الدولة هي أكبر مؤسسة إجرامية عرفها التاريخ، فهي عبارة عن إكراه،
ما دامت تسعى إلى فرض سيطرتها وهيمنتها على المجتمع من خلال الأجهزة
القمعية والإيديولوجية. إنها الشر المطلق، لكونها على مر التاريخ كانت
وما تزال هنا والآن تعمل على خدمة مصالح النظام السياسي سواء أكان نظام
ديكتاتوري أو ديمقراطي، وهو شر لابد منه عند البعض، فهي تقوم على
الطاعوية والخضوع والعنف بنوعيه المادي والرمزي.
إن ما يهمنا في حديثنا عن الدولة، هي الأجهزة الإيديولوجية
والمتمثلة في الإعلام الجماهيري. فبدون جهاز إيديولوجي لا يمكن أن
نتحدث عن شيء اسمه دولة، فدور الجهاز الإيديولوجي هو تبرير مشروعية
النظام السياسي أو النخب الحاكمة من داخل المجتمع، وحق الدولة في
ممارسة العنف ضد كل عصيان مدني قد يتحول إلى تمرد، وإقناع المعارضة
بضرورة وجود الدولة، وعدم تطبيق القانون، والعمل على إبعاد الرأي العام
عن السياسة وإفسادهم.
ويشير د. حسان الباهي في كتابه الذكاء الصناعي على أنه من يمتلك
المعلومة يستطيع أن يحدث التغيير بل ويسيطر على العالم. وما شكل مجتمع
المعلومات هو تحالف القوى الاقتصادية مع القوى الرمزية خاصة الإعلام،
فمن يحرك مجتمع المعلومات هو الاقتصاد بالأساس، بينما القوى السياسية
ما هي إلا خادمة عند القوى الاقتصادية بالرغم من أنها هي المستفيدة من
هذا التحالف لكونها تهدف إلى إحكام قبضتها على المجتمع والمحافظة على
وجودها من داخل النظام الاجتماعي الذي يتميز بالصراعات والتناقضات.
لقد أصبحت الجماهير منذ ظهور التقنيات الحديثة موظفة عندها؛ أي
أنها خاضعة لهيمنة التقنية ومستعبدة ومهددة في نفس الوقت. فنتيجة لهذا
التطور الذي عرفته التقنية يمكن القول بأن المقولة الماركسية التي تقول
على أن البنية التحتية هي التي تؤثر في البنية الفوقية قد تم تجاوزها
منذ ظهور التقنية الحديثة المتجسدة في وسائل الإعلام (الراديو،
التلفزة) نظرا لأن هذه الوسائل الآن باتت هي المتحكمة في المجتمع، بل
إنها تعمل على توجيه المجتمع لأهداف ومصالح النخب، فهي تقوم على تطويع
الجماهير لخدمة أهدافها الخاصة، وهو ما تم تأكيده منذ القرن الماضي على
أن البنية الفوقية هي من أصبحت تؤثر في البنية التحتية خاصة مع المدرسة
الألمانية (فرانكفورت).
إذ يرى كل من تيودور أدرنو وماكس هوركايمر في كتابهما المشترك "جدل
التنوير" على أن الإعلام ما هو إلا اداة للسيطرة وإعادة إنتاج المجتمع.
فهي غالبا ما تخدم مصالح النخب وذلك بتمكينها من الهيمنة للحفاظ على
سلطتها وعلى نفوذها في المجتمع وعلى تهميش المعارضة.
كما يذهب كارل بوبر إلى نفس الاتجاه على أن وسائل الإعلام لا تعمل
على نشر مبادئ الديمقراطية وإنما تضر بها، إلى جانب أنها تقوم بتضليل
وتشويش الرأي العام من خلال ما تعرضه من برامج والتي لا تخدم مصالح
المواطن نظرا لتاريخ اندغامها في جهاز السلطة ومن تاريخ توظيفها لشرعنة
ذات الجهاز وانصرافها عن ذاتها لفائدته وفائدة القائمين عليه حسب تعبير
يحي اليحياوي. فالتلفزيون مثلا كان ولا يزال يخدم مصالح السلطة ومصالح
صناع القرار من خلال تكريس القهر الفكري على المواطنين، وهو ما جعل
هابرماس يتهم التلفزيون بالدرجة الأولى على أنه يسعى إلى إفساد
المجتمع.
إن هذا الأمر أدى إلى ظهور ما يسمى بالإعلام البديل كالمدونات
ومواقع التواصل الاجتماعي الموجودة على الأنترنيت، حيث جاء كرد فعل
عنيف على الواقع الاجتماعي الذي فرضته وسائل الإعلام الأخرى، وذلك
للتخلص من سيطرة النخب السياسية والإعلامية على وسائل الإعلام
التقليدية في المجتمع، وغياب المصداقية في عرض الحقائق، وإقصاء فئات
عريضة من المجتمع من إبداء رأيها السياسي كفئة الشباب. وعليه، نجد بعض
البرامج السياسية التي تعرضها التلفزة لا تعمل على استضافة هذه الفئة،
بل تركز في استضافتها على من ينتمي إلى النخبة، لدرجة أنه أصبحنا نطلق
على تلك البرامج بالبرامج النخبوية.
فالواقع الاجتماعي المحسوس يفرض مجموعة من التخوفات في حالة إبداء
أي رأي يخالف ويعارض الدولة بشكل عام، فطغيان المنطق السياسي يبدو
حاضرا من خلال الأجهزة القمعية والإيديولوجية، وهو ما جعل مستخدمي
الإعلام البديل يلتجئ بدوره إلى هذه الوسيلة لتعرية الواقع عبر تبادل
المعلومات والأخبار فيما بينهم، وللتعبير عن آرائهم حول مختلف
الموضوعات التي تمس واقعهم السياسي والاجتماعي والاقتصادي وحتى البيئي.
فهم يرون في الإعلام البديل المتنفس الوحيد للتعبير عن أنفسهم وفي
تحقيق إنسانيتهم.
وقد جاء انتشار الإعلام البديل نتيجة لعدم الثقة في وسائل الإعلام
الحكومية بسبب عملها الدائم على تغليط الرأي العام في مجموعة من
القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية...إلخ، وهو الأمر الذي جعل
من مستخدمي وسائل الإعلام البديل خاصة فئة الشباب إلى إنشاء مدونات
خاصة بهم يعبرون من خلالها على آرائهم، ويناقشون مختلف القضايا التي
يعيشونها مبتعدين عن ما نسميه بغولية الإعلام الرسمي للدولة. ونظرا
لغياب الرقابة على الإعلام البديل (المدونات، مواقع التواصل
الاجتماعي...) فإنها سمحت لنفسها أن تكون أحد المنابر السياسية التي
تدور فيها حوارات ونقاشات سياسية لا حدود لها عند مستخدميها، فالغرض من
وراء هذه الحوارات السياسية هو تغيير واقعها إلى ما هو أفضل بكثير عما
كانت عليه وعما هي عليه.
هذا ويرى ألفن توفلر في كتابه "تحول السطلة" أن المعرفة صارت محورا
أساسيا لامتلاك القوة بسبب التحولات التي يعرفها العالم نتيجة الموجة
الثالثة المتمثلة في عصر المعلومات حيث يخلص في كتابه أن التحكم في
المعرفة أصبح هو لب الصراع في كل المؤسسات. وحينما نتحدث عن المعرفة
نتحدث بالضرورة عن المعلومة وعن الأجهزة التي تبث المعلومة، فالسيطرة
على أجهزة المعلومات وامتلاكها أصبحت تمثل وسيلة أساسية للسيطرة على
المجتمع وتحريره في آن معا وفي العمل على تغييره.
* باحث من المغرب |