل كلام عن الديمقراطية هراء
في هراء، أو مجرد تمنيات وأضغاث أحلام في أحسن الأحوال، هذا إن لم يكن
مزايدات وشعارات. لم أصادف حتى الآن أي شخص ديمقراطي في العالم العربي!
أبالغ قليلا.. ولكن كيف يمكن أن نكون ديمقراطيين إذا كانت ثقافتنا
وتربيتنا غير ديمقراطية؟ يكفي أن تختلف مع أحدهم بشأن القضايا الدينية
أو السياسية لكي يحقد عليك إلى الأبد. أين هي العقلية الديمقراطية؟
أكاد أقول إنها ترف لا تقدر عليه إلا الدول المتقدمة جدا. لهذا السبب
تهرب الأدمغة من عالمنا الإسلامي لكي تتنفس هواء الحرية في الخارج.
هاشم صالح ليس بدعا من الكتاب العرب الذين وصلوا لهذه النتيجة
السوداوية المنتزعة من الواقع المر الذي تعيشه الأمة، والذي كلما ظننا
أنه اقترب من الانفراج انتكس ثانية بسبب ضعف القوى المحركة للتغيير في
مقابل الأخرى المقاومة له، والتي تستفيد من الأمية السياسية المستشرية
في الأمة طولا وعرضا.
لكن لعله بسؤاله الاستنكاري «كيف يمكن أن نكون ديمقراطيين إذا كانت
ثقافتنا وتربيتنا غير ديمقراطية؟» اختصر الكثير مما يمكن أن يقال جوابا
على سؤال: لماذا لا تأتينا الديمقراطية؟. فالديمقراطية ليست آليات
مجردة يسهل نقلها من بيئة لأخرى، بل هي ثقافة قبل كل شيء.
وما لم تكن أرضنا ربوةً مهيأة لاستقبال وابل الديمقراطية أو طلها،
فإن جِنِّي مصباح علاء الدين سيعتذر عن مساعدتنا غير آسف علينا، وكيف
يأسى على قوم يعادون الديمقراطية وإن تظاهر بعض مثقفيهم بالدعوة إليها؟!
لقد كشف «الربيع العربي» سوءات الكثير من المثقفين الذين كانوا
يُنظِّرون للديمقراطية، ويتساءلون عن الخلل في الأمة، وإذا بهم هم
الخلل نفسه.
يمكن أيضا أن نفصل الجواب على سؤال الديمقراطية التي لا تأتي من
خلال الحديث عن إشكاليتين في هذا الصدد. الأولى داخلية؛ تتمثل في
البنية الاجتماعية والثقافية السائدة، وهي بنية متخلفة لا تقيم لمفهوم
المواطنة وزنا، بل تقوم على حسابات عشائرية وقبلية ومذهبية ومناطقية
وفئوية وأمثالها. وخير دليل على ذلك إفرازات الانتخابات حيث لا يكون
التنافس على أساس البرامج، وإنما على أسس الانتماءات الفرعية.
وتتمثل أيضا في ضعف مؤسسات المجتمع المدني بسبب تغول السلطة وتدخلها
في كل شأن. كما تتمثل في التخلف التنموي على كافة الأصعدة الاقتصادية
والاجتماعية والسياسية والثقافية.
أما الإشكالية الثانية فخارجية؛ منها كما يقول عبد الحسين شعبان
«محاولات فرض الهيمنة والاستتباع بحجة التغيير الديمقراطي أو فرض خطط
الإصلاح، وكذلك الحصارات الدولية على الشعوب...، إضافة إلى العدوان
والاحتلال». فالرهان على الخارج لإحداث التحول هو رهان خاسر كما أثبتته
الأحداث، فالغرب لا تهمه الديمقراطية كثيرا بقدر ما يهمه تأمين مصالحه.
وقد عمل على إعاقة الديمقراطية في أكثر من بلد.
باختصار، كي تأتي الديمقراطية لا بد أن نعد لها العدة المناسبة
ونهيئ الأرضية الموائمة لاستنباتها، والطريق لذلك طويل طويل.
http://www.facebook.com/profile.php?id=692249194
http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/badirshibib.htm |