قبسات من نهج الامام علي عليه السلام في الحكم

اكسبوا ثقة الناس، تتجنبوا الاضطرابات

 

شبكة النبأ: ما تزال قيمة "الأخلاق" تتعرض للتهميش في أنظمة الحكم لدينا، ولا تدخل ضمن العناصر الأساس لبناء الدولة، وايضاً في العلاقة بين الدولة والمجتمع. إنما هنالك معايير وأحكام – وليست قيم- تنظر أولاً الى الحاكم ومصالحه السياسية وامتيازاته. ثم تترك المجتمع، وهم مختلف الشرائح والمكونات، يتحملون مسؤولية أنفسهم بأنفسهم، فالفقير يتحمل مسؤولية فقره، والغني يزداد غنىً، والقوي هو المفضل. ولا يهم بعد ذلك، ان تكون الدولة مهددة بالاضطراب على الصعيد الاجتماعي ثم السياسي، لان هنالك وسائل الترهيب ثم الترغيب، ثم الدواء الأخير "الكيّ" بالعصي والهراوات..!

ونحن نعيش الأيام الأليمة الخاصة بأمير المؤمنين عليه السلام، وغيابه عن المجتمع الكوفي سنة أربعين للهجرة، حريّ بنا ونحن ندّعي وجوده بيننا منهجاً حتى اليوم. لأن نراجع سياسته في الحكم، ونتوقف عندها مليّاً، ثم نتساءل: هل بوسع نظام حكم أو حاكم في بلادنا أن يدرج صفة "الإحسان" و"حسن الظنّ" في منهاج حكمه؟

لنسأل أي مسؤول حكومي عندنا، عن ذلك، سيقطّب جبينه وحاجبيه، مستغرباً من السؤال، وكيف انك توجه اليه هذا السؤال ولم تذهب الى المسجد او الحسينية او مراكز النشاط الخيري والانساني..؟! بينما أمير المؤمنين عليه السلام، الذي عنده "الإمرة" أقل شأناً من نعله المتواضع، "إلا ان يقيم حقاً أو يدحض باطلاً". يدرج الإحسان وحسن الظن في عهده الشهير الى مالك الأشتر بعد أن ولاه مصر. يقول، عليه السلام: "وَلاَ يَكُونَنَّ الْـمُحْسِنُ وَالْمُسِيءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ، فَإِنَّ فِي ذلِكَ تَزْهِيداً لأَهْلِ الإِحْسَانِ فِي الإْحْسَانِ، وتَدْرِيباً لأَهْلِ الإِسَاءَةِ عَلَى الإْسَاءَةِ، وَأَلْزِمْ كُلاًّ مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ..".

ما يضر الحكومة المركزية في العاصمة، والحكومات المحلية، أن تقيم حفلات تكريم، لمحسنين ومن ذوي الأيدي البيضاء، كما تقام هكذا احتفالات من قبل المؤسسات الثقافية المستقلة لبعض المبدعين في عالم الفن والثقافة والادب؟ وليكن التكريم والتقدير والتشجيع، بأشكال مختلفة، أكثرها جدوائية ونفعاً، تذليل العقبات والصعوبات، وإلغاء الروتين أمام النشاطات الخيرية وأعمال البر والإحسان.

لكن للأسف، يرى الناس العكس تماماً، فان الدولة ليس فقط لا تكرم ولا تشجع أحد على الإحسان، إنما استسهال الاعتداء والظلم بحق الناس، وهنالك العديد من الملفات التي تتزايد يوماً بعد آخر، كما لو أن هناك مستودعاً أو لنقل سلّة مهملات كبيرة لقضايا الاعتداء على حقوق الناس، وآخرها عملية قتل المدرب محمد عباس على يد افراد القوات الخاصة، باستخدام العصى الغليظة ضرباً على الرأس في حادثة مروعة، كان المدرب المغدور بصدد التدخل لفك شجار بين الشرطة واللاعبين. وتكاد القضية يطويها النسيان، في أروقة الشرطة والمحاكم و... وقبلها قضايا وملفات عديدة، ولم يتحلّى المسؤولون سواءً في البرلمان او في الحكومة، بالشجاعة الكافية لأن يعرضوا مسيئاً او متجاوزاً على الحقوق على شاشة التلفاز ليحاكم امام الناس على افعاله وإساءاته، ليعرف الناس أنهم محترمون ولهم حقوقهم، وهو ما يدفعهم بالمقابل الى احترام القوانين والاجراءات الحكومية، ثم يرتفع منسوب الثقة بالحكومة والدولة بشكل عام.

بالحقيقة؛ ما أعجب بعض الحكام والمسؤولين عندما يخسرون ثقتهم بالشعب بسبب مصالح ضيقة وتافهة، ويحصلون على شكوك واحتقان وغيض الناس بأثمان باهظة..! أمير المؤمنين عليه السلام، يدعو مالك، الى تخفيف الضغوط على الناس، بمختلف اشكالها، وعدم تحميلهم ما لا طاقة لهم، لاسيما فيما يتعلق بالخدمات وما يدخل في صلب معيشتهم واستقرارهم النفسي. فالذي ينتج الكهرباء والماء بنفسه في بيته، ويتاجر ويكتسب دون وجود قوانين اقتصادية عادلة، ثم يسكن بقوانين جائرة، كيف يحسن الظن بحكومته ويحتمل وجود مستقبل لها؟

لقد ربط أمير المؤمنين عليه السلام، بين كسب حسن الظن بالإحسان الى الناس: "..وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ بِأَدْعَى إِلَى حُسْنِ ظَنِّ وَالٍ بِرَعِيَّتِهِ مِنْ إحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، وَتَخْفِيفِهِ الْمَؤُونَاتِ عَلَيْهِمْ، وَتَرْكِ اسْتِكْرَاهِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى مَا لَيْسَ لهُ قِبَلَهُمْ، فَلْيَكُنْ مِنْكَ فِي ذلِكَ أَمْرٌ يَجَتَمِعُ لَكَ بِهِ حُسْنُ الظَّن حُسْنَ الظَّنِّ يَقْطَعُ عَنْكَ نَصَباً طَوِيلاً..". فما الذي يقصده الإمام عليه السلام، من "النصب" او التعب، اذا كسب الحاكم حسن ظن الناس به..؟ انه سؤال على كل مسؤول ان يطرحه على نفسه، لاسيما في بلد مثل العراق، يفترض ان يطبق مبادئ الديمقراطية والمشاركة الجماهيرية.

انعدام الثقة؛ هذا المعول الذي طالما هدم وأطاح بعروش الطغاة رغم امتلاكهم اسباب القوة والمنعة. بالامكان تفاديه والتخلص منه بحسن المعاملة والإحسان الى الناس، أو على الاقل التقليل من الاساءات والتجاوزات التي يسمعها الناس يومياً من خلال وسائل الاعلام، حيث انتشار الفساد الاداري والسرقات المنظمة وتجاهل حقوق الناس.

والإمام عليه السلام، ببلاغته الرائعة وأدبه الرفيع، يختزل كل هذه المآلات الرهيبة من ثورات وانتفاضات وحمامات الدم بدوافع الانتقام، بـ "النصب". فهذا النصب والتعب، يحمّل الناس والبلد والبنية التحية والاجيال أثمان باهظة وتركة ثقيلة كالذي نشهده في العراق وما نزال.

ثم يأتي أمير المؤمنين عليه السلام، ليضع قاعدة رصينة للعلاقة بين المسؤول والمواطن، بناءً على المعطيات الموجودة، وهي أن يكون المسؤول، مهما كانت مرتبته ومنصبه لحسن أو سوء الظن، لأن ما يصدر من المواطن والمجتمع، هو نتاج افعال وسياسات الحاكم، كما يؤكد هذه الحقيقة أمير المؤمنين عليه السلام: "وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ حَسُنَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ حَسُنَ بَلاَؤُكَ عِنْدَهُ، وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ سَاءَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ سَاءَ بَلاَؤُكَ عِنْدَهُ". بمعنى أن لا ينتظر المسؤول من الناس التصفيق والتهليل، إنما الانتقاد والتبرّم اذا كان الأداء سيئاً، وبالقطع يكون حسن الظن والرد بالإحسان، مقابل الإحسان، أما ان تحدث بعض المسؤولين عن أن الناس لن يحترموا ويقدروا الجهود المبذولة، فهذا من الأعذار الواهية للتنصّل من المسؤولية وإلقاء التهمة على الناس. فالاغلبية مع المنطق الصحيح والتوجه الملائم للفطرة، تبقى قلّة شاذة في المجتمع من لا ترضى حتى بالمعاجز..

لنتصور مسؤولاً كبيراً ورفيعاً في العراق، في ندوة زراعية مع مسؤولين محليين، حضرها بعض المزارعين جنوب العراق، وكان الحديث حول الحصص المائية، فاعترض أحدهم على الحصة الموجودة وهي غير كافية للري، فما كان جواب المسؤول بكل حدّة وصلافة: "اذا كان الله لا يعطيك الماء فما تريدني أن أفعل"؟!

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 30/تموز/2013 - 21/رمضان/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م