تعلّمنا التجارب السياسية والاجتماعية، أن إهمال المشاكل، وعدم
الجدية في معالجة بعض الأزمات في بداياتها، يفضي إلى تضخم هذه المشاكل
والأزمات وانفجارها، ما يؤدي إلى خسائر وتبعات هائلة أكثر بكثير مما لو
عولجت هذه المشاكل في وقتها.. فالزمن لا يعالج المشاكل، بل يزيدها نضجا
وتوسعا وتعقيدا.. والتسويف والتأجيل يؤدي إلى مضاعفات خطيرة، والتغافل
عن المشاكل والأزمات وهي في المهد، قد يقود إلى تراكم هذه المشاكل
واستفحالها، ما يصعب بعد ذلك مشروع الحل والمعالجة..
وهذه الحقيقة موجودة في الحياة الاجتماعية، كما هي موجودة في الحياة
السياسية.. فالأسرة التي تعاني من مشكلة بسيطة مع ابنها، إذا تغافلت عن
هذه المشكلة، أو لم توليها العناية للأزمة، فإن مشكلة هذا الابن
ستتفاقم، وقد تقود إلى خيارات ليست مرغوبة في الوسط الأسري.. فهناك
الكثير من الآباء الذين خسروا أبناءهم من جراء مشكلة لو تم معالجتها في
وقتها لما وصلت الأمور إلى نهاياتها غير السعيدة.. كما أن هناك الكثير
من الأمهات، اللاتي تغافلن عن مشاكل بناتهم، وتعاملن مع هذه المشاكل
باستهتار أو بدون اهتمام، فأدت إلى متواليات أسرية واجتماعية شعر
الجميع بفداحتها.. كما أن الأصدقاء مع بعضهم البعض، إذا لم يتصارحوا
ويعالجوا مشاكلهم الطبيعية بهدوء وجدية، فإن هذه الصداقة ستضحى مهددة
من هذه المشاكل التي تغافلوا عنها أو لم يتعاملوا معها بجدية كافية..
فليس عيبا في أي دائرة اجتماعية، أن تكون هناك مشاكل وأزمات، لأن هذا
من طبائع الأمور والحياة، ولكن العيب الحقيقي حينما لا يتمكن أطراف هذه
المشكلة من معالجة مشاكلهم وهي صغيرة ومحدودة، لأنها ستتحول إلى مشكلات
كبيرة ومعقدة..
فالهروب من المشاكل لا يغير من معادلة وجودها، بل يزيد من تأثيرها
واتساع دائرتها وتعدد أطرافها..
وهذه الحقيقة كما هي مؤثرة على الحياة الاجتماعية، هي كذلك مؤثرة في
الحياة السياسية، سواء على صعيد الدول أو الشعوب أو الجماعات الفاعلة
في الحقل السياسي.. فمشاكل الحياة السياسية من أي موقع، إذا لم تعالج
ويتم الالتفات إليها مبكرا، فإنها ستتحول إلى أزمات سياسية مفتوحة على
كل الاحتمالات.. فالمشكلات السياسية هي في جوهرها خطأ بشري سواء على
صعيد الممارسة أو الخيار مع إهمال بشري مقصود أو غير مقصود ما يؤدي إلى
بروز ما نسميه مشكلة أو أزمة سياسية..
فالمشاكل السياسية لا تنتج من الأخطاء، لأن الحياة السياسية هي حياة
تجريبية وكل أطرافها يصيبون ويخطئون، ولكن هذه الأخطاء السياسية
المتكررة، إذا رافقها إهمال مؤسسي مقصود أو غير مقصود، فإنها أي
الأخطاء تقود إلى أزمات وبؤر سياسية متوترة.. فكل دول العالم ومؤسساته
السياسية تخطئ مع بعضها البعض، أو تخطئ بحق شعبها ومجتمعها.. ولكن
الفرق الجوهري بين الدول، يتجسد في طريقة تعامل مؤسسات الدولة مع
أخطائها أو قصورها سواء تجاه دولة أخرى أو تجاه شعبها وخياراته
المتعددة..
فالدول الحية والدينامية، هي تلك الدول التي تمتلك القدرة الذاتية
على معالجة أخطائها والتنازل عن بعض الخطوات أو الخيارات التي اكتشفت
خطأها..
فالتنازل عن الخطأ على هذا الصعيد، ليس عيبا، وإنما هو قدرة ذاتية
وشجاعة مؤسسية تحول دون تراكم الأخطاء.. لأنها تدرك أن تراكم الأخطاء
يقود إلى أزمات سياسية مفتوحة على كل الاحتمالات..
أما الدول الفاشلة والغبية سياسيا، فهي التي لا تلتفت إلى أخطائها،
وإذا التفتت لا تمتلك الدينامية الذاتية لمعالجة الخطأ بشكل سريع..
فتتراكم لديها الأخطاء، فتتحول مع الزمن إلى بيئة مولدة للتوترات
والأزمات سواء أكانت داخلية أم خارجية..
لذلك فإن الدول الناجحة دائما، هي الدول التي تمتلك أجهزة رقابية
ومحاسبية فاعلة وحاضرة في المشهد.. لأن فعالية المراقبة والمحاسبة، هي
التي تمكن الدول من معالجة أخطائها بشكل سريع، وتصفية جميع التأثيرات
العامة لهذه الأخطاء..
والتصفية هنا لا تعني التشريع للعمل التعسفي، وإنما طبيعة الدينامية
الذاتية التي تمتلكها مؤسسات الدولة، هي التي تؤدي إلى معالجة شاملة
للأخطاء سواء على صعيد جذورها وأسبابها، أو على صعيد تأثيراتها
ونتائجها..
ولقد ارتسمت هذه الحقيقة بعناوينها المختلفة في كل بلدان المنطقة
العربية بطريقة أو أخرى.. والدول التي تمكنت من الخروج من مآزقها
وأزماتها الذاتية أو العرضية، هي الدول التي تمتلك حساسية مؤسسية تجاه
أخطاء سياساتها وممارساتها، فبادرت بشكل سريع ودائم لمعالجة هذه
الأخطاء.. أما الدول التي تمكنت منها المشاكل والأزمات، فهي الدول التي
تغافلت عن أخطائها، وتساهلت في انجاز مشروع رضا شعبها عنها، فأدى
التغافل والتساهل إلى دخول هذه الدولة في مرحلة الفشل.. وهي كل دولة
ليست قادرة بوسائلها السياسية من معالجة مشاكلها وتجسير العلاقة مع
شعبها بكل مكوناته وأطيافه.. وفي سياق العمل، لكي لا تتحول أخطاء الدول
العربية السياسية إلى حالة فشل مستديم، نود التأكيد على النقاط التالية
:
1- ضرورة تفعيل الأجهزة الرقابية والمحاسبية في الدول العربية، لأنه
لا يمكن تطوير الأوضاع الإدارية، وتصحيح بعض الاعوجاجات والاختلالات،
إلا بتطوير الأجهزة الرقابية والمحاسبية.. كما أن تفعيل هذه الأجهزة،
هو الذي يحول دون تحول الأخطاء السياسية إلى حالة فشل، تؤبد التراجع
العربي، وتحول دون الانعتاق من ربقة الهامشية في العلاقات الإقليمية
والدولية..
2- تطوير الحياة السياسية وتزخيمها الدائم بدماء وكفاءات جديدة،
تطرد حالة الترهل، وتنهي واقع الجمود..
لذلك فإننا نعتقد أن الدول التي تطور حياتها السياسية والاجتماعية
باستمرار، هي الدول الناجحة، والبعيدة كل البعد عن الفشل السياسي
والجمود الإداري.. أما الدول التي لا تعتني بتطوير حياتها السياسية،
ولا تلتفت إلى ضرورة تجديد وتوسيع قاعدتها الاجتماعية، فإنها تمارس
الخطأ وتكرره، دون قدرة فعالة على معالجة هذه الأخطاء، فتصاب من جراء
ذلك بحالة فشل سياسي سواء في حقل سياساتها وخياراتها الداخلية، أو حقل
سياساتها وخياراتها الخارجية..
لهذا ثمة ضرورة قصوى في كل الدول والبيئات السياسية، إلى تطوير
حياتها السياسية والخروج من حالة إبقاء ما كان على ما كان.. لأن هذه
الحالة هي التي تعمق الأخطاء وتحولها إلى حالة فشل مستديم في الدول
والمجتمعات..
3- فسح المجال القانوني للآراء والقناعات المختلفة للتداول على
المستويات الإعلامية والاجتماعية والسياسية.. وذلك حتى تتعدد وتتنافس
الخيارات، وتتسع دائرة الوعي والفهم في المجتمع..
أحسب أن هذه النقاط الثلاث، هي القادرة على التعامل مع أخطاء الدول
بعيدا عن احتمالات الفشل، وهي التي تعيد المؤسسات العامة على مستوى
الأداء إلى جادة الصواب باستمرار.. فالأخطاء والإخفاقات على مستوى
الخيارات والأداء من طبيعة الحياة السياسية والإدارية، ولكن استمرار
هذه الأخطاء والإخفاقات هو الذي يدخل الدول في مرحلة الفشل.. لذلك فإن
الدول المتقدمة، تعتني بمسألة إيجاد آليات مؤسسية، تحول دون تكرار
الأخطاء، وتعمل على التجديد والتطوير الدائم، لإزالة كل الأسباب
والعوامل المفضية إلى التراجع والفشل والإخفاق..
http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/mohamed%20mhfoth.htm |