إننا أكثر فأكثر بصدد التحكم
المُحَلَّى Sweetened control الذي يسهل تسويقه وتسويغه حتى بالنسبة
لأكثر الناس تعرضا للهدر
نتناول في هذا البحث كتاب الأستاذ مصطفى حجازي الانسان المهدور الذي
يأتي ضمن سلسلة أعمال أنثربولوجية ضمت كتب التخلف الاجتماعي:
بسوكولوجيا الانسان المقهور وبعد ذلك حصار الثقافة بين القنوات
الفضائية والدعوة الأصولية وإطلاق طاقات الحياة: قراءات في علم النفس
الإيجابي والصحة النفسية: منظور دينامي تكاملي للنمو في البيت والمدرسة
والفحص الفني وعلم النفس والعولمة: رؤى مستقبلية في التربية والتنمية
ولماذا العرب ليسوا أحرارا؟.
فماذا يقصد حجازي بالهدر؟ ماهي أبعاده؟ هل تفطن الى أسبابه وشخص
دواعيه وعلله؟ والى أي مدى تمكن الكاتب من تقديم الحلول الكافية
بالتخلص منه ومجابهة تداعياته وانعكاساته على الانسان والحياة؟ وماهي
الآليات الدفاعية التي يذود بها المرء لمواجهة الهدر؟
1- مفهوم الهدر:
الهدر هو نقيض بناء التمكين والاقتدار وصناعة المصير. ومن ذلك يتضح
كيف أن الهدر يستوعب القهر، بحيث أنه لا يصبح ممكنا ( القهر) الا بعد
هدر قيمة الانسان واستباحة حرمته وكيانه في عملية الاخضاع والاتباع.
يدل لفظ الهدر لغة على الإبطال والاستنزاف وسقوط المكانة والاستباحة
وسحب القيمة وغياب الموانع عند التصرف وإزالة الحصانة وفقدان الحق
وإمكانية التعدي والقضاء عليه والتنكر وعدم الاعتراف والازدراء
والحرمان والتهميش والاقصاء واضاعة الفرص والخسارة. وعلى الصعيد المادي
يشير الهدر الى سوء التصرف والتبذير والاسراف وغياب التخطيط والإنفاق
في غير محله والاثراء غير المشروع والتفقير والاحتكار والسرقة
والارتشاء والفساد.
إن الهدر حالة ليست نادرة وإنها تتفاوت من اباحة اراقة الدم في فعل
القتل او التصفيات كحد أقصى الى سحب القيمة والتنكر لها مما يجعل
الكيان الانساني يفقد مكانته أو منعته أو حرمته. وقد يتخذ الهدر شكل
عدم الاعتراف بالطاقات والكفاءات أو الحق في تقرير المصير والإرادة
الحرة، وحتى الوعي بالذات والوجود، مما يفتح السبيل أمام مختلف ألوان
التسخير والتحقير والتلاعب وإساءة الاستخدام. لكن ماهي الأبعاد
والفضاءات التي يتعرض فيها الانسان للهدر؟
2- مجالات الهدر:
لا ينحصر الهدر في المجال المادي فقط ولا يحضر فقط في البعد الرمزي
وانما يغطي جميع مجالات التجربة الانسانية وقد يتحول الى مرض كياني لا
يمس الفرد فحسب وانما يطال الجماعة بأسرها ويصيب النوع البشري ويبدد
ثروات الطبيعة ويقلل من مقومات الحياة ويضيع مستلزمات حفظ الكيان ويجفف
منابع العيش السوي ويصحر الكينونة.
ويجب التفريق بين الهدر الداخلي الذي يتجلى في العلاقة المتوترة بين
الذات وذاتها وخاصة عندما ينفجر العنف والغضب والانفعال لحظة الانشطار
الذاتي والاكتئاب الوجودي والنكوص النفسي والتفكك الأسري وتكاثر نسب
الجريمة والطلاق والانتحار والفشل المدرسي والنكبة الكينونية والوقوع
في مرض التعصب الهووي، وبين الهدر الخارجي الذي يظهر في العلاقة
المتوترة مع الغير والدخول في صراع دائم وحرب مع الخارج واستبداد مشاعر
الكراهية والتنفير والترهيب والتفريط في الوطن والمؤسسات.
العولمة تهدر الانتماء من خلال مشروعها الموجه الى الشباب تحديدا.
انها تحاول سلخهم عن هويتهم وانتماءاتهم واتباعهم باقتصاد السوق فوق
الوطني...كما أنها تهدر الوعي من خلال آليات الاستيعاب الخفي. هكذا
يلجأ الانسان الى اضاعة الفرص واستنفاذ الرصيد الديني والثقافي
والأخلاقي ويتحول الى مجرد رقم وشيء مادي وعبء على عائلته والى حمل
ثقيل على الوطن. كما يتم اهدار الطاقات الفكرية والثروات المادية
والرمزية والقوة البشرية ويقع التضحية بالنخبة المتعلمة في الوظيفة
وتدجين الشريحة المثقفة في السياسة ويلقى بالفئات الشابة في جحيم
البطالة والمناولة والتشغيل الهش ويقع التلاعب بمشاعر الانتماء والوفاء.
3- أسباب الهدر:
هدر الفكر هو أهم ركن في ثلاثية الهدر الأخطر- أي هدر الفكر والوعي
والطاقات- لأنها تصيب حيوية المجتمع ونمائه في الصميم.
بما أن الهدر مرض كياني يتهدد الانسان الفرد والمجتمع والنوع
والطبيعة والحياة والمنافع والموارد فإنه من البديهي التفتيش عن
الدواعي المسببة له والوضعيات التي ساهمت في حصول العواقب الوخيمة التي
انجرت عنه والنتائج الكارثية التي ترتبت عنه والورطات التي تردى اليها
الوعي.
لعل أهم أسباب الهدر هو الاستبداد والتسلط والحكم الفردي والانفراد
بالرأي والطغيان والبحث عن الهيمنة والاعتداء على كرامة الانسان وتسويف
انسانيته بتقديم ثقافة الولاء والعلاقات الدموية والمحسوبية والخضوع
التام والقبول اللاّمشروط للأوامر وتحويل الناس الى أدوات تنفيذ
وانتفاع.
أضف الى ذلك تدفع العصبية في اتجاه الترويض والتحكم وكبح الطاقات
المنتجة وتسمح لعلاقات التبعية والقصور أن تتشكل بين المريدين والشيوخ
وتغرس الوصاية والطفلية عند المراهقين وتعوق الارتقاء والتأهيل وتحول
دون بلوغ مرحلة النضج والرشد والاستقلالية.
فرص هذه الشريحة من الشباب لا تهدر فقط في خط الوصول وبعد التخرج،
بل هي تهدر على الأغلب منذ خط البداية. وهو ما يتمثل في تواضع نوعية
التعليم الذي يتوفر لها وتدني مستواه، مما لا يؤهلها أصلا للمنافسة في
سوق العمل ومتطلباته المتزايدة في مجال الاقتدار المعرفي والمهني.
كما يلعب الاقتران الشرطي بين السلطة والتهديد دورا بارزا في تشكل
منظومة رقابة على العقول وسيطرة هادئة على الأجساد تعكس سيكولوجيا
الجلاد بتسطيح الوعي والهدر المتبادل والتفكير السلبي، وتقوم بتركيز
تكنولوجيا السلوك تمارس نوعا من التحكم الناعم والترويض وعند المعارض
تلجأ الى نوع من العقاب بالتعزير والتعذيب الجسدي والتحقير المعنوي
ومصادرة الاحلام بصناعة النجومية وتوجيه الرغبات والتشجيع على الشهرة
وجلب الأضواء والدعاية واتباع صيحات الموضة والعلامات التجارية وثقافة
التسلية وملء أوقات الفراغ بالترفيه عن النفس واللعب وتعطيل المشاركة
الفعالة والإجهاد في البحث عن الثروة والحلم بالقفز فوق حاجز البؤس
والخلاص من التواجد في منطقة ما دون خط الفقر التي هي منطقة ما دون
الانسانية والسقوط في جلد الذات والاستنقاص أو ثقافة التفخيم والمديح
الذاتي والحضور الكلي والتجميل الفارغ.
4- مجابهة الهدر:
يساعد الاستغراق في قضايا حيوية على أن يصبح المرء مدفوعا بالمكافآت
الداخلية...وهكذا تنمو المهارات ويتقدم السير على طريق بناء مشروع
الوجود، ويرتفع تقدير الذات ويتم التحصّن ضد الشدائد، وعلى رأسها الهدر.
رأس الأمر أن الرد على ما يتعرض له الانسان من هدر وحط من القيمة
وتحكم في حاجات الجسد وحد من آفاق التفكير وتضييق على مدى الخيال ونطاق
الحلم يقتضي اطلاق ملكات العقل اللاّمحدود وتحرير قدرات الجسد وتعزيز
الاعتراف بإنسانية الانسان والتسلح بثقافة الانجاز.
من جهة أخرى تتطلب مواجهة هدر الكيان البشري احلال سلطان العقل
والإرادة محل سلطان الغيب والخرافة والاحتكام الى منطق العقل بدل
اقتناص ضربات الحظ السعيد، ويستلزم تنمية الانسان الاعتراف بقدرة
الشباب والنساء وتشغيل المؤسسات الناجعة وتقوية الآليات الديمقراطية.
بناء على ذلك تكمن الآليات الدفاعية ضد الهدر في الدخول الى عالم
القوة والتزود بمتطلبات الاقتدار والتشبث بقيم التقدم والارتقاء وحسن
الحال والحياة الجيدة وبناء نظرة تفاؤلية حالمة وتشغيل التفكير
الايجابي وتصويب الانفعالات نحو الاثبات وتقوية العواطف النبيلة
وسيكولوجيا الفرح وتشغيل قوة المبادرة والدافعية والتعويل على الكفاءات
الشابة والديناميات النفسية الصلبة.
يجد الانسان المهدور نفسه بين الانفجار والانتحار ولكنه يتحمل واقعه
الوجودي العاصف ويرد على الصورة المبخسة وفاقدة القيمة عن ذاته بتوفير
التوازن الضامن للشخصية استمرارية الوجود.
ينبغي الابتعاد عن حلول تجنب مواجهة المآزق والاحتماء بالماضي
وبالقدر والمكتوب والحظ والمقدس والإدمان والاستلام والعجز والتبلد
واللامبالاة واختيار الهجوم والتعرض للامتحان والابتلاء والصبر والفعل
والتسلح بالعزيمة عند الشدائد والإصرار على النجاح وتكرار المحاولة
والتجديد بالتعلق بالمعايير السامية والنهل من القوى الكامنة والمصالحة
مع الاحساس بالامتلاء.
غاية المراد أن الانتقال من الانسان المهدور الى الانسان القادر
يقتضي توفر ثلاثة شروط هي:
- الاقتدار الفردي من خلال الصحة الفردية بالوعي بأسباب الهدر
والتواطؤ الذاتي مع الفشل وتبني أسلوب التفسير المتفائل واختيار
البدائل البناءة.
- الكفاءة المؤسسية من خلال الديمقراطية واعتماد النجاعة وابتداع
الوسائل الأرقى.
- الحصانة المجتمعية من خلال الاستفادة من قوى النماء الحية لدى
الأفراد وتحقيق الاعتراف بالكفاءات.
خلاصة القول أن استراتيجية مواجهة الهدر وتجاوزه لا تتوقف عند الربط
بين التفكير الآمل والتفكير الوسائلي والتفكير التدبيري بل تتعدى ذلك
نحو الاندماج في المجتمع والانخراط في الفعل وخدمة الصالح العام وانجاز
الأهداف والالتزام بقضية كبرى والشعور بامتلاء الوجود.
لكن ما حيلة المرء أمام العزلة عن الآخرين وفي ظل قلق الانفصال؟ ألا
يحتاج المرء الى درجات عليا من السكينة النفسية والمناعة المؤسساتية
والحصانة الاجتماعية كي يقاوم آثار الهدر؟
* كاتب فلسفي
http://www.annabaa.org/news/maqalat/writeres/Zher%20alkoiledy.htm
..........................................
المرجع:
مصطفى حجازي، الانسان المهدور، المركز الثقافي
العربي، بيروت – الدار البيضاء، طبعة أولى، 2005. |