رمضان... شهر السياحة النفسية

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

 

شبكة النبأ: طيلة الأحد عشر شهراً، يعيش الانسان سجين نفسه وذاته، فهو يبحث عن مصالحه وما يحقق ذاته في الحياة، وربما هي مشروعة بل ومطلوبة، فهو يكدّ على عياله بالعمل في ميادين اختصاصه، كأن يكون عامل بناء أو خباز أو حداد، أو تاجر، أو سائق او غير ذلك. فيجهد نفسه في تحصيل الرزق والربح الاكثر لتوفير أكبر قدر ممكن من الرفاهية لأسرته. وأكثر من ذلك، فهو ربما يفكر في توفير الراحة النفسية، حيث يخطط للذهاب بهم الى رحلة استجمام هنا أو هناك، أو الى لزيارة العتبات المقدسة لإجراء نوع من التجديد المعنوي والروحي. كل ذلك يُعد من الأمور الحسنة والمطلوبة. لكن يبقى أمر واحد على الانسان الالتفات اليه، وعدم التغافل عنه، وهو نفسه التي بين جنبيه.. فلها حقٌ عليه. فما هي سياحتها؟ وما هي فرصة التجديد؟

سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي – دام ظله- يؤكد على أن "شهر رمضان المبارك تعد مناسبة جيدة جداً للتغيير..". وسماحته ينبه الى نقطة مهمة في هذا السياق، وهي ان فرصة التغيير في شهر رمضان، لا تقتصر على المتدينين الذين يعيشون الأجواء الايمانية، او بالقرب من مراقد الأئمة المعصومين، بل انها - الفرصة- تمثل باباً واسعاً يسع الجميع دون استثناء، حتى الذين يصفهم سماحته بـ "البعيدين عن الخير والصلاح والتقوى، فيمكنهم الاستفادة من أجواء هذا الشهر الكريم لتغيير أنفسهم، فقد أودع الله تعالى هذ القدرة في الإنسان..".

لكن السؤال هنا؛ كيف؟

اذا كان الانسان في حياته العادية، وخلال الأحد عشر شهراً، يحرص على ترتيب حساباته وعلاقاته ومواعيده مع هذا وذاك، وكم أخذ من هذا، وأخذ من ذاك..؟ وكيف سيحقق ذلك العمل ويصل الى ذاك الهدف..؟ وهكذا، عليه أن يحرص على ترتيب حساباته بينه وبين نفسه، بما لا يسمعه أو يراه أحد، وبشكل صامت تماماً، فكيف كانت ردود افعاله على هذا الموقف أو ذاك؟ وكم مرة كان صادقاً مع نفسه، وكم مرة آثر الآخرين على نفسه؟ وكم مرة تواضع وتسامح تعاون؟

هذه العملية الحسابية بحاجة الى هدوء مطلق، واسترخاء نفسي وبدني، وهو ما يوفره لنا شهر رمضان المبارك، في نهاره وليله. وهذا ما يشير اليه المرجع الشيرازي في حديثه الرمضاني الى ضرورة التوجه في هذا الشهر الكريم، "الى محاسبة النفس كل يوم ولو لدقائق يستعرض الانسان فيها ما قال وعمل، وما سكت عنه وترك.. فنحن، جميعاً بحاجة إلى ترويض وانتباه بحيث إذا دخل أحدنا شهر رمضان وخرج منه، يكون قد تغيّر ولو قليلاً، وملاك التغيير هو العمل بالمستحبات وترك المكروهات، وهي السور الثاني أو القنطرة الثانية التي ينبغي اجتيازها إذا اعتبرنا الواجبات والمحرمات السور أو القنطرة الأولى..".

وهنا تستوقفنا مسألة؛ فقد يقول البعض: إن الشياطين مقيدين مغلولي الأيدي في هذا الشهر الكريم، وأنه "تغلق أبواب النيران وتفتح أبواب الجنان " كما في خطبة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله. لذا فان جموع الصائمين لن يكونوا على خطر عظيم، فهم من المرحومين على كل حال، ما داموا ملتزمون بفريضة الصيام، ولم يقدموا على مفطر، إلا ان هذا يعني أن نلغي إرادة الانسان وقدرته المستمرة على فعل ما يريد، حتى وإن كان في ظهيرة شهر رمضان. هذه الإرادة هي التي ربما تكون عاملاً لفتح أغلال وقيود الشياطين، لتعود وتهيمن على نفس الانسان وتسوقه الى حيث المعصية والانحراف. ولهذا جاء في الحديث الشريف: "من صام صامت جوارحه". فالجوارح بإمكانها ان تحل محل الاكل والشرب في التسبب في الإفطار المتعمد نهار شهر رمضان، عندما تخور عزيمة الانسان وتضعف ارادته وإيمانه أمام نظرة حرام، أو كلام حرام، يشوبه الكذب والغيبة والتهمة والنميمة.

الى ذلك يوصينا سماحة المرجع الشيرازي في أن نكون من أصحاب "الصوم الخاص، وهو أعلى مراتب الصوم وأقسامه"، ويوضح في حديثه الرمضاني؛ "إن هناك فريقاً من الناس لا يتورعون عن المعصية ويكفون عنها وعن المحرمات فحسب، بل يتورعون عن التفكير فيها أيضا، فهم يصومون عن المفطرات العامة، وتصوم جوارحهم عن ارتكاب الذنوب، كما تصوم جوارحهم عن التفكير فيها".

هذه المرتبة والمنزلة العالية من الصوم التي تسمو بالإنسان الى مراقي التقوى والصلاح والأخلاق، تكون منطلقاً ليوسع الانسان شعاع تأثيره الإصلاحي على الآخرين، بعد نجاحه الباهر في تغيير نفسه وتطويرها.

سماحة المرجع يستلهم من خطبة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، لشهر رمضان المبارك؛ "يا أيها الناس من حسَّن منكم خلقه في هذا الشهر كان له جواز على الصراط يوم تزل في اﻷقدام". حيث أوضح: بان "من لا يحافظ على نفسه ولا يسيطر على أفعالها فستزلّ قدماه في اﻵخرة، وهذا ينطبق على الجميع دون استثناء، فكلمة (الاقدام) يعني لعامة الناس، سواء كانوا رجالاً أم نساء، وشيوخاً أو شباباً، وعلماء أو من العوام".

فكيف تزل قدم الإنسان يا ترى وهو صائم..؟

من عوامل الزلل والانحراف؛ سوء الخلق، فهي أسهل وأقرب عوامل الانحراف على الانسان، لذا نرى سرعة ردود الافعال العنيفة، والمواقف السيئة والسلبية في موارد عديدة في حياتنا. بينما حسن الخلق والتعامل بالحسنى – يقول المرجع الشيرازي- فانه يثبت قدم الانسان على الصراط المستقيم.

وبما أن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، وجه حديثه الى "الناس" فهذا يعني "أننا مكلفون بأن نبيّن ونوصل لجميع الناس كلام رسول الله صلى الله عليه وآله". وهو الالتزام بالتقوى والعمل الصالح والاخلاق الحسنة.

من هنا يتضح لنا أن سياحة الانسان النفسية والروحية في شهر رمضان المبارك، تأخذه الى عالم فسيح مخضوضر بالأخلاق والفضائل والمكارم التي تنبعث من نفسه بعد أن عرضها لعملية تجديد وتنقيح، فهو لن يكون صالحاً ومؤمناً لنفسه وحسب، وهذا بالحقيقة، ما يهتم به البعض، ويعده الشغل الشاغل له، في يوصينا الاسلام وعلى لسان المعصومين عليهم السلام، على أن ننشر الفضيلة والخلق الحسن بين الناس. وهذا ما يوصينا به المرجع الشيرازي في شهر رمضان بأن نعمل على تغيير الخلق السيئ عند البعض واصفاً هذا العمل بان "حقاً عملاً ثميناً جداً، فأفراد المجتمع كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالأذى".

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 25/تموز/2013 - 16/رمضان/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م