
قبل ستة أيام فقط من انهيار بنك ليمان براذرز في سبتمبر/أيلول 2008،
جاء تصنيف درجة الاستثمار له (أ) وفقاً لوكالة التصنيف ستاندرد آند
بورز. وانتظرت وكالة موديز لفترة أطول، فخفضت تصنيف ليمان قبل يوم عمل
واحد من انهياره. ولكن كيف لوكالات تصنيف ــ وبنوك استثمارية ــ بهذه
السمعة أن يبلغ تقديرها للأمور هذا الحد من السوء؟
إن الهيئات التنظيمية، والمصرفيين، ووكالات التصنيف تتحمل قدراً
كبيراً من المسؤولية عن الأزمة. ولكن شبه الانهيار هذا لم يكن فشلاً
للرأسمالية بقدر ما كان فشلاً ناجماً عن فهم النماذج الاقتصادية
المعاصرة لدور الأسواق المالية وطريقة عملها ــ وبشكل أوسع نطاقا، عدم
الاستقرار ــ في الاقتصادات الرأسمالية.
فقد قدمت هذه النماذج الأساس العلمي المزعوم للقرارات السياسية
والابتكارات المالية التي جعلت اندلاع الأزمة الأشد سوءاً منذ الكساد
الأعظم أكثر ترجيحا، بل وربما جعلت اندلاعها حتميا. بعد انهيار بنك
ليمان، أدلى رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي السابق ألان جرينسبان
بشهادته أمام الكونجرس الأميركي مؤكداً أنه "وجد خللا" في الإيديولوجية
التي تزعم أن المصلحة الذاتية من شأنها أن تحمي المجتمع من تجاوزات
النظام المالي. ولكن الضرر كان قد وقع بالفعل.
وبوسعنا أن نتتبع أثر هذا الاعتقاد إلى نظرية اقتصادية سائدة بشأن
أسباب عدم استقرار أسعار الأصول ــ وهي النظرية التي تفسر المخاطر
وتقلبات أسعار الأصول وكأن المستقبل يأتي كنتيجة منطقة ميكانيكية
لأحداث الماضي. والواقع أن النماذج الميكانيكية للاقتصاد المعاصر تشير
ضمناً إلى أن أي مشارك في الأسواق من المهتمين بمصلحته الذاتية ما كان
ليسمح بالمزايدة على أسعار المساكن وغيرها من الأصول إلى مستويات مفرطة
بوضوح في الفترة السابقة للأزمة. وبالتالي فقد اعتُبِرَت هذه التقلبات
المفرطة عرضاً من أعراض لاعقلانية المشاركين في السوق.
والواقع أن هذا الافتراض المعيب ــ بأن القرارات القائمة على
المصلحة الذاتية يمكن تمثيلها بالقدر الكافي من الدقة بالاستعانة
بقواعد ميكانيكية ــ كان سبباً في دعم إنشاء أدوات مالية اصطناعية
وإضفاء الشرعية على تسويق هذه الأدوات لصناديق التقاعد وغيرها من
المؤسسات المالية في مختلف أنحاء العالم، استناداً إلى أسباب يفترض
أنها علمية. ومن اللافت للنظر أن الاقتصادات الناشئة، حيث الأسواق
المالية الأقل تقدماً نسبيا، أفلتت من العديد من العواقب الأكثر فظاعة
المترتبة على مثل هذه الابتكارات.
ويمتد اعتماد خبراء الاقتصاد المعاصرين على قواعد ميكانيكية لفهم
النتائج الاقتصادية ــ والتأثير عليها ــ إلى سياسة الاقتصاد الكلي
أيضا، وكثيراً ما يستمد الإلهام من مرجع اقتصادي كبير، وهو جون ماينارد
كينز، الذي كان ليرفض نهجهم تماما. فقد أدرك كينز منذ البداية المغالطة
الكامنة في تطبيق مثل هذه القواعد الميكانيكية. وقد حَذَّر قائلا: "لقد
ورطنا أنفسنا في مستنقع هائل بفشلنا في السيطرة على آلة دقيقة لا نفهم
كيف تعمل".
في كتابه "النظرية العامة في التوظيف والفائدة والمال"، سعى كينز
إلى توفير الأساس المنطقي المفقود للاعتماد على السياسة المالية
التوسعية في توجيه الاقتصادات الرأسمالية المتقدمة للخروج من أزمة
الكساد الأعظم في ثلاثينيات القرن العشرين. ولكن في أعقاب الحرب
العالمية الثانية، طور خلفاؤه أجندة أكثر طموحا. فبدلاً من ملاحقة
تدابير تهدف إلى مواجهة التقلبات المفرطة في النشاط الاقتصادي، مثل
الانكماش العميق في الثلاثينيات، ركزت سياسات الاستقرار المزعومة على
تدابير تهدف إلى الحفاظ على التشغيل الكامل للعمالة. وافترضت نماذج
"الكينزية الجديدة" التي قامت عليها هذه السياسات أن الإمكانات
"الحقيقية" للاقتصاد ــ وبالتالي فجوة الناتج المزعومة التي يفترض أن
تملأها السياسة التوسعية لتحقيق التشغيل الكامل للعمالة ــ يمكن قياسها
بشكل دقيق.
ولكن الأمر بصراحة أن الاعتقاد في قدرة أي خبير اقتصادي على تحديد
الكيفية التي قد تتكشف بها النتائج الكلية بشكل كامل ومسبق بمرور الوقت
ــ وبالتالي تحديد المستوى المحتمل للنشاط الاقتصادي ــ هو محض زيف
وتدليس. وتُعَد التوقعات التي أوحى بها نموذج قياس الاقتصاد الكلي الذي
يستعين به بنك الاحتياطي الفيدرالي في ما يتصل بتوقيت وتأثير التحفيز
الاقتصادي على البطالة في عام 2008، والتي كانت بعيدة تماماً عن
الواقع، من الأمثلة الواضحة على ذلك.
ورغم هذا فإن التيار الرئيسي من محترفي مهنة الاقتصاد يصرون على أن
مثل هذه النماذج الميكانيكية لا تزال صالحة. فعلى سبيل المثال، يزعم
بول كروجمان، رجل الاقتصاد الحائز على جائزة نوبل، أن "الحسابات
التقريبية" القائمة على أساس "الاقتصاد الكلي النموذجي" تشير إلى أن
حزمة التحفيز المالي الأميركية التي بلغت 800 مليار دولار في عام 2009
كان ينبغي أن تتضاعف إلى ثلاثة أمثالها.
من الواضح أننا في احتياج إلى كتاب تعليمي جديد. والسؤال هنا ليس ما
إذا كان الحافز المالي ساعد، أو ما إذا كانت حزمة تحفيز أكبر لتساعد
بشكل أكبر، بل ما إذا كان من الواجب على صناع السياسات أن يعتمدوا على
أي نموذج يفترض أن المستقبل نتيجة منطقية ميكانيكية للماضي. على سبيل
المثال، لم يكن انهيار سوق الإسكان الذي جعل المتبقي من أقساط الرهن
العقاري المستحقة على الملايين من أصحاب المساكن في الولايات المتحدة
أكبر من قيمة مساكنهم في السوق جزءاً من نماذج الكتب التعليمية، ولكنه
جعل إجراء حسابات دقيقة للتحفيز المالي استناداً إلى هذه النماذج أمراً
مستحيلا. وينبغي للعامة أن يكونوا متشككين للغاية في الادعاء بأن مثل
هذه النماذج توفر أي أساس علمي للسياسة الاقتصادية.
ولكن أن نتبرأ من ما أسماه فريدريش فون هايك "تظاهر أهل الاقتصاد
بالمعرفة الدقيقة" لا يعني الانصراف عن الاحتمال المتمثل في قدرة
النظرية الاقتصادية على إثراء عملية صنع السياسات. والواقع أن إدراك
خبراء الاقتصاد وصناع السياسات والمشاركين في السوق لنقص معارفهم من
شأنه أن يخلف تأثيرات مهمة على فهمنا لعدم الاستقرار المالي والدور
الذي تلعبه الدولة في التخفيف منه.
إن تقلبات أسعار الأصول لا تنشأ لأن المشاركين غير عقلانيين، بل
لأنهم يحاولون التغلب على معرفتهم المنقوصة لتيار الأرباح الناجمة عن
المشاريع الاستثمارية البديلة في المستقبل. وبالتالي فإن عدم استقرار
الأسواق يشكل جزءاً من الكيفية التي تخصص بها الاقتصادات الرأسمالية
مدخراتها. ومن هنا فيتعين على صناع السياسات أن يتدخلوا، ليس لأنهم
يمتلكون معرفة متفوقة بشأن قيم الأصول (لا أحد يمتلك هذه المعرفة في
واقع الأمر)، بل لأن المشاركين في السوق الساعين إلى تحقيق الربح لا
يستوعبون التكاليف الاجتماعية الضخمة المرتبطة بالتقلبات المفرطة في
الأسعار.
والواقع أن هذه التقلبات المفرطة وليس الانحرافات عن قيمة "حقيقية"
متوهمة ــ سواء للأصول أو معدل البطالة ــ هي التي اعتقد جون ماينارد
كينز أن من الواجب على صناع السياسات أن يسعوا إلى تخفيفها. وخلافاً
لمن جاء من بعدهما فقد أدرك كينز وهايك أن المعرفة المنقوصة والتغير
غير الروتيني يعني أن القواعد التي تحكم السياسات، فضلاً عن المتغيرات
التي تستند إليها، تكتسب أهميتها وتفقدها في أوقات لا يستطيع أحد أن
يتوقعها.
ويبدو أن هذه النظرة عادت إلى عملية صناعة السياسات في موطن كينز.
وعلى حد تعبير ميرفين كنج محافظ بنك انجلترا السابق: "إن فهمنا
للاقتصاد غير مكتمل ودائم التطور... ووصف السياسة النقدية من منظور
القواعد الثابتة المستمدة من نموذج معروفة للاقتصاد يقودنا إلى تجاهل
عملية التعلم هذه". وقد جسد خليفته مارك كارني هذه النظرة، عندما تحاشى
القواعد الثابتة في التعامل مع السياسات لصالح السلطة التقديرية التي
تنطوي عليها نطاقات التوجيه لمؤشرات رئيسية.
وبدلاً من محاولة إصابة أهداف رقمية محددة، سواء في ما يتصل بالتضخم
أو البطالة، فإن عملية صنع السياسات تحاول بهذه الصيغة كبح التقلبات
المفرطة. وهي بالتالي تستجيب لمشاكل فعلية، وليس لنظريات وقواعد (ربما
تجاوزتها هذه المشاكل وجعلتها بلا جدوى). وإذا كنا مخلصين في التعامل
مع أسباب أزمة 2008 ــ وجادين في رغبتنا في تجنب تكرارها ــ فيتعين
علينا أن نتقبل ما لا يستطيع التحليل الاقتصادي أن يقدمه لنا حتى يتسنى
لنا أن نستفيد من كل ما يستطيع أن يقدمه بالفعل.
* رومان فريدمان أستاذ الاقتصاد في جامعة
نيويورك، ومؤلف مشارك لكتاب اقتصاد المعرفة المنقوصة
مايكل دي غولدبرغ أستاذ الاقتصاد في جامعة
نيو هامبشاير، ومؤلف مشارك لكتاب اقتصاد المعرفة المنقوصة
http://www.project-syndicate.org/ |