إشكالية الحداثة في مصر

علي حسين كبايسي

 

عاش ابن خلدون يصنع الدسائس والمكائد ويؤلب القبائل على بعضها البعض خدمة للسلطان الزياني، ولما هاجر إلى مصر تغيرت حياته فأصبح قاضي القضاة على المذهب المالكي، وتفتقت عبقريته العلمية فألف مقدمته الشهيرة وأسس بذلك علم الاجتماع.

ما هنأ بال المعز لدين الله الفاطمي وما قرة له عين حتى استولى قائده العسكري جوهر الصقلي على مصر بقضائه على الدولة الإخشيدية، فلولا مصر ما أمكن له القيام بدولة على غرار الدولة العباسية، وبدورهم صنع الفاطميون الحضارة الثانية بعد الحضارة الفرعونية لأهل مصر ببنائهم القاهرة والجامع الأزهر الشريف وحضارة بعبق إسلامي.

فمصر بموروثها الحضاري وتموقعها الجغرافي مهيأة للحداثة والدخول إلى دولة مدنية، وهذا ما فعله محمد علي باشا الباني الحقيقي للدولة المصرية الحديثة فيرجع إليه الفضل في بناء جيش قوي مع أسطول بحري، وتطوير التعليم في مصر بإرسال أول بعثات إلى خارج للدراسات العليا وإنشاء معاهد عليا، وأحدث زراعة القطن وقصب السكر فكان القطن العمود الفقري للاقتصاد المصري، ومن القصب صنع الفقير المصري العسل الأسود ليسد به رمق جوعه،إلا أن القوى الاستعمارية أبت أن يحقق محمد علي باشا أهدافه.

القوى الاستعمارية إلى اليوم تلعب دور كابح لأي نهوض مصري، ولكن الإشكال لا يمكن حصره فقط في القوى الاستعمارية كمؤثر خارجي، فالمؤثرات الداخلية حاضرة بقوة ومنها:

- بعد سقوط الدولة الفاطمية على يد الأيوبيين وبهاء الدين قراقوش أغلق الجامع الأزهر وأحرقت أكبر مكتبة عالمية في ذاك العصر فالتاريخ يعيد نفسه، كما أحرق بن العاص مكتبة الإسكندرية!!، ما أسهل عند هؤلاء التلاعب بالموروث الإنساني، فأسقطت الحضارة وأبيدت، ودخلت مصر غياهب الظلمات والتي اشتدت ظلمة مع العصر المملوكي والعثماني حيث عانى الشعب المصري ويلات الاستبداد والقهر، فاستحدثت في الخطاب المصري الشعبي لغة المهانة والاستعباد الإقطاعي، وأصبح الشعب بلا هوية بلا انتلنجنسيا والسبب أنظمة الحكم الفاسدة القائمة على حكم العسكر.

- من الوباء الذي حل بمصر فيروس الإخوان الذي أنشأ بمصر عام 1928 وفيروس الوهابية التي حل بها مع مطلع السبعينات بعد الاتفاق الذي حدث بين كمال أدهم وأنور السادات بشراء الأزهر والسماح للوهابية باختراقه.

تنبه محمد علي باشا إلى خطر فيروس الوهابية في بداياته فأرسل ابنه إبراهيم باشا ليقضي عليه في مضجعه الدرعية، وكانت الضربة القاضية لولا تدخل القوى الاستعمارية التي حافظت ونمت هذا الفيروس ليلعب دورا مهما في قيام الدولة الإسرائيلية وصنع الخراب في العالم العربي وإدخاله العصر الحجري.

كذلك تنبه جمال عبد الناصر لخطر الفيروسين (1) فكان لهم بالمرصاد، ورغم ذلك لعبا دورا كبيرا في تدمير مشروعه القومي العربي، وزاد الطين بلة حكم العسكر الذي ورثه المصريين، موروث أُشرِب بالديكتاتورية وعبادة الحاكم، والاستبداد لا يصنع إلا الهزيمة ومشتقاتها النكسة والوكسة.

حاول الإخوان لما سمحت لهم الفرصة بالاستيلاء على حكم مصر عقب ثورة 25 يناير بالمباركة الغربية، أن يقوموا بوظيفتهم الفيروسية التخريبية وتنفيذ المخططات الصهيوأمريكية (2)، فكان الشعب لهم بالمرصاد بعد سنة من الترقب، الوضع الاجتماعي يزداد سوءًا ولغة العنف تقرع لها الطبول، والانحدار إلى هاوية الجحيم بدء مع المئة يوم، ولكن غياب مشروع تنموي لدى المعارضة يتبنى طموحات وآمال الشعب المصري والمتمثلة في العداء للصهيونية، وعدم التبعية للغرب والرجوع إلى الأصالة المصرية التي تستلهم من الأحياء المصرية القديمة التي كانت يوما حاضنة للتنوير أضعف الأمل في النهوض والحداثة بانعدام البدائل المطلوبة، وما يزيد المعارضة سوءا اعتمادها على سلاح إعلامي يعيش الأوهام بلغة استعلائية ترى الواقع المصري وكأنه دالاس الأمريكية بينما 60%من المصريين يعيشون تحت خط الفقر يشربون من مياه المجاري ويشاركون الأموات سكناهم.

.......................................

(1) الفيروسين من ابتداع ابن تيمية، ففيروس الوهابية أحياه محمد بن عبد الوهاب وفيروس الإخوان أحياه رشيد رضا، وكلا الفيروسين تم تنشيطهم برعاية بريطانية.

(2) الإخوان أصحاب الحضور القوي في خدمة المشاريع والمخططات الصهيوأمريكية من إرسال الشباب العربي إلى القتال في أفغانستان زمن الاتحاد السوفيتي، الحملة الإعلامية الشرسة التي أطلقوها من فرانكفورت ضد الثورة الايرانية، الدمار الذي تعيشه سوريا اليوم.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 8/آب/2013 - 30/رمضان/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م