شبكة النبأ: بناء المجتمع المدني هو
غاية روّاد التنوير والمصلحين والفلاسفة على مر التاريخ، وقد أثبتت
التجارب أن المجتمعات البشرية غالبا ما تسعى الى تطوير بنيتها الفكرية
والسلوكية معا، لتبلغ درجة أعلى من الارتقاء والتطور، ويتم لها ذلك في
الحالات التي تكون فيها مستعدة للتغيير، وفي حالة سعيها لتوفير الاسس
اللازمة لتغيير ودعمها والالتزام بها، وهذه في الحقيقة هي مهمة العقول
التي تضع قضية التغيير في مقدمة اهدافها وهمومها، ولا تكف عن السعي
بالقول والفعل لكي تحقق عملية التغيير نحو الافضل في مجتمعاتها.
ولكن لابد أن يكون هناك استعداد نفسي وعملي للتأسيس لعملية التغيير،
بمعنى أن التغيير لن يحدث بصورة آلية، بل يستدعى سعيا دائما ودؤوبا من
حيث التخطيط السليم والتنفيذ الدقيق، مع مراعاة الظروف والعقائد
والثقافات التي تشترك في توجيه الفكر والسلوك المجتمعي، ولا يمكن أن
يتم هذا من دون بلورة جهد فكري يتقدم جميع الجهود لاحداث الاستعداد
الجماعي للتغيير خاصة انه يتعلق بأنماط وتقاليد وافكار وعقائد راسخة في
عقول المجتمع ربما لقرون متتالية.
لهذا كرّس الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني
الشيرازي (رحمه الله)، كثيرا من جهوده الفكرية والاصلاحية لتحفيز
المسلمين على التغيير، وحثهم عليه، ومطالبتهم بالاستعداد الدائم
للمبادرة بالتغيير، وليس الاتكال على ما يحدث بصورة آلية، لأن التغيير
المجتمعي والانتقال الى المدنية والتطور لن يحدث بصورة آلية، بل يعتد
قدرة الفرد والجماعة على بناء الاسس اللازمة للتغيير وتطويرها
واعتمادها على نحو مستمر.
التغيير الفردي والجمعي
قد يبدأ تغيير المجتمع نحو الافضل بصورة فردية، من دون الاتفاق بين
الجماعة، وربما من دون دراسة وتخطيط وتمحيص، إنما هناك من يسعى الى
تطوير نفسه وثقافته وافكاره وسلوكه، والانتقال من أفق التعصب الضيق الى
الفضاء الانساني الرحب للفكر والعلاقات الانسانية المنفتحة على الجميع،
ولذلك حتى لو بدأ التغيير فرديا، فإن التأثير سينتقل تباعا الى الاخرين
ويتحول من تغيير فردي الى تغيير جمعي، وبهذا تبدأ أسس التغيير بجهد
فردي لتنتقل الى الاخرين وتصبح جهدا جماعيا يشمل المجتمع عموما.
يقول الامام الرحل آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه
الله) في كتابه القيم، الموسوم بـ (نحو التغيير)، في هذا المجال: (من
أهم أسس التغيير: هو التغيير في النفس، فإذا تغير الإنسان أو تغيرت
الأمة، غيّر الله ما بهم. والتغيير قد يكون فرديا، وقد يكون جمعيا، أي
على مستوى الأمة. وربما كان تغيير الفرد سببا أو مؤثراً في تغيير
المجتمع، وربما كان العكس. على تفصيل مذكور في علم الاجتماع).
ولعل المشكلة الكأداء التي تقف بالضد من أسس التغيير، وتحد من فرص
التقدم، ومواكبة المستجدات التي تحدث في العالم عموما، تتمثل بـ (العصبية)
أو حالة التعصب التي تتلبس الانسان وتحد من رؤيته للآخر، وتجعله منكفئا
على ذاته مغلقا عليها مقتنعا بها وافكارها وتقاليدها فحسب، اما الفكر
الاخر والرأي المختلف فهو في حالة تناقض دائمة معه، هذا التعصب هو الذي
يغلق جميع الابواب نحو التغيير.
لذا يقول الامام الشيرازي في هذا الجانب بكتابه المذكور نفسه: (كما
أن هناك أسبابا للتغيير، هناك موانع عن التغيير أيضا، فالعديد من أفراد
المجتمع الجاهلي لم يقبلوا التغيير نحو الحسن لوجود التعصبات فيهم،
فالتعصب مانع من التغيير).
مخاطر النزاعات المادية
إن جذور المجتمع الاسلامي، تنطوي على الترسبات الفكرية والاجتماعية
التي كان يقوم عليها هذا المجتمع قبل بزوغ الاسلام، لذلك هناك تقاليد
بالية بقيت عالقة فيه، فضلا عن العصبية والقبلية التي شاركت بقوة في
منع المجتمع الاسمي من الانتقال الى المدنية المعاصرة، واللحاق بالركب
العالمي المتمدن، لذلك من اسباب تأخر المسلمين هو بقاؤهم رهن قيم
وتقاليد بالية، وانشغالهم في صراعات مادية، جعلت قضية التغيير امرا
غاية في الصعوبة إن لم يكن مستحيلا، خاصة ما يتعلق بالتقاليد، وقد أسهم
هذا الامر بمنع تعضيد الاسس اللازمة للتغيير، بسبب الروحية المتعصبة
التي كانت سائدة في المجتمع آنذاك.
يقول الامام الشيرازي في هذا المجال بالكتاب المذكور نفسه: (كانت
الروحية السائدة آنذاك تندفع وراء النزاعات المادية، وتقف مدافعة عن
الاعتقادات الباطلة والعادات الساذجة، وكان الجهل والعصبية المحرك
الرئيسي لها. وإنَّ الاختلافات كانت في أغلب الأحيان تصل إلى الإبادة
والتدمير، دون أن تقيم وزناً للأخلاق والقيم الإنسانية). ولعل الفوضى
التي تعتور الدول الاسلامية وتحيل حياة شعوبها الى الفوضى وعدم
الاستقراء، وافتقارها الى التحضّر، يعزى الى عدم قدرتها على التغيير،
وذلك بسبب غياب الاستعداد اللازم لذلك، بالاضافة الى الانشغال
بالصراعات ذات الطابع المادي ، مما يعيق عملية التغيير المجتمعي.
لهذا يقول الامام الشيرازي في هذا الخصوص: إن (ما نراه ـ اليوم ـ من
حروب بين الناس، فإنه يرجع في كثير من الأحيان، إلى تلك النعرات
القبلية الجاهلية، أو إلى النزعات القومية التي توارثها الناس، جيلاً
عن جيل. وبدأوا يحكمونها على المنطق والعقل والقيم الصحيحة، فكانت
مانعة عن التغيير نحو الحسن).
ولا شك أن الجانب الوراثي في مجالات التربية والثقافة والسلوك
الحياتي اليومي، بالاضافة الى منظومة القيم والتقاليد، لها دور كبير في
طبيعة النشاط المجتمعي وعلاقاته المختلفة، لذلك كلما نشطت القبلية
والتعصب، اصبحت فرص التغيير ضعيفة، وتزداد اشكالية الانتقال الى
التمدن، خاصة اننا نعاني من الجذور الموروثة، كالتباهي والتفاخر بأمور
تافهة كما يصفها الامام الشيرازي بقوله:
(إنّ العصبية المذمومة المتوارثة من العصر الجاهلي، هي التي تقود
المجتمع الى الظلم، وتساعد ف تثبت الباطل، والتفاخر بالأمور التافهة،
التي تزرع النواقص، وتبث الخلاف بين الناس). لذا يحتاج المجتمع
الاسلامي الى التغيير مسبوقا بالاستعداد والسعي لذلك، وفقا لأسس
التغيير التي تنتقل بالمسلمين الى مواكبة الركب العالمي المعاصر. |