للإستراتيجية تعاريف شتى، تختلف باختلاف المفكرين والمدارس الفكرية
التي تنبع منها، لكنها تكاد تجمع على أنها: علم وفن استخدام القدرات
كافة لتحقيق هدف السياسة، سواء عن طريق استخدام القوة المباشرة أو
التهديد باستخدامها. وهذا التعريف، على الرغم من توافقه مع البعد
العسكري لمفهوم الإستراتيجية القديم، فانه يتوافق –أيضا- مع مقولة أن
الحرب ما هي إلا امتداد آخر للسياسة بوسائل عسكرية، وأن السياسة لا
تكون عمياء أبدا وإنما تتحرك على هدى أهداف معينة تحاول الوصول إليها
سلما أو حربا.
وعلى ضوء ذلك يعرف التفكير الاستراتيجي بأنه ذلك التفكير الذي
يحاول استيعاب حقائق البيئة الداخلية والخارجية التي تتحرك فيها دولة
ما أو مؤسسة ما لوضع رؤية أو رسالة تستشرف مستقبل هذه الدولة أو
المؤسسة، ويوظف مختلف القدرات المتاحة، لتجاوز الصعوبات والتحديات
القائمة أو المحتملة، لخلق الظروف المناسبة لتحويل هذه الرسالة أو
الرؤية من المستوى النظري إلى المستوى التطبيقي الملموس.
أما القيادة فلها في الأدبيات السياسية المعاصرة تعاريف عدة منها:
هي " فن التأثير في الأشخاص، وتوجيههم بطريقة صحيحة، يتسنى معها كسب
طاعتهم واحترامهم وولائهم وتعاونهم، في سبيل تحقيق هدف معين " أو هي "
تأثير متبادل يظهر بوضوح في حالات معينة، ويوجه من خلال وسائل الاتصال
بين الرئيس والمرؤوس نحو تحقيق الأهداف المنشودة " أو هي " قدرة
وفاعلية وبراعة القائد بمساعدة النخبة على تحديد الأهداف وترتيبها
تصاعديا حسب أولوياتها، واختيار الوسائل الملائمة لتحقيق هذه الأهداف
بما يتفق مع القدرات الحقيقية للمجتمع، وإدراك الأبعاد المختلفة
للمواقف التي تواجهه، وتشخيص المشاكل التي تصاحبها، واتخاذ القرارات
اللازمة لمواجهة المشكلات والأزمات التي تفرزها هذه المواقف، ويتم ذلك
كله في إطار تفاعل تحكمه القيم والمبادئ العليا للمجتمع "..
يتضح من خلال هذه التعاريف وغيرها، أن هناك علاقة وثيقة بين
الإستراتيجية والتفكير الاستراتيجي وبين القيادة، لاسيما السياسية
منها، لأن للقائد السياسي ونمط قيادته تأثير فعال في حياة الشعوب
والأمم، فهو الذي يضع الرؤية المستقبلية لشعبه، ويحدد حجم القدرات
المتاحة والآليات العملية لتنفيذها، والوسائل المناسبة لتجاوز التحديات
التي تعترضها، ويتولى اتخاذ القرارات الصحيحة لنجاحها، وهذا النمط من
القيادة هو ما يصطلح على تسميته في السياسة بالقيادة الإستراتيجية،
التي تتميز عن قيادة المسؤولين والمدراء التنفيذيين في المؤسسات
الحكومية. فوجود رؤية يسير الشعب على ضوئها نحو المستقبل، تعد أولى
واجبات القائد السياسي الاستراتيجي الحقيقي، وهذا يشكل أمرا حيويا
ومهما، لأنه بدون هذه الرؤية، يحصل التخبط، وتعم الفوضى حياة الناس،
وتضيع ملامح نظامهم السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، وهذا ما لا يمكن
أن يقبل به العقل والمنطق السليم، الهادف لبناء دولة متكاملة الأسس
النظرية والعملية.
وقد حددت الأدبيات السياسية المعاصرة للقائد الاستراتيجي سمات مهمة
عدة منها:
- الذكاء والفطنة
- سعة الأفق والقدرة على التفكير
- البلاغة وحسن التعبير
- الخطابة والقدرة على جذب انتباه المستمعين
- الثقافة والمعرفة وحسن الإعداد
- القدرة على المناورة والخروج من الاحراجات والمآزق
- القدرة الابتكارية للأفكار والحلول
- الثقة بالنفس والميل للتسامح
- القدرة على اختيار أفضل البدائل التي تحقق أعظم المكاسب وأقل
الخسائر
- القدرة على اتخاذ القرار في التوقيت المناسب
- القدرة على الحسم
- القدرة على الإقناع لاسيما في القضايا الخلافية
- القدرة على تحمل المسؤولية
- القدرة على تكوين فرق العمل
- القدرة على إدارة فرق العمل
- القدرة على اختيار المعاونين المقتدرين
- القدرة على تطويع قدراته الذاتية مع خصائص ومقتضيات المواقف التي
تواجه الجماعة أو المجتمع.
- الإيمان بأن القيادة تعني الثقة والإقناع والحوار، وليس القهر
والمناورة والخداع
- خلق الترابط بين القرارات والوسائل والسياسات وبين قيـــم
المجتمــــع الذي يتحــرك القائـــد فيه...
وفي نهج البلاغة حدد الإمام علي عليه السلام سمات أخرى للقائد
الاستراتيجي الحقيقي من خلال قوله: " من نصب نفسه للناس إماما فليبدأ
بتأديب نفسه قبل تأديب غيره، وليكن تأديبه بسيرته، قبل أن يكون تأديبه
بلسانه، فمعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم "،
وكذلك من خلال قوله: " من ولي من أمور الناس شيئا وجب أن يتصف بثلاث
خصال: ورع يحجزه عن معاصي الله، وحلم يمنع به غضبه، وحسن الولاية على
من يلي حتى يكون لهم كالأب الرفيق "، وهذه السمات ترتبط بالإعداد
النفسي الداخلي للقائد الناجح حتى يكون قدوة صالحة لشعبه وأمته، وتبين
أن من لا ينجح في قيادة نفسه وسياستها لحملها على الخير، لن ينجح في
قيادة الناس، ورسم الرؤية الصحيحة لهم نحو مستقبل أفضل.
أن القيادة السياسية الإستراتيجية سواء كانت مبانيها الفكرية
والعملية صحيحة أو غير صحيحة تمثل ضرورة في حياة الشعوب، لكن نتائج عمل
هذه القيادة قد تكون ايجابية أو سلبية استنادا إلى هذه المباني، لذا
يجد المدقق في كتاب الله العزيز، أن النص القرآني ميز بين نوعين من
القيادة:
الأولى: القيادة الصالحة، التي تتصف بالرحمة، والسمو، والفضيلة،
والخير، والاستقامة، والتواضع، والرفق، والمشاورة، والعدل، والصدق،
والحوار البناء، وقبول الآخر.. والتي مثلها الأنبياء والمرسلون،
وأتباعهم من الأوصياء والمؤمنين.. وهي قيادة تهدف إلى هداية الناس
وقيادتهم إلى دروب النجاح والسعادة والحرية الحقيقية في الدنيا
والآخرة.
الثانية: القيادة الفاسدة، التي تتصف بالتكبر، والطغيان، والقهر
والظلم والعدوان، والرذيلة والإسراف، والانحراف عن جادة الصواب، وضيق
الأفق الفكري وعدم تقبل الرأي الآخر، ومحاربة المصلحين، واعتماد السحر
والشعوذة والدجل والكذب والجهل في تسويق الأفكار والرؤى التي يعتمدها
نظام الحكم.. والتي مثلها الشيطان وأتباعه من الحكام، كفرعون والنمرود
وقارون وأشباههم، وهذه القيادات الفاشلة تخنق حريات الناس، وتهضم
حقوقهم، وتسلبهم كرامتهم، وتنشر الألم والتعاسة والفرقة والاحتراب
بينهم، وتقودهم نحو الهلاك والدمار، والخسران في الدنيا والآخرة.
وإذا أسقطنا هذه الحقائق حول حاجة الناس إلى القيادة الإستراتيجية
في حياتهم السياسية على الواقع السياسي في العراق، سنجد أن القيادة
السياسية في هذا البلد تعاني من عوز استراتيجي منذ زمن بعيد، تفاقمت
آثاره بشكل كبير في الوقت الحاضر، فهذه القيادة على اختلاف مستوياتها
تفتقر إلى قدرة التفكير والتخطيط والتنفيذ الاستراتيجي، وذلك للأسباب
الآتية:
- إظهارها عدم قدرة واضحة على منح شعبها رؤية إستراتيجية متفائلة
يبني مستقبله على أساسها، فعلى مدار ثمانية سنوات، منذ أن وضع الدستور
الحالي (دستور عام 2005)، كان شعار معظم القيادة السياسية المتنفذة في
البلد هو بناء عراق ديمقراطي حر تحكمه النصوص الدستورية، ويحقق السبق
والريادة في منطقته والعالم، وكان يجب أن يكون هذا الشعار هو الرؤية
والرسالة التي توظف كافة قدرات الدولة لتحقيقها، والإيمان بها، لكن
للأسف هذا ما لم يحصل، فقد تمت مهاجمة النصوص الدستورية وتعطيل هياكلها
المؤسسية في حالات كثيرة جدا، ولو اقتصر الأمر على أعداء العملية
السياسية المعروفين، ومنتقدي النص الدستوري، وغير المستفيدين من
السياسيين لهان الأمر، لكن العوز الاستراتيجي وصل إلى رأس الحكومة
الأول، أي رئيس وزراء العراق في الولايتين السابقة والحالية، وهو الشخص
الذي سطرت أنامله إلى جانب آخرين نصوص الدستور الحالي، حيث انتقد في
حديث متلفز بثته إحدى الفضائيات العراقية النص الدستوري، لأنه وضع بشكل
مستعجل، كما انتقد الهياكل المؤسساتية الدستورية ابتداء من السلطة
التنفيذية التي يرأسها مرورا بالسلطة التشريعية ووصولا إلى السلطة
القضائية، وهذه طامة كبرى تواجه السياسة في العراق، إذ كيف تطلب
القيادة السياسية من الناس احترام القانون وأدواته، في الوقت الذي توصل
إليهم رسالة واضحة مفادها أن هذه القوانين والأدوات فاشلة وضعيفة
وتحتاج إلى إعادة نظر. إن القيادة السياسية بفعلها هذا أسقطت رؤية
ورسالة الدولة التي بشرت بها على مدار السنوات الثمانية السابقة، وغرست
التشاؤم والنفور والخوف من مستقبل غير مأمون في نفوس الناس.
- ولم تظهر مهارتها في حل الأزمات وتصفير المشاكل، بل راكمتها
وضخمتها بشكل صارت معه عبئا ثقيلا عليها وعلى العملية السياسية، بسبب
قلة مهارتها، وضعف قدرتها على إقناع الخصوم، وتوحيد المواقف المتباينة،
وعقدها السياسية المستفحلة، وضيق أفقها.
- ولم تنجح في توظيف قدرات العراق الضخمة: المادية، والبشرية،
والروحية، والجيوسياسية لوضعه على السكة الصحيحة التي تخدم أهدافه
ومصالحه السياسية.
- ولم تستفد من متغيرات العلاقات الدولية السائدة بعد 9-4-2003
لبناء شبكة علاقات دولية تصب في مصلحة العراق كدولة، بل ظلت تتصرف في
هذا المجال وكأنها دولة طوائف وميليشيات، يستقوي كل فصيل سياسي فيها
بهذا الطرف الدولي والإقليمي أو ذاك، لكسر إرادة خصومه وأعدائه في
الداخل متناسية أن كل طرف خارجي يتعامل معها من وحي مصالحه فقط، ولا
تهمه مصلحة العراق وشعبه البتة.
- ولم تنجح في توحيد خطابها السياسي، بل أظهرت خطابا سياسيا متباينا،
وأحيانا منافقا، فعلى سبيل المثال كانت في يوم ما تتهم نظام الحكم في
سوريا بأنه الداعم للإرهاب الذي قتل الكثير من العراقيين، وبعد ذلك
قامت بدعم نظام الحكم السوري واعتبرت وجوده ضروريا لمصلحة العراق،
وهكذا تأرجحت مواقفها مع بقية الدول..
- ولم تنجح في محاربة الفساد المالي والإداري المستشري في البلد،
وتعاملت مع العراقيين باستخفاف وسخرية عندما طالبتهم باحترام القانون،
والالتزام والانضباط الإداري، واحترام المال العام، والنزاهة.. في
الوقت الذي لم تعاقب مجرما حقيقيا من سراق الشعب الكبار، لارتباطهم
بالصف الأول للنخبة الحاكمة.
- كما لم تنجح في بناء أجهزة أمنية مهنية، ومستقلة، وقوية تحفظ وحدة
العراق، وتدافع عن سيادته، ونظامه الحاكم، وتوفر الأمن والاستقرار في
البلد، بل أسست أجهزة أمنية وعسكرية متقاطعة وغير متكاملة ستسقط بسهولة
في أي اختبار قوة تواجهه مع أية دولة إقليمية قوية.
بناء على ما تقدم، يمكن القول أن بقاء متلازمة العوز الاستراتيجي
لدى القيادة السياسية في العراق سوف يجعل كل مظاهر نجاحها، عبارة عن
نجاحات تكتيكية لا ترقى إلى أن تكون نجاحا مؤثرا على المستوى
الاستراتيجي، بل سوف تخسر نجاحاتها هذه بسهولة وتمنى بخسائر فادحة يدفع
الشعب العراقي ثمنها الأول. وان معالجة هذا العوز ليس بالأمر السهل،
لكنه أيضا ليس بالأمر المستحيل، فمن لا يعرف كيف يكون قائدا سياسيا
استراتيجيا بطبعه، عليه أن يكون كذلك من خلال استعانته بشبكة خبراء
استراتيجيين ناجحين، يمكن أن توفرها له المؤسسات الأكاديمية، ومراكز
الأبحاث والدراسات ذات العلاقة، على أن يكون مستعدا ابتداء للتخلي عن
عقليته الحاكمة الآمرة لمصلحة عقلية حاكمة محاورة، تقبل الاستشارة ولا
تستصغر شأن المستشارين.
* مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات
الإستراتيجية
www.fcdrs.com
khalidchyad@yahoo.com |