من الجميل أن يكون للإنسان قريب أو أقرباء يضع عندهم حمله إذا ثقل،
ويرفع عنهم وزرهم إذا ثفل، يؤثرونه على أنفسهم ويفديهم بروحه، يطلب
الخير لهم ويدفع عنهم الويل والثبور ويقرب لهم الدنيا حبّها وثمرها دون
القشور، هم إليه من المعصم السور وهو إليهم من الجيد القلادة، يرتاح
إليهم إذا حلّ على النفس دجاها، ويأنسون إليه إذا ما كسفت في ناديهم
شمس المسرة وغاب ضحاها، هم في الأفراح حالمون وفي الأتراح كاظمون،
فالمصيبة إذا عمّت طابت، وإذا ما طابت قرَّت النفس وأنست واستوقدت من
الرزيّة نار بردها فيجدون على النار هدى المسير في السراء والضراء وإن
رحل البشير أو حلّ الهجير.
وكم من الجميل أن يجد المرء قريباً لا يسلمه الى القدر إذا ما أحاط
به الكدر، ولا يتركه على قارعة الطريق إذا ضاق عليه الرفيق، ولا يميل
عليه ميلة السكين في نحر البعير إذا مالت عليه رياح التغيير في يوم
عسير، وكم وكم.
وكم من التعاسة أن يجد المرء قريباً لا ينفك عن أذاه، في الليل
والنهار، على القرب وعلى البعد، يثقل كاهله ولا ينزع عنه غائله، يسلمه
للبلاء ويغيب عند العزاء، يضع يده في جيبه إن عضّه ناب المعونة ويسلمه
لوحش العوز إن سأل المؤونة، وكم وكم!!
فكم من جميل وجميل، أنوار على أنوار، وكم من تعاسة وتعاسة، ظلمات
فوق ظلمات، وهكذا الإنسان يتهادى مهده بين الجمال وضده، في حياة
أرجوحتها تعلو بالقريب في ذرى الخيرات وتهبط به في قاع الملمات، فليس
كل قريب قريبا وليس كل رفيق رفيقا، فمن رفق بالمرء فهو قريب وإن بعد
نسباً، وإن قرب فهو رفيق وإن تقاطع سببا.
يا ترى كيف للقريب أن يعرف للقريب حقه، فيقترب منه ويوده، ولا يقتحم
عليه مضجعه ويهتك أسوار حدّه؟ ومَن هو القريب من حيث النسب والسبب،
وماذا يُراد بهما، وهل نحن مأمورون بالقربى، ومن هم القربى بالمعنيين
الخاص والعام؟
أسئلة كثيرة تفصيلية تناولها الفقيه المحقق آية الله الشيخ محمد
صادق الكرباسي في وجيزه "شريعة القربى" الصادر حديثاً عن بيت العلم
للنابهين في بيروت في 56 صفحة حوت 77 مسألة فقهية مع 24 تعليقة للقاضي
الفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري.
أسوار القربى
لا يتأتى السلم الإجتماعي وأمنه من استخدام القوة في فرض القانون
فحسب، فالقوة إنما يجري إعمالها في حال ظهور تصدعات في جدار الأمن
المجتمعي، ولكن السلم الذي ينشده كل مجتمع إنما بناته ونواته هو
العائلة الصغيرة والأسرة الكبيرة والقبيلة والعشيرة، ومجموع العشائر
وتعاونها على البر والتقوى يتحقق المجتمع السليم الذي يشدّ بعضه بعضا،
فإذا كانت النواة طيبة طابت الثمرة، فسلامة المجتمع من سلامة العائلة
الصغيرة، وسلامة الأخيرة نتاج احترام القربى وشبكتها المتكونة من تلاحم
خيوط النسب والسبب والرضاعة وتشابكها، كقربى الأب والإبن للأولى، وقربى
الزوج والزوجة للثانية، وقربى الأخوة بالرضاعة، فالمحارم النسبيّون كما
جاء في التعريف ومصداقه: (هم الذين يتقربون إلى الإنسان عبر الرحم
الواحدة أي جمعهم وإياه رحم أم واحدة، وهم ثلاثة أصناف: الأبوان
والإخوان والأولاد) اما المحارم السببيون كما يضيف الفقيه الكرباسي فهم:
(المحارم الذين يتقربون بواسطة الزواج، فلو أنّ أحداً تزوج من امرأة،
فتصبح المرأة زوجة والرجل زوجاً وهما معاً محرمان)، وأما المحارم
الرضاعية فهم: (المتقربون معاً بواسطة الرضاع بشروطه).
فالإنسان إنما سمي إنساناً لأنسه إلى الآخر، فكيف والآخر أخاً أو أو
أختاً أو أباً أو أمّاً أو زوجة أو جداً او حفيداً، هو من المحارم من
أقرب الأقرباء إليه، فهو أنيسهم وهم أُنساءه، يطرح في أرضهم بذره
يحصدون زرعه ويحلبون ضرعه وهم جميعاً فيه سواء، وبتعبير الشيخ الغديري
في تعليقه: (إن النوع البشري يحتاج الى حياة تُبنى على التودد والتحابب
فجعل الله سبحانه وتعالى التقريب والتقارب بين أبناء هذا النوع وأفراده
من أهم الأمور في الدنيا وأنفع الأعمال في الآخرة، فكل ما يقرّب
الإنسان من نوعه ورحمه ونسبه فهو يحقق التقارب أكثر فأكثر .. فالترابط
الإجتماعي قضية حيوية للنوع الإنساني).
ولما كانت الأشياء تُعرف بالأنداء، فإن صلة الرحم وهي الكلمة
المأخوذة من رحم المرأة أو بيت الجنين، يقابلها قطع الرحم، وهو أشد
مضاضة على النفس كمن يقطع من بيت الجنين أعضاءه، ويتحقق القطع بأمور
كثيرة، منها كما يشير الفقيه الكرباسي: (إيذاء بالقول أو الفعل
والتعامل معهم بأسلوب غير لائق أو التحدث إليهم بما لا ينبغي، ومن ذلك
عدم تلبية حاجاتهم الشرعية مع القدرة على تلبيتها من المأكل والمسكن
والملبس، أو دفع الظلم عنهم وعدم السؤال عن صحتهم وعدم عيادة مَن مرض
منهم أو عدم مزاوجتهم، أو عدم تعزيتهم بأمواتهم وعدم الاهتمام بهم أو
تحقيرهم والتكبر عليهم).
ومع تطور وسائل الإتصال والمواصلات والتي أصبحت في بعض الأحيان
بديلاً عن المزاورة، فهل تعد من باب قطع الرحم إذا اكتفى بها الإنسان،
هنا يأتي الفقيه الكرباسي ليؤكد: (كل ما عُدَّ قطعاً عكسه يُعتبر صلة
رحم، وفي مثل هذه الأيام يمكن أن يحلّ الهاتف أو البريد الآلي مكان
التزاور أو إرسال الرسائل وما إلى ذلك) وما جاء في النص إنما هي عينات
من وسائل الإتصال الحديثة وليس بالحصر، فهناك الفَيْسبوك (Facebook)
والتويتر (Twitter) والبريد العادي، والماسنجر (MSN Messenger)،
والتانغو (Tango) والفايبر(Viber) والإسناب جات (Snapchat) والواتس آب
(Whatsapp) والبي بي أم (BBM) والإنستغرام (Instagram) والكيك (Keek)
والكِك (Kik) والسكايب (Skype) والفَيْستايم (Facetime)، وغيرها،
والحبل على الجرار، ومن هنا فإن: (الأقارب والأرحام الذين في البلدان
الثانية يمكن التواصل معهم بالرسائل وسائر الأدوات الحديثة للإتصال حسب
القدرة والإستطاعة).
آثار جلية وخفية
ولا يخفى أن المنعة الإجتماعية هي أهم القلاع في الدفاع عن المجتمع
من الأخطار الداخلية والخارجية، وكلما كان المجتمع قوياً كان أكثر
مهابة في عيون الآخر، وهذه المنعة تقتضي التعاون والتراحم ولذلك جاء
التأكيد: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا
عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ) المائدة: 2، وإذا غاب التعاون وتراجعت
القربى غاب التحالف وحضر التخالف، وحلّ الفشل في ميدان المجتمع، وهي
معادلة كونية فطرية، قال تعالى: (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ
تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ
اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) الأنفال: 46.
ومن آثار التنازع قطع الرحم، وفي ذلك قال تعالى: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ
إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا
أَرْحَامَكُمْ)، صحيح أن الآية نزلت في بني أمية وقطعهم لرحم بني هاشم،
ولكنها قائمة في كل مجتمع، ولخطورة قطع الرحم على المجتمع كأفراد
وجماعات، فقد جاء التأكيد عليه ولو بشربة ماء، فقد ورد عن الإمام جعفر
بن محمد الصادق(ع): (صِلْ رحمك ولو بشربة من ماء، وأفضل ما توصل به
الرحم كفّ الأذى عنها وصلة الرحم منسأة في الأجل محبّبة في الأهل)، وعن
جده الرسول الأكرم محمد(ص): (مَن سرّه أن يُبسط له في رزقه وأن يُنسأ
له في أثره، فليصل رحمه)، وعن الإمام محمد بن علي الباقر(ع): (صلة
الأرحام تُحسن الخلق وتسمح الكف وتطبب النفس وتزيد في الرزق وتنسئ في
الأجل).
ومرة ثانية، ولما كانت الأشياء تُعرف بأضدادها، فإن قطع الرحم تؤدي
ما كان مؤداه سيئاً على الخَلق والخُلق، قال رسول الله محمد(ص) في جملة
ما يحدث بعده ويؤدي الى فشل الأمة: (وإذا قطعوا الأرحام جُعلت الأموال
في أيدي الأشرار)، وهذه حقيقة نعيشها كما هي من دون رتوش حيث أموال
الأمة بيد أشرارها وسفهائها يصرفونها على كل ما يؤدي إلى ضعف منعة
الأنا وقوة منعة الآخر، وفي حديث آخر عن الإمام الصادق(ع) في بيان أثر
قطع الرحم على سني عمر الإنسان: (إنَّ الرجل ليقطع رحمه وقد بقي من
عمره ثلاثون سنة فيجعلها الله ثلاث سنين، إنّ الله يفعل ما يشاء).
وإذا كان إكرام القربى والمودة إليهم ووصلهم منحصر بشكل عام في
القربى النسبية والسببية والرضاعية، فإن مفهوم القربى بالمعنى الخاص
متوجه الى قربى النبي محمد(ص) الذين أمر الرب عباده بالمودة إليهم، وهم
أهل البيت الذين خصّهم القرآن بآية التطهير فقال تعالى: (إنَّمَا
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) الأحزاب: 33، وهم الذين خصّهم بآية
المودة: (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ
فِي الْقُرْبَى) الشورى: 23، ومن أهم معالم المودة بتقدير الفقيه
الكرباسي: (السير على خطاهم وتقديمهم في الإمامة على غيرهم والأخذ
بمذهبهم ونهجهم وعدم الحياد عنهم بالغلو أو النصب)، ومن مظاهر المودة:
(وجوب إطاعة الأئمة المعصومين(ع) والإلتزام بأقوالهم وأفعالهم)، ومن
ذلك أيضا: (إحياء مناسباتهم والفرح بأفراحهم والحزن لأحزانهم) ولا
ينبغي تجاوز الحد في الحب والمودة، إذ: (من المودة عدم المغالاة في
حقهم)، وفي تعليق على المسألة يرى الشيخ الغديري أن: (الغلو حرام إذا
انتهى الإعتقاد بألوهيتهم)، وقد أفرد الفقيه الكرباسي لقربى آل
النبي(ص) شريعة تناولتها بالقراءة في المقال الموسوم (منتهى المآل في
شريعة الآل).
وبشكل عام فإن القربى أمر على غاية من الخطورة، فمن جانب: (إنَّ صلة
الرحم مستحبة مؤكدة وفيها الأجر والثواب) ويزيد الغديري على الكرباسي
بالقول: (وقد تجب إذا توقف أداء بعض الحقوق الواجبة عليه، أو بحكم
ثانوي لأجل مصلحة يقتضيها المجتمع الإسلامي)، من جانب آخر فإن: (قطع
الرحم محرّم إذا وصل إلى حد الجفاء ويُعتبر من الكبائر)، والإنسان بشكل
عام في مواقفه في الحياة الدنيا يتأرجح بين الصلة والقطع، بين القرب
والبعد، وذلك نتيجة للمؤثرات الإجتماعية المتعددة الدوائر التي تضغط
عليه في جانبي الدفع والجذب، وصدق الإمام الحسن بن علي(ع): (القريب من
قرَّبته المودة وإن بَعُد نسبُه، والبعيد من باعدته المودة وإن قرُب
نسبُه).
* الرأي الآخر للدراسات- لندن
http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/nazeeralkhazraji.htm |