هل هناك ثقافة ثالثة؟

حاتم حميد محسن

 

في محاضرة له عام 1959 استكشف العالم والروائي البريطاني ( C P Snow) ما رآه من ثغرة بين ثقافتين: الفنون والعلوم. المحاضرة أثارت رد فعل الناقد الادبي (فرانك ريموند ليفس) بقوله ان هناك فقط ثقافة واحدة هي ثقافة الادب. لا يهم اذا كان عامة الناس يجهلون العلوم الاساسية، لكن الجهل في شكسبير هو الذي يهم. هذه الرؤية أغفلت النقطة الرئيسية وهي اذا كان ذلك هو الانطباع السائد بين الادباء فلا يجب ان يكون كذلك.

تلك المحاضرة ارتكزت جزئيا على مقالة كتبها (سنو) لمجلة نيو ستيتسمن عام 1956. ذكر فيها "نحن يجب ان نتعامل مع جميع الاسئلة الحالية السياسية والاجتماعية والدينية والفكرية.... يجب ان نكافح لمواجهة واختبار القضايا السياسية والاجتماعية في نفس الروح التي يواجه ويختبر بها الكيميائي لعيناته المختبرية، دون تجاهل لأي من العوامل الاخرى، وعدم الركون الى اي افتراضات مسبقة، نسعى فقط الى اكتشاف ونشر الحقيقة مهما كانت."

ان المقالة تلك حاولت عدم اثارة القرّاء كثيراً فتوسعت في استعارتها العلمية بتأكيدها ان "المشاكل الاجتماعية هي في الواقع لا تستجيب للتحليلات العلمية وفق الفهم الشائع لتلك المشاكل، طالما لا يمكن وزن الكائنات البشرية بالوحدات او قياسها بالمايكروميتر... " قد يكون ذلك صحيحاً، لكن الزمن قد تغير الآن. اليوم لا توجد الا القليل من المشاكل الاجتماعية لا تُعالج بقياس مظاهر الشعور الانساني او السلوك او الشكل المادي. نحن نلاحظ حالياً المخاوف من امراض السمنة، المستندة اصلاً على احصاءات مكثفة فيها يتم قياس مختلف اوزان الناس.

ان الانقسام الثقافي بين الفن والعلوم تقلص بشكل ملحوظ منذ محاضرة سنو وان القضايا جرت مناقشتها بشكل مكثف، واصبحنا نمتلك فهما افضل عن طبيعتها. غير اننا لا نزال ندرّس طلاب العلوم بطريقة مختلفة عن الطريقة التي نعلّم بها طلاب الفن، مع ان كلا التيارين من الفعالية الفكرية يعترفان الآن بوجود الاخر وان لكل منهما مساهماته القيّمة في الحياة الفكرية للمجتمع الانساني.

الثقافة الثالثة

لكن هناك ثقافة ثالثة شغلت حياة المفكرين الرياضيين. انها تتداخل مع الفن والعلوم لكنها لن تحتوي على اي منهما، ولا هي اتحاد منهما. انها تشبه كليهما ومع ذلك هي متميزة بما يكفي ولدرجة يصعب نسبتها الى اي منهما. انها الموضوع الوحيد الذي تُمنح فيه درجة البكالوريوس في بعض الجامعات اما كبكالوريوس في الفن او كبكالوريوس في العلوم – عن انجاز نفس العمل. الموضوع هو الرياضيات، وان ثقافة الرياضيات الفرعية اسيء فهمها كثيراً من جانب غالبية الناس، سواء كانوا علماء لامعين او فنانين او سياسيين او بيروقراط.

لم يكن (ليفيس) ضد العلم، هو شعر فقط ان العلم لم يلعب دوراً في الثقافة. انت لا تحتاج لتفهم العلم لتعتبر نفسك متعلما، لكن العلم امتلك قيمة تجريبية. الرياضيات عادة تنال تعاملا سيئا من الناس الذين يتباهون بجهلهم كما لو كان فضيلة. لا يمكن ان تكون هذه آلية صحيحة للدفاع عن النفس. عندما تقابل رياضيا، ستستمع الى عبارة "انا لم اكن جيداً في الرياضيات في المدرسة" كأسلوب حماية في عدم التورط في الموضوع. العبارة عادة يتبعها " انت يجب ان تكون ذكيا جداً"والتي هي ايضا اسيء فهمها بنفس المقدار. الرياضيات احدثت تغيرات هائلة في عالمنا وان تأثيرها شمل كل مظاهر المجتمع. انها شديدة الابداع وتتقدم الآن بسرعة اكبر من اي وقت مضى. مع ذلك، معظم الناس غير واعين بماهية الرياضيات، وماذا تعمل او لماذا تستحق الاهتمام. والاسوأ، هم يتصورون انهم يعرفون الجواب لجميع تلك الاسئلة ولم يخطر ببالهم ابداً انهم مخطئين.

لكي تكون الرياضيات مفيدة في مجتمع اليوم، يجب ان تكون غير مرئية. اذا كان مطلوب من كل شخص يستعمل تلفون الموبايل ان يدرس الـ phD في الرياضيات، سوف لن يكون الموبايل جذابا للاسواق الكبيرة ولا للمصنعين. ولكن بدون وجود عدد هام من المهندسين المختصين بالرياضيات المتقدمة التي يلم بها عدد محدود من الرياضيين، فسوف لن يعمل الموبايل فون. اشارات الموبايل ستكون ضئيلة جداً لدرجة يستحيل معها فهم ما يقوله الطرف الآخر، وان طاقة الشبكة ستكون صغيرة لدرجة تجبرنا على تنظيم حجز للمكالمات قبل وقت من الزمن – كما كان الحال عند عمل مكالمة دولية وقت القاء سنو لمحاضرته.

ليس واضحاً تماما لماذا تشغل الرياضيات مثل هذا الموقف الغريب متأرجحة بشدة في الثغرة بين العلم والفن دون ان تكون اي منهما. اسباب ذلك تعود تاريخيا الى عصر النهضة عندما كانت الفنون الليبرالية السبعة تضم الفنون الثلاثية (النحو والمنطق والبلاغة) والرباعية (الحساب والهندسة والموسيقا وعلم الفلك). اثنان من هذه، الحساب والهندسة هما رياضيات وكذلك كان علم الفلك في ذلك الوقت. في الواقع، في القرن السابع كانت الرياضيات في الهند فرعا من علم الفلك. وفي العصر الحديث، اصبح ايضا المنطق جزء من الرياضيات وشكّل الاساس لفكرة اقليدس في البرهان. ومن جهة اخرى، تُعتبر الموسيقى وبوضوح عملاً فنياً، مع انها ذات سمات رياضية مثل بناء الاوزان الموسيقية. اما النحو والبلاغة يشيران الى الادب.

سبب اعتبار الرياضيات ثقافة ثالثة

لاحقاً، اكتسب تطبيق الرياضيات على علم الفلك دوراً قوياً ضمن العلوم الفيزيائية وذلك بفضل كبلر وغاليلو واسحق نيوتن واخرين. (المبادئ الرياضية للعلوم الطبيعية) لإسحاق نيوتن كشفت عن "نظام العالم" من خلال قوانين الرياضيات. وحتى لو كانت الرياضيات ليست علماً بذاتها الا انها اصبحت بسرعة اداة لا غنى عنها في العلوم الفيزيائية. السبب الرئيسي لعدم اعتبارها علماً حقيقياً هو:

1- ان الحقائق الرياضية تتأسس بالمنطق وليس بالتجربة.

2- الرياضيات ايضا تنقصها حرية التعبير الهامة جداً للفن، لأن الرياضيات مقيدة بالحاجة لتكون منسجمة منطقيا. الرياضيات الابداعية تمتلك الحرية في تثوير وجهة النظر وخلق المفاهيم، انها تستطيع تغيير ما يراه الرياضيون ضروريا لكنها لا تستطيع قلب الحقائق القائمة. هي تستطيع تعديلها لتتناسب مع السياقات المتغيرة. نظرية فيثاغوروس هي كاذبة في الهندسة اللااقليدية. لكنها حقيقية في الهندسة الاقليدية.

ولأن الرياضيات ليست علماً بالكامل وليست فنا واضحا، فانها عُدّت من بين العلوم وذلك لأغراض تتعلق بتمويل الحكومة والادارات التعليمية – (بكالوريوس في الفن وبكالوريوس في العلوم). لو انك اُجبرت على الاختيار بين الاثنين، فيجب ان يكون الاختيار للعلوم. الشيء الجيد هو ان الرياضيات كعلم تجذب تمويلاً اكثر مما يجذبه الفن، الشيء السيء انها مهمشة، مقتصرة على المهمات الخدمية البسيطة، تمويلها مثير للشفقة مقارنة بتمويل فيزياء الجسيمات او علم الفلك الراديوي او علم الجينات.

دور الرياضيات في النمو الاقتصادي

في دراسة جرت لحساب الحكومة الامريكية وُجد ان علوم الرياضيات – النقية والتطبيقية والاحصاء وعلوم الكومبيوتر ساهمت في الاقتصاد الامريكي بـ 37 ترليون دولار في العقد الاول من هذا القرن. تقرير عام 2012 الخاص بقياس الفوائد الاقتصادية لبحوث علوم الرياضيات في المملكة المتحدة، الصادر عن Deloitte، استنتج ان 2.8 مليون انسان حصلوا على وظائف في مجال علوم الرياضيات في عام 2012، بما يساهم بحوالي 208 بليون باون (قيمة مضافة اجمالية) للاقتصاد في تلك السنة. المجالات الرئيسية كانت البحوث الصناعية والتنمية، خدمات الكومبيوتر، الفضاء، المستحضرات الصيدلانية والفعاليات المعمارية والاستشارات وغيرها. مع ذلك ظلت الرياضيات هي الأفقر تمويلاً بين العلوم.

لو ان 10% فقط من الـ 9 بليون دولار المخصصة على تجربة معجّل جزيئات الطاقة التي اجريت في سويسرا خُصصت للبحوث في علوم الرياضيات، لربما كانت المنفعة للمجتمع اكبر بكثير وقد تحدث بسرعة اكبر. ان تطوير الجيل القادم من الكومبيوترات العملاقة وهي الخطة التي تُقدر تكاليفها بواحد بليون دولار، تواجه صعوبة كبيرة في العثور على التمويل اللازم لها. النتيجة ستكون ايجاد ماكنة ذات تطبيقات في جميع العلوم – على سبيل المثال، في تغيرات المناخ وفي تصميم مواد خام جديدة ومصادر بديلة للطاقة – وهي سوف تسيطر على مستقبل تكنلوجيا الكومبيوتر.

وفي المدى البعيد، سيكون لجزيئات الطاقة غير المرئية (Higgs) تطبيقات هامة، ولكن حتى الآن كانت المحصلة الايجابية الرئيسية هي في تكنلوجيا جديدة لصنع مجسات الجزيئات. مثل هذه الفوائد كان بالإمكان الحصول عليها بسرعة اكبر من خلال مشاريع ارخص كلفة واكثر تركيزاً. هذا لا يعني الحط من قيمة فيزياء الجسيمات او الدعوة لتقليل تمويلها، ولكن الحكومات بحاجة للاعتراف بقيمة علوم الرياضيات وزيادة تمويلها بشكل هام. الرياضيات ليست مثيرة كماكنة عملاقة، بل هي استثنائية في تعدد استخداماتها وفوائدها مكثفة ومتنوعة.

الاستخدامات المتعددة للرياضيات

في عصر الدجتل هذا، يصعب عمل اي شيء بدون إشراك الرياضيات. لنأخذ مثال من بين مئات الامثلة، النظام العالمي لتحديد المواقع المستخدم في خارطة طريق السيارة، يعتمد على مجالات متعددة من الرياضيات ومختلفة كليا. ان نظرية الأعداد تُستخدم لتوليد سلسلة من ارقام عشوائية تُعتمد بمثابة طريقة لمقارنة الاوقات التي تأخذها اشارات الراديو للوصول الى سيارتك من مختلف الستلايتات الارضية.

علم المثلثات يستطيع حساب موقع سيارتك من تلك الاوقات. الفيزياء الرياضية بشكليها النسبية العامة والخاصة مطلوبة لمنع حركة الارض ومجالها من الجاذبية من التسبب في انحراف الموقع المحسوب عن الموقع الحقيقي. قوانين نيوتن في الجاذبية والحركة استُخدمت لحساب مسارات انطلاق الستلايت. الرياضيات ايضا اصبحت الان ضرورية في علوم الحياة. بحث بايولوجي حديث اوضح ان هناك نموذجين رياضيين قديمين للتطور- نمو الأجنة وشكل الكائنات الحية – هما صحيحان تماما وان النظرية الارثودكسية لـ "المعلومات المكانية" المصممة بانحدار كيميائي هي خاطئة. احدى هذه النظريات الرياضية تعود الى عام 1952 عندما كتب (الن تورنك) معادلات لنمذجة تكوين العلامات الحيوانية مثل البقع والخطوط. والاخرى تعود الى عام 1976 عندما اقترح كل من جوناثن كوك وكرستوفر زيمان نموذج (الساعة وانحدار الموجة) لتكوين الحلزونيات والفقريات.

النماذج الرياضية ايضا تلعب دورا هاما في دراسة السرطان، موفرة اتجاها تقليديا من خلال الجينات والكيمياء البايولوجية عبر توجيه الاهتمام للاليات الفيزيائية التي بواسطتها تنمو الخلايا السرطانية وتنتشر، وتسمح للاطباء بمقارنة مختلف استراتيجيات معالجة الامراض.

ان الاستخدامات الروتينية للرياضيات هي دائما حيوية للمجتمع الحديث وهي بالآلاف. انها تتضمن استخراج البترول وعلم الجريمة وتربية النباتات ونمذجة المناخ وتوقعات الطقس وتجارة سوق الاسهم وتصميم الطائرات والوقود الفعال والطاقة المتجددة وتأثيرات الـ CDs و DVDs والغرافيك في الافلام ومحرك غوغل للبحث وكاميرات الدجتل والتلفونات الانيقة والتلفزيونات ثلاثية الابعاد وخلايا الكومبيوتر والتحقق من السوفت وير والايدز وامراض القلب ومكائن الترجمة للغات الاجنبية.

الفنانون من كل المذاهب يستمدون الإلهام من العلوم والرياضيات. النحات (بيتر راندال) استخدم الهندسة والرياضيات بشكل واضح في الاشكال الطبيعية. غير ان طبيعة واهمية الرياضيات لا تعتمد كليا على استخداماتها التطبيقية او على مزاياها الفنية. انها تختزن اهتماماً فكرياً داخلياً وجمالاً متفرداً. ان سبب الصعوبة في التمكن من طبيعة الموضوع هو انها تضم عدة عناصر متباينة في هيكل معرفي واحد دائم التغيير والنمو. انها تطبيقية، دقيقة، غامضة، مجردة، متجذرة في الطبيعة و في التصور الانساني، تاريخها يمتد الى 4000 سنة وما اكتُشف في الزمن البعيد عادة هو صالح ومهم تماما كما هو اليوم. انه لأمر مذهل، ان تزداد الرياضيات بما لا يقل عن مليون صفحة في السنة وهي دائما شيء واحد. علاقاتها الداخلية تربط موضوعات مختلفة كليا في ويب معقد ومتغير ديناميكيا، ليكون ما هو غاية ميتة بالامس فجأة يصبح تكنيكاً ضرورياً اليوم.

ان الرياضيات هي التي ادخلت المشاكل الاجتماعية ضمن مجالات العلوم. في عام 1835 نشر البلجيكي (ادولف كوتليت) تحليله عن معلومات الجريمة، نسبة الطلاق، الانتحار، الولادات، الوفيات، طول الانسان ووزنه - وهي عوامل لا احد كان يتوقع مطابقتها لاي قانون رياضي لأن اسبابها كانت معقدة وتستلزم اختيارات انسانية او أحداث في الطبيعة. انه بدا من السخف الاعتقاد بان العذاب المعنوي الذي يدفع الانسان للانتحار يمكن اختزاله بمعادلة. وانها ستكون معادلة صائبة لو اردت التنبؤ بالضبط بمنْ سيقتل نفسه. ولكن عندما ركز كوتليت على الاسئلة الاحصائية مثل نسبة حالات الانتحار في مختلف الجماعات، هو رأى نمطا مشتركا، (على شكل منحنىU). بياناته اظهرت ان الناس بشكل جماعي يتصرفون بطريقة يمكن التنبؤ بها اكثر من الافراد.

الاحصاء هو فقط طريقة واحدة تؤثر بها الرياضيات على المجتمع والثقافة الانسانية. معظم التطبيقات الهامة للاحصاء هي في مجال الطب: من النادر العثور على دراسة طبية هامة خالية من الاستخدامات الاحصائية. النظام المالي العالمي ايضا يتطلب جرعة ثقيلة من الاحصاء – عادة تكون سيئة كما لاحظنا في ازمة البنوك عام 2008. غير ان إعادة هندسة القطاع المالي العالمي ليكون اكثر استقراراً سوف يتطلب فهما متطوراً جدا لكيفية عمل النظام، وذلك سيعتمد على رياضيات جديدة.

الرياضيات والتصورات الخاطئة

الكثير منا ينظر الى الثقافة الثالثة كشيء دُفعنا اليه دفعاً اثناء المدرسة، لا نفهمه، لا نحبه ولن نستعمله ابدا. انها توجد فقط لصنع الجيل القادم من مدرسي الرياضيات. انها بلا معنى وغير خلاقة ولم يحدث فيها اي شيء لمئات السنين لأنها بالاصل حدثت كلها سلفا. وفق طريقة البرهان كل سؤال في مناهج الرياضيات له جواب في نهاية المنهج. لكن كل ذلك هراء. الخرافات تسود لأن عدد قليل من الناس يدرك المدى العميق الذي توغلت فيه الرياضيات في اساسيات المجتمع. من المؤسف ان كلمة رياضيات تُستخدم لوصف ما يُدرّس في مستوى المدرسة. هذا العمل يقود الناس للافتراض بان الرياضيات هي ما مارسوه، وهو الذي يتألف بشكل كبير من الحفر المتكرر في المشاكل المفتعلة.لماذا نتعلم كيفية الجمع او الضرب للارقام عندما بالامكان استخدام الحاسبة؟ ذلك معقول لو ان الهدف الوحيد لتعليم الرياضيات هو تعلّم الجمع والضرب، لكن تلك ليست هي المسألة. نحن نتعلم كيفية ضرب الارقام وجمعها لكي نفهم ما تعنيه تلك العمليات. سوف لن نكون قادرين على التقدم نحو مستويات عليا في الموضوع ما لم نستوعبها لتصبح انعكاسا تلقائيا.

الآن، العديد منا لم يقم بدراسة الرياضيات. اذاً لماذا نفرض على الاطفال الكارهين للرياضيات ان يتعلموها؟ لماذا لا نسمح لهم بالخروج وممارسة رياضة كرة القدم؟ افرض انك تحدثت الى احد الآباء وقلت له: من الواضح ان ابنك غير جيد في الرياضيات، ومحاولتك تعليمه هي مضيعة للوقت. ذلك يعني ان ذلك الطفل سوف لن يكون ابداً مبرمج كومبيوتر او كابتن طائرة او جراح او ممرض عيون او كهربائي او تاجر عملات او مهندس او احصائي طبي او سمكري. ولكن كما نعرف سلفا، بدون السماح للطفل محاولة ذلك فسوف لن يكون قادرا على النجاح.

الرياضيات وسوق العمل

ان الاعتقاد بان الوظيفة الوحيدة لخريج الرياضيات هي التعليم هي خرافة وفكرة سخيفة. لو كان ذلك صحيحا لقامت الحكومات بسحب الرياضيات من المنهج قبل وقت طويل باعتبارها مضيعة للوقت. الحقيقة هي العكس بالضبط: القليل جدا من خريجي الرياضيات يذهبون للتعليم لأن العديد من الوظائف ذات الرواتب العالية وظروف العمل الجيدة متوفرة لكل من لديه شهادة في الرياضيات. ان نطاق المهن المتوفرة لخريجي الرياضيات هي واسعة لأن الرياضيات ذات تطبيقات واسعة جداً. الاستبيانات تشير الى ان الطلاب الحاصلين على بكالوريوس في الرياضيات يستلمون رواتب اعلى قياساً بمن درسوا موضوعات اخرى.

لا يجب النظر الى الرياضيات كموضوع مزعج وكسول وتكراري، بل هي ابداعية وخلاقة. هي ربما اكثر المجالات الابداعية في النشاطات الانسانية. لكن الجانب الابداعي يبرز فقط عندما ننظر بكيفية مجيء الرياضيات الجديدة الى الوجود. معظم مدارس الرياضيات تشبه ممارسة السلالم الموسيقية. البحث الرياضي يشبه تأليف ايقاعات جديدة، سونوتات، وحتى سمفونيات. مع ذلك يمكنك الاستماع للموسيقا العظيمة دون الحاجة لتكون ملحن. يصعب جدا تقدير جمال الرياضيات دون القيام بها. الرياضيات ليست متفرج مباراة وهي لم تكن كذلك حتى وقت متأخر.

رؤية برانتد رسل

كتب برانتد راسل عام 1913 في مجلة نيوستيتمن قائلاً ان ميل المجتمع لنقد العلوم هو ليس عيب العلوم ذاتها وانما العيب في الروح التي تُدرّس بها العلوم. لو ان العلوم بلغت امكاناتها القصوى من خلال الاشخاص الذين يدرّسوها، فان قابليتها على انتاج عادات الذهن التي تشكل أعلى تفوق ذهني ستكون بنفس عظمة الادب...."رسل اكد على خصوصية جمال الرياضيات" الرياضيات تمتلك ليس فقط الحقيقة وانما الجمال الاسمى.

ان الانطباع العام هو اننا نعيش في العصر الذهبي للرياضيات. الاكتشافات تحصل بنسبة متسارعة، المشاكل القديمة تتهاوى. الكومبيوترات تقدم المساعدة احيانا لكن العمل الحاسم يتم بواسطة "الخلايا الرمادية الصغيرة". ان ميل الموضوع الى التجريد في الستينات من القرن الماضي، الذي انتقدهُ المراقبون كتأمل ذاتي عقيم، اثبت بالضبط ما ادّعاه الممارسون في ذلك الوقت، انها حركة جوهرية نحو التعميم ووضوح الفكرة التي ستفتح آفاقاً جديدة لكامل الموضوع.

ان العديد من المشاكل الكبرى مثل نظرية (fermat) الاخيرة في العدد، وحدس (كبلر) حول اكثر الطرق فاعلية في حزم المجالات الى بعضها، ووصف (Poincare) للمظاهر الاساسية لتيبولوجيا الابعاد الثلاثة كلها حُلّت في السنوات الاخيرة عبر تطبيق وجهة نظر تجريدية. المراقبون ربما يجدون تلك الطريقة من التفكير غير مريحة لكنها اثبتت قيمتها عدة مرات. في الستينات، قامت اقسام الفيزياء بارشاد طلابها لتجنب دراسة كورسات في الرياضيات لأنها ستدمر عقولهم. اليوم في بريطانيا يوشك مجلس البحوث البايولوجية والبايوتكنلوجية ان يطلب من جميع طلاب الدكتوراه في البايولوجي ان يدرسوا كورساً في الرياضيات مصمم خصيصاً.

رسل كتب ايضا في مقالة له " ان الحياة التي خُصصت للعلوم هي حياة سعيدة، وسعادتها مشتقة من افضل المصادر المفتوحة للمقيمين في هذا الكوكب المضطرب والانفعالي". وكذلك بالنسبة للحياة المخصصة للفنون، وتلك الخاصة بالرياضيات. التنوع في التفكير الانساني يجب الاحتفال به لا تقييده بواحدة فقط من الثقافات الثلاث وفق اساس مزيف من التفوق المزعوم. حينما تتضائل الموارد ويتعاظم الانفجار السكاني ويصبح تأثيرنا على الكوكب رهيبا ومرعبا، سوف نحتاج لاي وسيلة نستطيع بواسطتها البقاء. ثقافة الرياضيات الثالثة والمُتجاهلة عادة ستكون حيوية هنا. حان الوقت لتحريرها من دورها الثانوي والسماح لها لتأخذ مركز الصدارة.

http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/hatimhameed.htm

.................................

المصدر: Ian Stewart بروفيسور الرياضيات في جامعة Warwick في المملكة المتحدة ومؤلف "مشاكل الرياضيات الكبرى"الصادرعن(profile Books).

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 18/آب/2013 - 10/شوال/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م