شكلت ظاهرة العنف التي اجتاحت العديد من بلدان العالم، مفاجأة عند
البعض، فكيف لمجتمع يتعايش أفراده بسلام منذ مئات السنين، أن تتحول
مكوناته (الدينية والمذهبية والفكرية) إلى عصابات متقاتلة؟! وكيف
لمواطن مسالم أن يصبح فئوياً ضيقاً وعدوانياً متعصباً وإقصائياً
متسلطاً، وربما يكون قاتلاً أو نصيراً لقتلة؟!
في خضم انفجار العنف المجتمعي، بهذا الشكل الدموي المتوحش، وجد بعض
آخر أن الذي عليه المجتمعات اليوم من كراهية وعنف (تفجيراً وذبحاً)،
ليس أمراً طارئاً، بل هو عنف متجذر بالنفوس، وقد تفجر بتوفر الأجواء
المناسبة لظهوره علناً، ما يعني أن هذه المجتمعات مأزومة قبل دخولها
أزمة العنف المستشرية اليوم، فقد بدت تلك المجتمعات بحالة عنف لا يمكن
أن تولد بين ليلة وضحاها.
منذ زمن، لم يكن فيه عنف كالذي يجتاح بلداننا اليوم، وإلى حين رحيله،
ظل الإمام الشيرازي ولأكثر من نصف قرن، يدعو الأمة والبشرية إلى (اللاعنف)
كخيار استراتيجي في الدولة والمجتمع، المعارضة والسلطة، الإعلام
والثقافة، الحرب والسلم، وحقوق الأكثرية والأقليات، فيقول(قده): (نؤكد
ضرورة الالتزام بسياسة السلّم واللاعنف في جميع مجالات الحياة، كما أمر
الله(عزوجل)، ورسوله(ص)، وأهل بيته الطاهرين(سلام الله عليهم) بذلك).
حينها، وفي الوقت الذي كان البعض ينظر إلى كتابات الإمام المجدد(قده)
في (اللاعنف) بأنها "ترفاً فكرياً لا حاجة للمسلمين أو غيرهم بها"،
كان(قده) قد تشعب في نظريته بآفاق شملت (النظرية والتطبيق)، بل طرح(قده)
ما يعد اتجاهاً شمولياً، امتد من الماضي إلى الحاضر، ويبني رؤى
للمستقبل، وفي نظريته هذه أكد من خلال النصوص المقدسة كرامة الإنسان،
ومعاصرة طروحاته للحاضر بكل تعقيداته السياسية واتجاهاته الفكرية
المتناقضة، فالسلام واللاعنف في رؤيته(قده) مشروع يجب أن يسود كامل
الحياة، بدءاً من الفرد والعائلة، مروراً بالمجتمع (أحزاب وتجمعات)،
وصولاً إلى الدولة لتحقيق السلام العالمي، مبشراً - من خلال ذلك -
بعالم جديد قائم على الإيمان والحرية والرفاه والسلام.
الشيرازي.. إستثنائياً
مؤخراً، في ندوة عامة، انتقد باحث في الفكر الإسلامي تأخر اعتراف
الخط الإسلامي بالديمقراطية، قائلاً بأنه (قبل ربع قرن، كان الخط
الإسلامي (سنة وشيعة) يعتبر الديمقراطية كفراً، لكنه اليوم يتبنى
الديمقراطية بصوت عال). أحد الحضور (صحفي) رد عليه بالقول: (السيد محمد
الشيرازي كتب في الديمقراطية قبل أربعين عاماً). أجابه الباحث: (أعلم
بذلك، السيد الشيرازي كتب في الديمقراطية ناقداً ومنظراً، بل إنه قدم
إلى العالم ديمقراطية – إستشارية، سد فيها ثغرات الديمقراطية الغربية
وفتح انسداداتها).
أضاف الباحث: (لكن موقف السيد الشيرازي إستثناء، لأنه الوحيد من كتب
في الديمقراطية، ولأنني اطلعت على أهم كتابات الفكر الغربي عن
الديمقراطية، أرى أن كتابات السيد الشيرازي، وفي أكثر من مجال، لو تمت
ترجمتها إلى اللغات العالمية، لحظيت باهتمام كبير، ولوجدنا انتشاراً
واسعاً للتشيع في نصف الآخر من الكرة الأرضية، حيث إن تلك الكتابات
تلامس واقع الإنسان وهمومه اليومية وتطلعاته المستقبلية).
نعم، الإمام الشيرازي استثناء في العديد من محطات الفقه والفكر
والحياة، فقد كان أكثر من فقيه ومرجع ومجدد، وأكثر من مفكر ومصلح ومؤسس.
فقد كتب في محاور فكرية مازالت تشكل جدلاً ساخناً في مراكز الدراسات
الفكرية والسياسية في العالم.
ومن كتاباته الفريدة، كتب في الدولة، وقد أكد أن الحرية أساس بناء
دولة الإنسان، محذراً من تداعيات تضخم حجمها (الدولة) على الإنسان (حرية
وتنمية)، مشيراً إلى أن (الحرية حق مقدس، وليس لأحد أن يعتدي عليه،
ويلزم على الدولة والمجتمع توفير الضمانات الكافية لحماية حرية الأفراد).
وله(قده) مؤلفات بالاقتصاد، الذي بات الهمّ الأكبر لمعظم شعوب الأرض
ومهدداً لاستقرار الدول، مبيناً أن (الاقتصاد في منطق الإسلام هو في
خدمة الإنسان لأن الإنسان هو المحور، بينما صار الإنسان في النظم
الأخرى بخدمة الاقتصاد، وإذا كان (الإنسان) هو المحور، وسائر الأمور في
خدمة هذا المحور، ستعيش البشرية برفاه وسعادة واكتفاء، ثم إن كون
الإنسان محوراً يعطى له كل قيمة، فإن سائر الأشياء لا قيمة لها، إلا
بقدر خدمتها للإنسان).
وهنا إستثنائية إنسانية للراحل الكبير في زمن إستثنائي بتمرده على
الإنسانية!!.
في ذكرى رحيله.. كلمات
* لقد أظهر الإمام الشيرازي قدراته التسجيلية والتوثيقية الفائقة،
في مؤلفاته بحقل العلوم التاريخية، حيث حضور المعلومة، والبيانات
والمعطيات، في وقتها ومضانها ومكانها، على اتساع وتنوّع مراجعها
ومصادرها، مهما كانت تفرعاتها، مما يؤشر سعة الإطلاع والقراءات،
والثقافة الموسوعية المنفتحة، والتي تأكدت من خلال الحقول المعرفية
المختلفة، لسلسلة موسوعة الفقه، وحضور الموضوع التاريخي فيها.
* يمثل الإمام الشيرازي مشروعاً نهضوياً شاملاً، ستستفيد منه
الأجيال والعصور القادمة، لأنه يجسد مشروعاً متجانس الأبعاد، واسع
الحركة، عميق بتجربته الإنسانية الحية، ويمثل الجسر الواصل بين الأصالة
والحداثة، وقد يستطيع القادمون في المستقبل اكتشاف كنه أفكاره
الإنسانية الأصيلة. فقد عاش وارتحل غريباً، ولن تعرفه الدنيا إلا بعد
مائتي عام، كما قال ذلك آية الله العظمى السيد المرعشي(قده).
* الإمام الشيرازي، مرجعية متميزة بكل المقاييس، وقد صدر له في مجال
التأليف مئات الكتب، في شتى مجالات الفقه والفكر والحياة، ومن مؤلفاته
(الموسوعة الفقهية) التي لم ير لها مثيل في المكتبة الإسلامية، وهي
موسوعة فريدة في شموليتها وتفريعاتها واستيعابها للأدلة، وفريدة في
حجمها، فهي تتضمن أكثر من مائة وأربعين مجلداً، وعدد صفحاتها تجاوز
ستين ألف صفحة.
* وضع الإمام الشيرازي لإحداث التغيير، مجموعة من المقومات يعبر
عنها بـ(المقدمات) وأولها الوعي السياسي، معتبراً إيّاه من أهم الأمور
الواجبة على من يتصدى لهذه العملية، فيشير إلى فهم السياسة بالقول:
(بدون فهم السياسة، لا يتمكن الإنسان من الشروع في العمل، وإن بدأ فإنه
لا يتمكن من الاستقامة في أمره، وإن تجلد وقاوم، فإنه لا يتمكن من
مواصلة السير بالحركة إلى شاطئ السلام والهدف المنشود).
* دعا الإمام الشيرازي إلى السلام باعتباره مبدأ ينطلق أولاً من
الفكر الإسلامي، وثانياً من الطبيعة السوية والمستقيمة للإنسان، لأن
العنف لا يمثل الطبيعة السوية للإنسان، ولذا فإن النظرية السياسية التي
قدمها(قده) في عدد من كتبه وبحوثه ودراساته، تتمحور حول مبدأ السلام،
فالسلام عنده هدف من جهة، وهو وسيلة من جهة أخرى.
* يعتبر الإمام الشيرازي صاحب نظرية متكاملة وواضحة المعالم في منهج
الحكم الإسلامي، وقد أخذت هذه المسألة المهمة حيزاً كبيراً من اهتمامه،
فلم يخلُ كتاب فقهي أو ثقافي إلا وتطرق إلى متانة الحكم الإسلامي
ومبادئه الإنسانية، بل أفرد له كتباً خاصة، كـ(الحكم في الإسلام)، (الدولة
الإسلامية)، وقد تناول فيهما بشكل تفصيلي منهج الحكم الإسلامي.
* امتلك الإمام الشيرازي عقلية مبدعة وخصبة، مكنته من الإبداع
والتجديد والتطوير، في مختلف حقول المعارف الدينية، فقد ألّف(قده)
العديد من الكتب التي تتناول القضايا المعاصرة والمسائل المستجدة، وقد
أجاب عن الإشكاليات المثارة حول الإسلام، وتمكن من عرض مبادئ الإسلام
وقيمه ومثله بلغة ومفردات معاصرة.
* استطاع الإمام الشيرازي أن يؤسس لنظرية متكاملة لمشروع النهضة
الإسلامية، وكتاباه (السبيل إلى إنهاض المسلمين)، (الصياغة الجديدة)،
يشكلان محور الرؤية المتكاملة لمشروع النهضة الإسلامية في العصر
الحديث.
* من مآثر الإمام الشيرازي، تفرده بمواقف رائدة بالطرح، تجديدية
بالفكر، ثائرة بالتغيير، حكيمة بالإصلاح، نبيلة بالوسيلة والغاية،
مواقف جعلته من القادة الإنسانيين التاريخيين، وفي الوقت نفسه، أقعدته
بوحدة وغربة في بيت متواضع، طيلة سنوات مريرة. ورغم عظمة الابتلاء، لم
يستوحش طريق الحق، فظل مستأنساً ومستبشراً ببشارة الإمام المنتظر(عجل
الله تعالى فرجه الشريف)، حتى وافاه الأجل المحتوم، فرحل صابراً
محتسباً وشاهداً سعيداً، في يوم الإثنين، الثاني من شوال/ 1422هـ، فيما
يلف جسده المثخن بجراحات وآلام، عبق الشوق لكربلاء، وقد أوصى أن يكون
مستقره بجوار جده سيد الشهداء(سلام الله عليه)، ولا حول ولا قوة إلا
بالله العلي العظيم.
* أجوبة المسائل الشرعية العدد (191) لشهر
شوال لسنة 1434 هـ
http://alshirazi.com/rflo/ajowbeh/ajowbeh.htm |