شبكة النبأ: في كتابه القيّم، الموسوم
بـ (الفقه: السلم والسلام)، يقدم الامام الراحل، آية الله العظمى،
السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، رؤيته حول المنهج الكلي
الشامل للسلم والسلام من منظور اسلامي، ويطرح في هذه الرؤية منهج السلم
والسلام الذي لا ينحصر بالمجال السياسي تحديدا، بل يتعدى ذلك الى كل
مجالات الحياة التي ينشط فيها الانسان، ويقدم فيها جهدا فكريا أو
عضليا، حيث يتدخل السلام في بناء الحياة الامثل للانسان بصورة كليّة
وغير مجتزأة.
ومن دون ادنى شك أن الحياة لا يمكن ان تستقيم، ما لم يدعمها السلام
الدائم والاستقرار لكي يتمكن الانسان من الابداع والانتاج الافضل، في
جميع مفاصل الحركة والنشاط في البعدين النظري والتطبيقي، ولذلك يؤكد
المصلحون كافة، وتجارب الحياة ايضا، بأن الحياة الجيدة والسلم قرينان
لا يفترقان عن بعضهما.
وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام في غرر الحكم ودرر الكلم، حول
عواقب السلم والسلام ودور ذلك في بناء الحياة: ( لا عاقبة أسلم من
عواقب السلم).
السلام حياة متكاملة
قد يفهم البعض أن السلم والسلام نقيض الحرب والصراع المسلح، ومع ان
هذا التصور صحيح، لكن السلم كما يراه الامام الشيرازي لا يتعلق بردع
العدوان وتحييد السلاح فحسب، بل يتعدى ذلك الى مجالات الحياة كافة،
لذلك يعد السلام كلّي المنهج، شمولي النظرة وفقا للمنظور الاسلامي، ولا
ينحصر برفض الحرب فحسب، إنما إشاعة السلم في كل مفاصل الحياة.
هذه هي رؤية الاسلام للسلم ودوره في بناء المجتمع الانساني المثالي،
ومن هذه الرؤية الشاملة، يستقي الامام الشيرازي آرأه حول السلم وطبيعة
السلام المطلوب لصناعة الحياة المثلى، وقد ورد في مقدمة كتاب الامام
الشيرازي، لأحد الكتاب حول رؤية سماحته للسلم والسلام: (إن الإمام
الشيرازي لم يقصر تنظيره حول فقه السلم واللاعنف فيما يتعلق بالجانب
الفقهي فحسب، بل انطلق بطرحه ليضفي على هذا المفهوم بعداً أشمل وأوسع
برفضه كل أشكال العنف السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأسري وحتى في
الحرب، وذلك اعتماداً على أن المسالمة نظرية متكاملة، ومنهج سلوك
متواصل، وخيار حضاري، وعليه كان الشيرازي داعية اللاعنف ومجدداً ورائداً
في مبدأ السلام ونبذ الإرهاب في حل جميع المشكلات والقضايا المعاصرة،
وكل ما تعانيه البشرية من سلوكيات منحرفة).
ويؤكد سماحة الامام الشيرازي على أن السلم مبدأ يستحق الانسان أن
يتنعم به، ويقرن السلام بحرية الرأي ورفض الاكراه والقسر، في الفكر او
الدين او المعتقد، لأن الانسان حر ولا يصح تجاوز هذه الحرية، أو فرضها
او قولبتها في قوالب محدودة، بل ينبغي توفير السلم مقرونا بحرية الرأي
والفكر والمعتقد، حتى يستطيع الانسان الفرد والجماعة، المشاركة في صنع
حياة حرة كريمة تتوافق مع القيمة الحقيقية للانسان.
لذا يقول الامام الشيرازي في هذا الشأن بكتابه المذكور نفسه: (من
مبادئ الإسلام المهمة الواجبة التطبيق هو مبدأ تنعم الإنسان بالسلم
والسلام، والأمن والحرية، وأن لا يكره إنسان على رأي خاص ونظرية خاصة،
سواء ترتبط بالكون أو الطبيعة أو الإنسان، وحتى في قضايا الدين فالمقرر
عدم الإكراه في الدين).
لذلك يرى الامام الشيرازي في نظرة الاسلام للسلم بأنها حجر الزاوية
في تحقيق تطلعات الانسان لبناء مجتمع متوازن، خال من العبودية، رافض
للحروب، لا يقبل كل اشكال العدوان، المسلح منها وغير المسلح، لهذا جعل
الاسلام السلام في صلب مبادئه، وحث عليه، كما يرد ذلك في نصوص قرآنية
مباركة (فاجنحوا للسلم)، كذلك نجد في السيرة النبوية الشريفة ما يؤكد
منهج السلام والسلم ونشره في الدولة الاسمية واعتماده كمبدأ لنشر
تعاليم الاسلام، لذلك يبقى السلم جوهر الاسلام الحقيقي.
يقول الامام الشيرازي بكتابه القيم نفسه: (إن الإسلام جعل -السلام-
شعاراً لـه واختاره تحية للمسلمين، حيث إن المسلم إذا التقى بمسلم قال:
- سلام عليكم- أو ما أشبه ذلك من الصيغ المذكورة في باب السلام وأحكامه).
الانسان مأمور بحفظ نفسه وسواه
لهذا السبب فإن الانسان مطالب بالسير وفق منهج السلم في جميع
الاحوال، سواءا تعلق الامر بنفسه او سواه من الناس والممتلكات، لأنه
المنهج الطبيعي الذي يوافق طبيعة الانسان وحريته وفطرته، لذلك يقول
الامام الشيرازي في هذا المجال: (إن الإنسان ليس مأموراً بحفظ نفسه
وسلمها وسلامها فقط، بل مأمور بحفظ غيره وسلمه وسلامه أيضاً).
وقد وعت الانسانية جمعاء، حاجتها الفعلية للسلام، بعد موجات الحروب
التي اكتسحت العالم، وألحقت به الويلات والكوارث التي يصعب وصفها
وعلاجها، منها ما حدث في التاريخ القديم والمنظور والتاريخ المعاصر
ايضا، حيث الحروب التي كان حطبها عشرات الملايين من البشر، فضلا عن
التدمير الكارثي الذي ألحق بالممتلكات والمزروعات والصناعات كافة،
فخسرت الانسانية جهودا جبارة كانت تهدف الى بناء الانسان والحياة معا.
لهذا شعر الانسان بحاجته الى السلم، حتى اولئك الذين لا يعيرون
الاهتمام المطلوب للسلم، بسبب نزعتهم العدائية، عرفوا ايضا قيمة السلم
في تحقيق البناء الامثل.
لذلك يقول الامام الشيرازي في هذا الجانب بالكتاب المذكور نفسه: (في
هذا العصر بالذات خصوصاً في النصف الأخير من هذا القرن، التفت الإنسان
إلى ضرورة البحث عن السلم والسلام، وصار الشغل الشاغل للناس في وسائلهم
الإعلامية وغيرها، ومدارسهم الخاصة ومدارسهم الدولية، فصاروا يتكلمون
في الشرق والغرب عن السلم والسلام، ويبحثون عنه في المؤتمرات الدولية
وفي المؤتمرات القطرية، وينشدونه في كل محفل من المحافل، في شتّى
أقسامها وباختلاف مستوياتها، حتى تلك الدول التي تثير الرعب وتشيع
الخوف في بلدانها وبين جيرانها، نراهم يبحثون عن السلام أو يتكلمون
فيه).
وما يدل على حاجة الانسانية الملحة للسلم، توظيف الاعلام بصورة
كبيرة وملحّة ومدروسة، لتحقيق هذا الهدف حيث تبذل الدول والمؤسسات
المدنية وجميع المعنيين جميع الفرص المتاحة لتحقيق السلم، بسبب حاجة
الانسانية لإشاعة هذا المبدأ الاساسي لبناء الحياة السلمية المتينة.
لذلك من الدلائل التي تؤكد منهج السلم، نجدها في قول الامام
الشيرازي في هذا المجال: (كلما اشتد البحث عن السلم والسلام في الوسائل
الإعلامية وغيرها، وعلت الأصوات في ترويج كلمة السلام وتكرارها، ربما
دل ذلك على مدى مشكلة البشرية ومعاناتها وصعوبة الوصول إلى السلام
وتعقد مسالك سبلـه وضياع معالمه، وإلا لم يكن البحث عنه شديداً، فإن
الإنسان إذا فقد شيئاً طلبه حثيثاً لكي يصل إليه). |