![](Images/344.jpg)
شبكة النبأ: إنها لفرحة كبيرة أن نشهد
الشريحة المثقفة والواعية من الجيل الصاعد في العراق، وهي تصدح بالحق
والقيم الإنسانية والأخلاقية وتطالب بصوت عالٍ طوال فترة من الزمن
بإلغاء الراتب التقاعدي المجحف الذي يتقاضاه نواب مجلس النواب ومجالس
المحافظات، فقد وجدوا فيه استنزافاً مريعاً لثروة البلاد، واستباحة
لحقوق الشعب العراقي الذي يفترض انه هو المالك الحقيقي للثروة النفطية
التي تضمن توفير كل تلك الاموال التي هطلت على النواب والوزراء
والمدراء وكبار المسؤولين خلال العشر سنوات الماضية.
حسب احصائية من مصادر عراقية، فان مجموع الرواتب التقاعدية منذ
تأسيس مجلس الحكم بعد الاطاحة بصدام، وحتى تشكيل الدورة الاخيرة من
مجلس النواب، وايضاً مجالس المحافظات، كلف ميزانية العراق (654) مليار
و(290) مليون و(400)ألف دينار عراقي. وعلى البنك المركزي العراقي تخصيص
مبلغ (108) مليار دينار سنوياً من نفط الشعب العراقي لهؤلاء كراتب
تقاعدي.
فالتحرك إيجابي ومطلوب، وعلى الجميع المشاركة في التظاهرة التي دعت
اليها منظمات المجتمع المدني والنقابات والهيئات المستقلة يوم الواحد
والثلاثين من هذا الشهر في عديد محافظات البلاد لمطالبة مجلس النواب
تشريع قانون جديد يحد من هذا الاستنزاف الذي يتعارض تماماً مع الهدف
المرسوم لنواب الشعب ، وايضاً لأهداف وطموحات الشعب العراقي.
ولكن..؟! لنفترض أن هذه التظاهرة الجماهيرية – الاعلامية الواسعة،
أتت ثمارها واستجاب مجلس النواب – ولو من الناحية الظاهرية ولكسب
الشارع- وتم تشريع قانون يخفض مستوى الرواتب، السؤال؛ اين ستذهب
الاموال المستحصلة من حالة الترشيد؟ لنفترض اننا سنكون أمام مبلغ قدره
(50) مليار دينار زيادة من المبلغ المذكور (108) مليار دينار سنوياً،
فهل لدينا مؤسسة او دائرة مقتدرة وكفوءة توجه هذا الفائض الى الصالح
العام؟
اعتقد من الجيد على مؤسسات المجتمع المدني والمعنيين من إخواننا
الحريصين على المال العام، ومن طلائع الرفض للرواتب التقاعدية، مطالعة
تجربة ايران، البلد المجاور، في كيفية استحصال مبالغ ضخمة من خطة رفع
الدعم عن السلع الاساسية، واستبدالها ببدل نقدي وزعته الحكومة على
افراد الشعب الايراني، وهم بواقع حوالي (80) مليون نسمة. وهذه الدعوة
موجهة الى المسؤولين في الدولة العراقية ايضاً. فنحن نطمح – بالحقيقة-
الى نتائج مثمرة من خلال نزولنا الى الشارع والهتاف ، ثم إحداث تغيير
ملموس يستشعره المواطن العراقي.
ان حصول النواب والمسؤولين على الملايين بل والمليارات من الدنانير،
لم تكن بعيدة علم معظم ابناء الشعب، لكن المسألة باتت مستساغة ومستسهلة
عندما يعيش المواطن يومياً وسط مستنقع الرشاوى والفساد الاداري، وبلغ
هذا الفساد حدّته وبشاعته على أفواه الناس عندما أميط اللثام عن
الاختلاسات في مفردات البطاقة التموينية، وهي ليست فقط سلّة الغذاء
الوحيدة الممكن حملها عند كل العراقيين، بل هي طوق نجاة لشريحة واسعة
من محدودي الدخل. كما وشملت الكهرباء.. هذا القطاع العجيب في أمره،
والذي بات يشكل حلماً للعراقيين. لذا لا نعجب اذا تساءل الناس عن مصير
تلك الاموال وهي بملايين الدولارات، هذين القطاعين وغيرها من المشاريع
الوهمية والعقود المزيفة والسرقات منذ تشكيل أول حكومة يفترض انها تمثل
العراقيين عام 2003. فاين وزير التجارة السابق، عبد الفلاح السوداني،
واين وزير الدفاع السابق حازم الشعلان..؟ وغيرهم كثير، وربما هنالك
الكثير من الاسماء ما دون الكبيرة والبارزة، اختلست تحت جنح الظلام ولم
يعرف بهم أحد، ربما إن تجولوا في الشوارع، لن يعرفهم أحد، وهم يضحكون
على الذقون..!
نعم؛ نحن نطالب بإلغاء رواتب المتقاعدين وامتيازاتهم، لكن ماذا عن
مصير (11) ألف و(600) ملف فساد في هيئة النزاهة غير مفعل، حسب النائب
عن كتلة الأحرار عبد الحسين ريسان؟ وماذا عن الثغرات الكبيرة في
القانون التي تسمح للمسؤول والمتنفذ بأن يغترف بكل ما أوتي من قوة، من
ثروة هذا الشعب المقهور؟ وماذا عن ثقافة الاستئثار بممتلكات الدولة من
قبل المسؤولين، من نواب برلمان ومجالس محافظات؟ بين فترة واخرى نسمع
بفضائح مخزية عن معارك كلامية وبالأيدي على سيارات وقصور وأموال، أحدهم
يدعي أنه استورثها من المجلس السابق، وآخر يدعي العكس وهكذا...
وإذن؛ فنحن بحاجة الى العدل والإنصاف والتعامل بالسوية، قبل إطلاق
الشعارات وركوب الإثارات، فالحديث عن المال، سريع الانتشار، وهي لغة
مفهومة وقريبة الى الواقع، لاسيما مع الاوضاع التي يعيشها المواطن
العراقي اليوم، حيث ضنك العيش بسبب الغلاء الفاحش في أسعار المواد
الاساسية والسكن، والبطالة. لكن الحديث عن القيم والمبادئ التي تكفل
تقويم التعامل بالمال العام، هو ما يحتاجه الناس، فهذه هي البنية
التحتية لمشروع التوزيع العادل للثروة وتحقيق العدالة والمساواة في
العطاء وفرص العمل.
وربما يستصعب البعض هذا الطرح، لانه بحاجة الى وقت طويل، وهو كذلك،
لكنه طريق طويل يوصلنا الى بر الأمان والاستقرار الاجتماعي والسياسي.
ولنا تجربة ثرية وعملية في الحقبة التي حكم فيها أمير المؤمنين عليه
السلام، والتي تحولت الى درس في العدالة الانسانية – وليس الاسلامية
فقط- للمسلمين وغير المسلمين على مر الأجيال.
إن الامام علي عليه السلام، لم يحارب ويطارد الأثرياء ومن يمتلك
رصيداً او بيتاً جميلاً، إنما المختلس والمتطاول على بيت مال المسلمين،
ومن اخذ اكثر من حقه، وقد أكد الباحثون هذه الحقيقة، وهي أنه عليه
السلام، إن من ابرز دوافعه لخوضه الحروب ضد مناوئيه، هي لتحقيق العدل
وإنصاف الناس، ومقارعة الباطل والظلم والاجحاف. وإلا ما الذي كان يدفع
الأمويين لمقاتلته أمير المؤمنين غير الاستيلاء على ثروات الأمة والعبث
بها كيفما شاؤوا، كما تحقق لهم ذلك بعد استشهاده عليه السلام، واستشهاد
ولديه الحسن والحسين عليهما السلام. ففي اليوم الثاني من توليه
"الخلافة"، هتف عليه السلام، أمام المسلمين: "الا إن كل قطعة اقتطعها
عثمان وكل مال أعطاه من مال الله فهو مردود الى بيت المال، فان الحق
القديم لا يبطله شيء ولو وجدته تزوج به النساء وفرّق في البلدان لرددته
الى حاله، فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه الحق، فان فالجور عليه
أضيق". |