التعصب.. مقبرة الإيمان

موقع الامام الشيرازي

 

كما أن (الجهل مميت الأحياء)، فإن التعصب مقبرة العقل، وهو الطريق إلى الجهل والخراب والاحتراب، والتعصب في اللغة معناه: (صنع العصابة على العين لكيلا تبصر)، وهو اعتقاد المتعصب بأنه يسير على الطريق الصحيح، وبأنه يملك الحقيقة كاملة، وإن الآخر على خطأ دائماً. وقد اشتق مفهوم التعصب (في أصله الأوروبي) من المصطلح اللاتيني (Praeigudicim)، ويعني (الحكم المسبق)، أما في اللغة العربية، فهو مشتق من العصبية، والتي تعني أن ينصر الفرد عصبته ظالمين أو مظلومين. يقول الإمام زين العابدين(ع): (العصبية التي يأثم عليها صاحبها، أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين).

قدم علماء النفس تعريفات لمفهوم التعصب، وإن كانت هذه التعريفات قد ركزت -في البداية -على (التعصب السلبي)، دون تناول (التعصب الإيجابي)، ربما لأن النوع الأول هو الذي يسترعي الاهتمام. ومن التعريفات المقدمة لمفهوم التعصب، والتي ركزت على جانبه السلبي فقط، التعريف الذي قدمه (نيوكومب) وآخرون، ومؤداه أن التعصب (يمثل استعداداً للتفكير والشعور والسلوك بأسلوب مضاد لأشخاص آخرين، لكونهم أعضاء في جماعة معينة). كذلك يعرفه (ستيفان) بأنه: (اتجاهات سلبية تجاه أفراد ينتمون إلى جماعة معينة، سواء قامت هذه الجماعة على أساس ديني، أو سياسي، أو أنها تنتمي إلى طبقة اجتماعية معينة، أو كونها تتسم بخصائص معينة). ويلخص (أولبورت) التعريفات العديدة التي تناولت التعصب من جانبه السلبي، بأنها تركز على أنه: (تبنى الأفكار السيئة عن الآخرين، دون توافر دلائل كافية تبرر ذلك). ومن التعريفات التي عنيت بالتعصب (السلبي والإيجابي) على السواء، التعريف الذي قدمه (كلينبرج)، ومؤداه أن التعصب هو: (مشاعر أو استجابات خاصة لدى بعض الأشخاص، توجه نحو أي موضوع من الموضوعات، لا تقوم على أساس واقعي، وقد تكون إيجابية أو سلبية). ويقول الإمام زين العابدين(ع): (ليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم).

التعصب نقيض الاحترام والقبول والتقدير للتنوع الثري لثقافات الآخرين، وهو اتخاذ موقف سلبي إزاء حق الآخر في التمتع بحقوقه الإنسانية وحرياته. والتعصب هو نمط من السلوك يتصف بالتحيز الظاهر، والميل الشديد الذي يتمازج فيه العامل النفسي مع العامل الذهني، ويتمحور حول شيء ما، إما تجاه فكرة أو مبدأ أو معتقد، وإما تجاه شخص أو عشيرة أو جماعة. ودائماً ما يكون التعصب ناظراً إلى طرف آخر، وبدون هذا الآخر لا يكون للتعصب من حاجة أو معنى، وبالتالي فإن التعصب هو موقف سلوكي تجاه الآخر المختلف أو المغاير، فالذي يتعصب لفكرة يكون ناظراً لفكرة أخرى عند طرف آخر، وهكذا من يتعصب لشخص أو عشيرة أو جماعة. والآخر في مثل هذه الحالة يمثل حاجة وضرورة لاستثارة روح التعصب، وتحريك كوامنه، وإطلاق دفائنه، وإشعال حميته. وبدون الآخر والاحتكاك به، والتعرض له، والتراشق معه، يخبو روح التعصب، ويفقد فورته وحرارته، ويصاب بالخمول والانطفاء. وهذا يعني أن الآخر هنا، يجري استحضاره بطريقة منقوصة ومشوّهة، ولأغراض توظيفية.

إن ذهنية التعصب لا تحتمل إلا صورة منقوصة ومشوّهة عن الآخر، ولا تتعامل معها إلا بطريقة نمطية وتوظيفية، ولا تتقبل صورة نزيهة وموضوعية عن الآخر، فمثل هذه الصورة النزيهة والموضوعية يمكن لها أن تنتقص من الذات، وتقلل من شأنها وشأن مكانتها ومنزلتها، أو تمس من هيبتها وشوكتها، أو هكذا يمكن أن تفسر عند أصحاب هذه الذهنيات. كما أن مثل هذه الصورة النزيهة والموضوعية عن الآخر، يمكن لها أن تمتص روح التعصب وتذوّبه، أو تحد منه ومن سطوته.

لا اختلاف على أن التعصب آفة تأكل عقل الفرد بتوترات نفسية، وتشتت جهد الجماعات بصراعات فرعية، لهذا فإن من الإيمان والعقل الابتعاد عن التعصب، والتمسك بنبل الانفتاح على الآخر، وإدراك أن ذلك فضيلة لا يمكن التفريط بها. لأن الانفتاح على الأفكار صورة من صور التكيف مع الذات، وضرورة من ضرورات الانسجام المتبادل مع الآخر وتحاشي الصراع.

إن المتعصّب يعيش شداً نفسياً مشحوناً بالانفعالات المتحاملة على الآخر، وتوتره من الآخر لا يقوم على سند منطقي أو معرفة كافية، بل في كثير من الأحيان يستند إلى معلومات بعيدة عن الواقع، يتم التعامل معها على إنها حقائق. والمتعصب يرى الأشياء من منظاره الخاص (المختنق) فقط، ولذا فإن من أعراض التعصب أنه يشّل القدرة على إدراك الواقع. كما أن المتعصب شخص سريع التأثر والانفعال والتوتر، وله قابلية عالية وغير منضبطة للانفجار والاهتياج.

ويبقى التعصب الديني أبرز أشكال التعصب ظهوراً (أثراً وتأثيراً) في المشهد الإسلامي، ليس اليوم فقط، بل منذ مئات السنين، وهو أخطر أنواع التعصب لإرتباطه بـ"مقدسات"، ولأن التعصب الديني غالباً ما يكون – تاريخياً – مغمساً بدماء الأبرياء، وكله باسم الرب، وهو ما نراه في العراق وسوريا من مذابح وتفجيرات وحشية، تلاحق الشيعة – على وجه الخصوص - أينما وجدوا.

إن طريق الإيمان لا يكون إلا بمعتقد يفقهه الإنسان بعقله لا باستيراثه من أحد، يقول أمير المؤمنين(ع): (قوام المرء عقله، ولا دين لمن لا عقل له)، (بالفكر تتجلى غياهب الأمور). لذا ينبغي على الإنسان استكشاف الأفكار عبر القراءة الموضوعية والبحث المقارن، فـ(ليس طالب الدين من خبط أو خلط). وإن بإعمال العقل، سيختار الإنسان ما هو أحسن، يقول(عزوجل): ((الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه)). وإن الخيط الدقيق الذي يفصل بين الالتزام بالحق والتعصب على الرأي، هو حينما يمارس الشخص الفرض والقهر والحرب لتعميم أفكاره وقناعاته، فهو يتجاوز حدود الالتزام الطبيعي، أما إذا اعتز الإنسان بأفكاره، وعمل على تعميمها بوسائل سلمية، وتعامل مع قناعاته بوصفها حقائق نسبية، قابلة للصح وقابلة للخطأ في آن، فإنه يمارس التزامه الطبيعي، وهذا بطبيعة الحال من الحقوق الطبيعية لأي إنسان.

ولقد نبه القرآن الكريم الإنسان إلى مسؤولية القرار، قرار العقل والفكر والرأي، قال(عزوجل): ((وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)). وقد حذر رسول الله(ص) والأئمة الأطهار(ع) الطريق لتجنب الإنسان من الوقوع في التعصب، فقال(ص): (مَنْ كان في قلبه حبة من خردل من عصبية، بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية). وقال(ص): (ليس منّا مَنْ دعا إلى عصبية، وليس منا مَنْ قاتل على عصبية، وليس منّا مَنْ مات على عصبية)

* يقول أمير المؤمنين(ع): (ولقد نظرت فما وجدت أحداً من العالمين يتعصّب لشيء من الأشياء إلا عن علة تحتمل تمويه الجهلاء، أو حجة تليط بعقول السفهاء غيركم، فإنكم تتعصبون لأمر ما يعرف له سبب ولا علة أما إبليس فتعصب على آدم لأصله، وطعن عليه في خلقته فقال: أنا ناريّ وأنت طينيّ، وأما الأغنياء من مترفة الأمم فتعصبّوا لآثار مواقع النعم، فقالوا: نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذّبين (...) فإن كنتم لا محالة متعصبين، فتعصبوا لنصرة الحق وإغاثة الملهوف).

* يقول الإمام الشيرازي(قده): قد يُبتلى الفرد أو المجتمع بمرض نفسي، يسمى بالتعصب، الذي هو انحراف في العاطفة بدون منطق، فيصر على ما في جانبه، وإن لم يكن له دليل، ويرفض ما هو لصالح الآخر، وإن كان للآخر دليل، ويمكن للحزب والجماعة و... أن يبتلى بالتعصب أيضاً. وإذا أشتد التعصب حتى صار الفرد أو المجتمع حساساً شديد الحساسية تجاه ما يراه سُمي ذلك بالعقدة، كأن النفس انعقدت على ذلك الجانب، دون ملاحظة التوسط والحق، اللذين أكد الإسلام على التمسك بهما، فالتعصب داء يجب اجتنابه.

* أجوبة المسائل الشرعية العدد (192)

http://alshirazi.com/rflo/ajowbeh/ajowbeh.htm

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 9/أيلول/2013 - 2/ذو القعدة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م