تُعتبر نظرية استشراف المستقبل" prospect theory" احدى المساهمات
الهامة في دراسة الاقتصاد. انها تتحدى بعض الافتراضات الاساسية التي
وضعها الاقتصاديون فيما يتعلق بالسلوك الانساني. دانيال كاهمان الحائز
على جائزة نوبل في الاقتصاد هو من بين الباحثين في هذه الفكرة. لكن
المفارقة السائدة في علم الاقتصاد هي ان نظرية المستقبل منذ ظهورها عام
1979 ، لم يكن لها تأثيراً كبيراً على المشاكل الحقيقية للعالم.
في ورقة جديدة للاقتصادي (نيكولاس باربريز) في جامعة يال، وجد ان
هذا الانطباع لم يكن صائباً. باربريز أوضح ان نظرية المستقبل أثّرت
فعلاً في دراسة المالية وهي يمكنها ان توضح بعض الألغاز الاساسية في
كيفية عمل الاسواق.
لكي نفهم نظرية المستقبل، نحتاج الى معرفة ما لا تتفق معه هذه
النظرية. العنصر المثير للإشكال في هذه الدراما هو "نظرية المنفعة
المتوقعة"، التي هي عبارة عن سلسلة من الافتراضات المتصلة بالسلوك
الانساني.
تؤكد نظرية المنفعة المتوقعة على ان الناس جيدون في حساب الاحتمالات
– الناس يدركون ان الطائرة سوف لن تسقط اثناء الرحلة، ولذا هم لايشعرون
بالفزع. النظرية تؤكد ايضا ان الناس يتحسسون الاشياء الجيدة والاشياء
السيئة بنفس المقدار من الشعور - العثور على خمسة دولارات في الشارع
يثير الفرح بنفس مقدار الألم الناتج عن فقدان خمسة دولارات.
ان نظرية المستقبل لا تتفق مع هذين الافتراضين. مناصرو النظرية
استخدموا عدداً كبيراً من الاختبارات السايكولوجية - وهي الموضة
الجديدة في الاقتصاد- للوصول الى استنتاجاتهم. النظرية تبيّن ان الناس
هم في الحقيقة يجهلون حساب الاحتمالات. حيث انهم يشعرون بالفزع عند
الطيران ولا يمكن لأي مقدار من الحجج الاحصائية ان يحررهم من ذلك القلق.
النظرية تبين ايضا ان الناس يجدون الأشياء السيئة نسبيا اكثر سوءاً مما
يجدوا في الاشياء الجيدة. هم يشعرون بألم واضح حين يفقدون خمسة دولارات،
بينما يشعرون بفرح بسيط حين يعثرون على نفس المبلغ.
نظرية المستقبل هي نوعا ما ذات طابع تجريدي. معادلاتها تكفي لنفور
اي شخص منها. لكنها مفيدة في معالجة المسائل المحيرة في الاسواق
المالية.
احد الألغاز هنا يتعلق بمتوسط المردود. لماذا بعض السندات تكون
مردوداتها اقل من السندات الاخرى؟ مثلا، السندات التي يحصل فيها طرح
عام اولي(Ipo)(1) تعطي مردود اقل مقارنةً بالشركات التي لا تمارس الطرح
الاولي للجمهور. الاقتصاديون عموما استخدموا نظرية يُطلق عليها نموذج
تسعير اصول رأس المال (CAPM)، طُور اثناء الستينات لأجل حل هذا اللغز.
نموذج تسعير اصول رأس المال يؤكد ان أخطر الاستثمارات - التي يكون مدى
التقلّب فيها أعلى مما في السوق - يجب ان تعطي أعلى نسبة مردود. وهو
امر بديهي، ولكن لم يكن هناك دعماً تجريبياً واضحاً لهذه الفكرة ، حيث
ان السندات الاكثر تأرجحاً لا تمتلك عملياً أعلى المردودات.
نظرية المستقبل تعرض توضيحاً بديلاً. يرى (باربريز) ان السندات ذات
المردود الواطئ تكون ذات انحناء ايجابي عالي"positive skewness".
التعرج الايجابي يحصل عندما تحقق السندات ولعدة سنوات متوسط مردود يكون
احيانا عاليا. حينما يحصل للسندات تعرج ايجابي، فان المستثمرين سيسطر
عليهم شعور بالتفاؤل – وان كان قليلاً- في ان يصبحوا اغنياء جداً. هم
يتكهنون ان الاداء الجيد الذي يحصل في حالات نادرة يمكن تحويله الى
اداء جذاب جداً. ما يمتلكونه من سندات او اسهم قد يكون بالضبط
المايكروسوفت القادم. هو بالتأكيد لن يكون كذلك، لكن المستثمرين هم أقل
خبرةً في تقييم احتمالات المستقبل. وبسبب هذا الضعف في حساب
الاحتمالات، يبالغ المستثمرون في التقييم غير المحتمل لحالة العالم
الذي يصنعون فيه المزيد من النقود. حيث يراكمون الكثير من الاموال
فيهبط المردود.
ان الفرق بين مردود سوق الاسهم ومردود سندات الحكومة هو ايضا محير.
في الشطر الاكبر من القرن العشرين، كانت نسبة المردود على سندات
الحكومة أقل بنسبة 6% من مردود الاسهم والسندات. الاستهلاك التقليدي
المرتكز على نماذج تسعير الاصول المعتمدة على نظرية المنفعة المتوقعة
لا يمكن ان يكون سببا لهذا التباين. لكن نظرية المستقبل تستطيع تفسير
ذلك. المستثمرون يؤمنون بفكرة ان الخسارة أكثر الماً بدلاً من فكرة
الربح اكثر سروراً. لذا عندما ينظرون الى التوزيع العالي لمردودات سوق
الاسهم، هم يشعرون بالفزع. شراء الاسهم قد يقود الى الخسائر، وهم يجدون
هذا صعب جداً. بالمقابل، اوراق الخزانة ليس لها توزيع ذو مردود عالي.
المستثمرون يشعرون بالأمان. وبالتالي، وبسبب "كراهية الخسارة" يطلب
المستثمرون متوسط مردود على الاسهم أعلى من مردود اوراق الخزانة.
العديد من نماذج الاقتصاد المالي وثقت بالافتراضات المتعلقة بصناعة
القرار الانساني الملتبس. الباحثون يعترفون الآن بذلك. لكن استخدام
نظرية المستقبل في مجالات اخرى من الاقتصاد هي ليست واسعة. باربريز
يُعتبر من المتحمسين بشأن الفوائد المحتملة لنظرية المستقبل في
الاقتصاد الكلي. هو ايضا، يقترح، بحذر، ان النظرية يمكن استخدامها في
صياغة تعليمات اكثر انضباطاً للسوق. ان نماذج الاقتصاد الكلي-
والتعليمات- تحتاج الى تحديث لكي تعمل على إحداث تقدم في فهم الكيفية
التي تتم بها عملياً قرارات الانسان.
http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/hatimhameed.htm
.............................
Barberis Nicholas c. 2013"ثلاثين سنة لنظرية
المستقبل في الاقتصاد: مراجعة وتقييم". نُشرت في Journal of Economic
perspectives,27(1): 173-96
الهوامش
(1) IPO او (initial public offering) الطرح العام
الاولي للسندات او الاسهم هو اول عملية بيع للاسهم تقوم بها الشركة
الخاصة الى الجمهور، غالبا ما تكون الشركة المصدرة للاسهم من الشركات
الصغيرة والشابة الباحثة عن رأس مال لأغراض التوسع الاستثماري.لكنها
يمكن ان تصدر من شركات خاصة كبيرة. الشركة التي تطرح مثل هذه السندات
عادة ما تحصل على الدعم والمساعدة من مؤسسة مالية كبيرة تحدد نوع
الاسهم المزمع اصدارها(عادية او مفضلة)، وأفضل سعر تُباع فيه والوقت
المناسب لطرحها في الاسواق. |