لطالما نسمع أن من خلّف لم يمت، ونسمع عن الولد الصالح أنه خير خلف
لخير سلف، ونسمع أن الولد على سرّ أبيه، وأنّ البنت على سرّ أمها، وما
إلى ذلك من أقوال ومأثورات كلها تتحدث عن جيلين أو أكثر وما يُشار
إليهما من نقاوة المحتد وسلامة السيرة وطهارتها فلا يذكر الخلف بخير
إلا ويذكر السلف به وربما قيل هذا الشبل من ذاك الأسد للدلالة على
القوة والصلابة والسيرة الحسنة فتتنزل الرحمات والدعوات الصالحة على
الأموات جسديا والأحياء روحيا بفعل سلوك الأحياء جسدياً وروحيا، والعكس
صحيح، فلطالما تنزّلت اللعنات ودعوات السوء على الأموات جسدياً بفعل
سلوك الأبناء الأحياء جسديا والأموات روحيا، وهي معادلة غير بعيدة عن
محيطنا نلحظها في حياتنا اليومية نظريا ونمارسها كل يوم تجريبيا،
والإنسان على نفسه بصيرة، فبيده أن يجعل الناس يغدقون عليه بحنانهم
ومحبتهم ويترحمون على آبائه وأجداده، وبيده أن يجعلهم ينفرون منه
ويلحقون اللعنات به وبمن خلّفه، فإما أن يترضّون على أمِّه ويباركون في
حليبها، أو يدعون عليها بالويل والثبور ويلعنون ما درّ ثديها من خبث
آدمي، هذه هي سنة الحياة الدنيا لا محيص عنها وليس للإنسان من خيار إلا
أن يقف في صف الخير يتلقى دعوات المترضين فيبعث إلى أمواته رحمات
الأحياء أو يصطف الى جانب الشر فيبعث الى أمواته لعناتهم.
ولو دار الإنسان بناظريه في شرق الأرض وغربها، فلا يجد أسرة كبيرة
كأسرة النبي محمد(ص) التي تعد بالملايين، فما من قطر من أقطار الأرض
إلا وفيها ما يُعرف بالسادة أو العلويين أو الأشراف، وليس بالضرورة أن
يتحدثوا العربية، فدواهي الزمن منذ القرن الأول الهجري وحتى يومنا هذا
لم تترك البيت العلوي على حاله، فتوزعوا في الأقطار قسراً وتحدث
الأبناء بلغات العالم حسب موطن الآباء يجمعهم مع الإسلام المعتقد ومع
صاحب الرسالة الإسلامية الحسب والنسب والمحتد.
وبعد هذه القرون المتمادية، والقرآن الكريم لازال يصدح في اسماعنا
مخاطباً أب السادة وجدهم الأعلى: (إنا أعطيناك الكوثر)، حين عيّره
القوم في انقطاع نسله، فأكرمه بفاطمة(ع) وجعل نسله منها، فكانت هي
الكوثر التي لا ينضب ماؤها، وكان أبناؤها من الحسنين أبناء النبي
محمد(ص) وآله، وهو القائل على رؤوس الأشهاد: (ألا إنَّ كل نسبٍ وسببٍ
منقطع يوم القيامة ما خلا سببي ونسبي، وكل بني أنثى فعصبتهم لأبيهم ما
خلا ولد فاطمة فإني أبوهم وأنا عصبتهم) فنعم الأب ونعم البنت ونعم
السبطين من آل علي وفاطمة.
وللآل شريعة
مفهوم الآل ومصاديقه وما يتعلق به من مسائل شرعية مستوجبة على أتباع
الرسالة في التعاطي مع آل النبي محمد(ص)، والفرق بين الآل والأهل من
حيث اللغة والإصطلاح؟ وغيرها من المسائل الفقهية ذات العلاقة المباشرة
بآل محمد(ص) يتابعها الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي في كتيب
"شريعة الآل" الصادر حديثا عن بيت العلم للنابهين في بيروت في 48 صفحة
ضمَّ 107 مسائل، قدّم وعلق عليها في 45 مسألة فرعية القاضي الفقيه آية
الله الشيخ حسن رضا الغديري، بل والحديث للغديري كما جاء في تعليقه: (ولعله
أول كتاب أُلِّف حول الموضوع باستقلالية، بينما يوجد ذكر بعض الأحكام
المختصة بآل النبي(ص) ضمن المباحث الحقوقية والمالية فقط، كالخمس
والزكاة والصدقات ونحوها، بينما توجد أحكام أخرى تتعلق بهؤلاء السادة
الأشراف الذين خصّهم الله تعالى بالميزات المعنوية والروحانية والتي لا
حظّ لأحد فيها غيرهم).
وربما يقع الكثير في شبهة "الآل" و"الأهل" من حيث المصطلح ولا يميز
بينهما عندما تأتي النسبة الى النبي محمد(ص) أو أسرته الشريفة، وقد لا
يجد المرء مائزاً بين الإثنين، ولكن الفقيه الكرباسي يرى أنه من الخطأ
الشائع في مفردتي الآل والأهل عند الاستعمال: (لأن للرجل آل، وللبيت
أهل) فيقال "أهل البيت" ولا يُقال "آل البيت"، متناولاً في المقدمة
مفهوم أهل البيت في قوله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل
البيت ويطهركم تطهيرا) الأحزاب: 33، ويرى أنّ الأهل في الآية الكريمة
قاصرة على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها، وشمولها زوجات النبي(ص) بحاجة
الى دليل: (ومن المعلوم إذا اختلفت الآراء وتعارضت فإنهم يلجأون إلى
أصل عدم الشمول لأنه يحتاج الى دليل، وما يقال بأن الحديث في الآية جاء
عن الزوجات لا يكفي لأن الضمائر كلها تحولت من ضمير الإناث إلى ضمير
الذكور مما لابد وأن يدل على تحول في المعنى)، بل ويرى الفقيه الكرباسي
أن كون زوجات النبي أمهات المؤمنين: (كل ذلك كرامة للرسول(ص) وليس لما
في أنفسهن، وكونهن أمهات المؤمنين ليس فضلا لهن بل في ذلك كرامة
للرسول(ص) وليس امتيازاً على الآخرين، وقد قال تعالى: "النبي أولى
بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم" الأحزاب: 6، بل نوع من التخصيص،
فزوجاته كلهن في ذلك سواء، ومن هنا حرّم الزواج منهن، تكريماً للرسول(ص)
والكلام في ذلك متشعب). فالنصوص النبوية دالة على حصر الآل والأهل في
أصحاب الكساء الذين أذهب عنهم الرجس، وفيهم قال صلوات الله عليه كما
جاء في مسند أحمد بن حنبل: 4/107: (اللهم هؤلاء آل محمد، فاجعل صلواتك
وبركاتك على محمد وعلى آل محمد إنك حميد مجيد)، وهم الذين جاء فيهم
الحديث القدسي: (إني ما خلقت سماءً مبنية ولا أرضا مدحية ولا قمراً
منيراً ولا شمساً مضيئة ولا فلكاً يدور ولا بحراً يجري ولا فُلكاً تسري
إلا في محبة هؤلاء الخمسة الذين هم تحت الكساء).
تشريف مع التقوى
صحيح أن الإنتساب الى رسول الإنسانية(ص) هو تشريف وتكريم، ولكنه كما
يؤكد الفقيه الكرباسي: (تكريم لأجل الرسول(ص)، ويُشترط في مثل هذا
التكريم أن يكونوا بمستوى المقام، فإذا كانوا على قسط من التقوى
والإيمان كانوا مفضّلين على سواهم، بمعنى أنّ كونهم من سلالة أشرف
الخلق لا يعني أنهم مفضلون على الآخرين حتى وإن كانوا فسّاقاً أو
كافرين، ولا مجال لإلغاء الآية الكريمة: "إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم"
الحجرات: 13) فالأمر مع الشريف من نسل فاطمة(ص) دائر مدار التكريم
والإحترام مع خصوصية في عدد من الأحكام الشرعية من قبيل الخُمس، وإلا:
(إذا كان غير الشريف فيه الكفاءة فهو المقدّم)، وهو ما أكده في المسألة
(96) أيضا إذ: (كل الهاشميين والطالبيين متساوون مع سائر الناس في
الأحكام، وإن كان تكريمهم مستحب وبالأخص آل فاطمة(ع) لمكانة الرسول(ص)
ويُشترط في ذلك أن يكونوا مؤمنين، أما الفاسق فلا حُرمة له)..
ويتفرع الفقيه الكرباسي في شريعة الآل معرفاً "آل الرسول"، "أهل
البيت"، "الشريف"، "السيد"، "الهاشمي" و"الطالبي"، مؤكداً على مسألتي
التكريم والتشريع ومفصلاً في الثانية، فعلى سبيل المثال فإن: (الصلاة
على محمد وآله واجبة في تشهد الصلاة، فريضة كانت أو نافلة، وأقلّ صيغة
في نهاية الشهادة: "اللهم صلِّ على محمد وآل محمد"..)، ولخصوصية الصلاة
على النبي وآله فإنه: (يُستحب رفع الصوت بالصلاة على محمد وآله خلافاً
لمطلق الدعاء الذي يفضّل أن لا يكون بصوت عال)، فيما يرى الفقيه
الكرباسي أن: (الشهادة بالولاية لعلي(ع) وأولاده المعصومين(ع) في
الأذان والإقامة مستحبة، والإحتياط في عدم تركها)، وعلّق الفقيه
الغديري على المسألة بقوله: (يجب ذلك إذا قلنا بشمول قول النبي(ص):
"مَن قال لا إله إلا الله محمد رسول الله فليقل علي ولي الله" للمورد،
كما قال به البعض، والحق أنه لا يشمله). ومن الولاء للنبي وآله أن:
(زيارة قبر الرسول(ص) وقبور أهل بيته مستحبة، وإذا عُدَّ عدم الزيارة
من الجفاء فهو محرّم)، وكما: (يُستحب زيارتهم بالمأثور وإن جاز بغيره)
ولكن يُشترط في ذلك: (أن لا يكون فيه شي من الغلو أو الإجحاف بحقهم)،
وذلك لأنَّ: (الغلو في الرسول(ص) وأهل بيته(ع) محرّمٌ)، إذن يعود
الفقيه الكرباسي ليؤكد أن: (الغلو في حقّهم محرّم، والجفاء بحقّهم
محرّم)، وصدق رسول الله حينما قال(ص) لعلي(ع): "يهلك فيك اثنان محب غال
ومبغض قال"، وهو ما أكده الأمير(ع) بقوله: "يَهلَكُ فيَّ رجلان محبٌّ
مُفرِطٌ يُقرِّظُني بما ليس فيَّ ومُبغضٌ يحملُه شَنَآني على أن
يَبْهتني"، من هنا يؤكد الفقيه الكرباسي في أهل البيت(ع) أن: (حبّهم
واجب شرعي، وبغضهم حرام شرعي، وعداؤهم وبغضهم بمثابة الكفر).
وفي الوقت الذي يرى الفقيه الكرباسي أنه: (من الأفضل أن لا يتزوج
على بنات فاطمة(ص) إلا بإذنها تكريما لهذا البيت الشريف)، فإنه لا يذهب
مذهب من يرى حرمة زواج غير السيد من السيدة كما هو السائد لدى بعض
الأسر العلوية، إذ: (هناك من يرى عدم زواج غير السيد من السيدة
(العلوية) ولكنه ليس بحرام) بيد أنَّ الشيخ الغديري يعلق على المسألة
الأولى بالقول: (ولكن لا مانع عنه في الشريعة، ولا يتوقف على الإذن إذا
حصلت الكفاءة في سائر الأمور) ويرى في الثانية إمكانية: (القول بالجواز
تشرّفا بالإنتساب المقدس).
فخلاصة الأمر أن احترام الأسر المنتسبة الى أهل البيت(ع) هو جزء من
احترام أهل البيت(ع) أنفسهم ومودتهم، كما أن هذه المنزلة تحمّل أهلها
كما يؤكد الكرباسي مسؤولية كبيرة إذ: (على المنتسبين إلى بيت فاطمة
وعلي(ع) أن يكونوا المثل الأعلى لهذا البيت الشريف) وفي المقابل:
(يُثاب من يحترم المنتسبين إلى الرسول(ص) في جميع مجالات الحياة لأجل
الرسول(ص) إلا إذا كانوا فسّاقاً، أو كان ذلك ينافي الحقوق الشرعية
والعدالة)، فالعملية متبادلة، ومآل الأمر الى التقوى، فكلنا من آدم
وآدم من تراب.
* الرأي الآخر للدراسات- لندن
http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/nazeeralkhazraji.htm |