اين نحن بعد خمسين عاما؟

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام): اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لأخرتك كأنك تموت غدا.. وقال ايضا: مَنْ نَظَرَ فِي العَواقِبِ سَلِمَ مِنَ النَّوائِبِ.

في الكثير من التصريحات التي نسمعها على ألسنة السياسيين، نوابا ووزراء، يتردد حرف (السين) بكثرة ساحقة يسبق كل وعد من وعودهم، سنقوم، سوف، سنعمل، سنضع، سنحقق، سنقضي، سنستمر، وهذه (السين) في استخدامها اللغوي هي فاتحة المستقبل والطريق المرسوم اليه، وهذا عند الذين يحترمون المستقبل ويحترمون انفسهم، و(السين) هي ايضا تفيد معاني التسويف والمماطلة والتاجيل والتردد، عند الذين لايفقهون شيئا من الغد القادم، لاعتقادهم ان هذا الغد بعيد المجيء، او ان هناك معجزة ما ستتحقق وتكون بالتالي وعودهم متحققة دون تهيئة الاسباب لهذا التحقق على ارض الواقع..

سوف نكتفي من انتاج الطاقة الكهربائية ونقوم بتصديرها بنهاية العام 2013، 2014، 2015، وخذ اي سنة اخرى بعد ذلك، وستتحسن امدادات الطاقة الكهربائية خلال فصل الصيف القادم، ولاشيء من ذلك تراه متحققا..

ومثل اخر حول البطاقة التموينية ومقترح السلة الغذائية، التي ذهب بها الناطور الى الغابة ولم يعد بها حتى اللحظة، فالناطور هو الحرامي في نفس الوقت.

وقس على ذلك في مايتعلق بالمياه او الالغام او البيئة العراقية او صناعة النفط او استثمار الغاز او المعالجات لاي مشكلة مضى على اعطاء الوعود بحلول لها عشر سنوات، وهي مستمرة على تفاقمها ولا بوادر لاي حل في الافق القريب..

حتى الان لانمتلك عقلية المستقبل التي يمكن ان تضع حلولا لمشاكلنا، وهي مشكلة مستعصية لايعاني العراق منها لوحده بل ايضا جميع اخوته الكرام من العرب والمسلمين، رغم ان قرآننا الكريم فيه الكثير من ايات المستقبل والتدبر واعمال العقل..

في دراسته المعنونة (العقل العربي والتوجيه المستقبلي) يؤشر الدكتور فؤاد زكريا لثلاثة أسباب ينبغي معالجتها وتحليلها لأنها هي التي تفرّخ الذهنية الارتجالية المعادية للتخطيط المستقبلي؛ فهو يصنفها ويحللها هكذا: (من الضروري أن نبحث عن الأساليب التي تؤدي بالعقل العربي– على المستوى الشعبي والرسمي وكذلك على المستوى الفردي والجماعي– إلى تجنب الاقتراب من منطقة المستقبل، وتركيز كل جهوده في اللحظة الراهنة وفيما هو وقتي مباشر وترك الميدان المستقبلي للظروف دون محاولة للتدخل المسبق فيه). ويرد الدكتور فؤاد زكريا الظاهرة إلى هذه الأسباب: الدينية، والحضارية، والاجتماعية السياسية.

وبخصوص السبب الديني، فإن انتشار أفكار وذهنيات (التواكلية) والاعتقاد في المحتوم والقدرية تلعب مجتمعة أدوارا في طمس التفكير المستقبلي، والعلمي والإنساني. ومن هنا فإن المخرج السليم حسب وجهة نظر الدكتور فؤاد زكريا هو التصدي بالنقد لجميع الظواهر التي تصل بهذا النوع من الفهم والتطبيق الخرافي، والمتخلف للدين.

 وبالاضافة إلى عامل الفهم المتجحر للدين هناك عامل آخر وهو الحضاري المتمثل تحديدا في علاقة الإنسان العربي بالزمن. إن العلاقة بالزمن تحدد مستوى ضعف أو قوة الحضارة؛ ففي التحليلات التي يستشهد بها الدكتور فؤاد زكريا، وهي لكل من الدكتور فهمي جدعان، والأستاذ محمود أمين العالم. فالأول يستنتج بأن (التاريخ الإسلامي، بعد عصر الخلفاء الاربعة كان ينطوي على حتمية (التقدم إلى الأسوأ). أما الأستاذ العالم فيرى أن (النظرة العربية الإسلامية في العصر الوسيط كان يسودها بشكل عام مفهوم للزمن يخلو من الرؤية التطورية، بل كان يغلب عليها الطابع الارتدادي)؛ إن الموقف من الزمن لا يزال هو هو في الثقافة العربية الراهنة.

أما العامل الثالث الذي حدّده الدكتور فؤاد زكريا في الاجتماعي والسياسي، فهو بدوره يلعب دورا مفصليا في إفراز عقلية الارتجال وعدم التخطيط العلمي والمستقبلي. فالانسان العربي المقهور اجتماعيا وسياسيا يولد لديه الإنكفاء إلى الذات المغلقة، وعدم الانفتاح على التجارب المعاصرة الناجحة، ويخلق لديه الخوف من المستقبل. ويدفع به إلى الاحتفال النوستالجي بالماضي للتعويض عن الحاضر القاتم والمظلم.

على العكس من مجتمعاتنا، تفكر المجتمعات المتقدمة بالمستقبل وتخطط له كي لايستبقها عند مجيئه، واخر مايفكرون به هو،بحلول عام 2045 سيتمكن البشر من تحقيق حالة (الخلود الرقمي) من خلال تحميل عقولهم على أجهزة كومبيوتر، أو على الأقل هذا ما يعتقده بعض المتنبئين بالمستقبل. وقد شكلت هذه الفكرة أساس مؤتمر (غلوبال فيوتشرز لعام 2045) الدولي، وهو مؤتمر للنقاش حول التطورات المستقبلية عقد في نيويورك يومي 14 و15 يونيو (حزيران) الماضي. واحتلت تقارير المؤتمر، وهو من بنات أفكار المليونير الروسي ديمتري إتسكوف، مركزا وسطا بين طروحات العلم الصارمة وتصورات الخيال العلمي.

يتوقع كورزويل، المخترع وأحد العاملين في ميدان التنبؤ بالمستقبل الذي يشغل حاليا منصب مدير الهندسة في شركة «غوغل»، أن التكنولوجيا بحلول عام 2045 سوف تتجاوز قوة العقل البشري وتقدم نوعا من الذكاء الفائق، وهو ما يطلق عليه مصطلح «التفرد» أو «الفرادة». وقال علماء آخرون إن الإنسان الآلي سوف يتفوق على الإنسان بحلول عام 2100.

وحسب «قانون مور»، فإن قدرات الكومبيوتر تتضاعف كل عامين تقريبا. وأكد كورزويل أنه بحلول عام 2045، استنادا إلى تقديرات حذرة خاصة بالحد الذي تحتاجه من الحوسبة لمحاكاة عقل بشري، سنتمكن من توسيع نطاق ذكائنا مليار مرة.

يعرف العلم الذي يعنى بالمستقبل او المستقبلية بأنه علم (لم يخرج في بدايته عن كونه طريقا أو أسلوبا للتنبؤ وفق تصورات وخيالات الكتاب والعلماء غير أنه يعتمد الآن على مفهوم التحسب أو استشراف صورة ممكنة للمستقبل، وبناء نظرة تركيبية كلية جامعة تستطيع أن ترشد هذا المستقبل وتوجهه، وتستطيع أن تكون منطلقا لسياسات اجتماعية مستمدة من ضرورات ذلك المستقبل).

ومن أوضح ما عرفت به المستقبلية في المجلة الأمريكية (المجتمع في عالم المستقبل) أنها (دراسات تستهدف تحديد وتحليل وتطوير كل التطورات المستقبلية في حياة البشر في العلم أجمع بطريقة عقلانية موضوعية).

أما علم المستقبل فيعرفه أحمد زكي بدوي بقوله: (أما علم المستقبل فهو العلم الخاص بالتنبؤ بالأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المستقبل. ويستند في دراستها على الاستقراء والاستنباط، بجمع الوقائع الفردية المتعددة ليستخلص منها المبادئ العامة التي تحكمها، ويخرج بعد ذلك بالصور التي سيكون عليها المجتمع في الأجيال القادمة).

ما هو المسار الذي اتخذه الانشغال العلمي بالمستقبل؟

لعل عام 1949 يمثل بدايته الصحيحة، حين ابتكر المؤرخ الألماني أوسيب فليختايم مصطلح (علم المستقبليات) ليشير به الى علم جديد، اعتبره فرعا من علم الاجتماع شبيها بعلم الاجتماع التاريخي، وإن نبّه إلى اختلافهما في الهدف: فعلى حين يحاول علم الاجتماع التاريخي ضبط التنبؤات بالنسبة للماضي، فإن علم المستقبليات يتوجه لدراسة التطورات القادمة، وتعيين مدى احتمال وقوعها أو قابليتها للتحقق.

ومع نهاية الخمسينيات، سك الفيلسوف والمربى الفرنسي جاستون برجيه اسما آخر لعلم المستقبليات، هو (علم الريادة)، واعتبره: (لا مجرّد مذهب أو نظام فكري، بل هو تأمل في المستقبل، يبتغي إبراز معالمه، بواسطة التوصل إلى مسالك منهجية يمكن تطبيقها على عالمنا المنطلق بسرعة متزايدة).

وفي محاولة منه لتكريس هذا العلم، قام بتأسيس (المركز الدولي لعلم الريادة) في باريس عام 1957، ودورية في السنة التالية، تعالج بحوثها أوجها من ملامح المستقبل.

وفي عام 1960 وهي السنة التي توفي فيها برجيه، قدم مواطنه روبيردو جوفينيل مشروعا لفت أنظار العلماء إلى الجهود الفرنسية في ريادة هذا المجال، وأقام (الجمعية الدولية لدراسة المستقبل).

وعلى حين حمل هذا الاهتمام في فرنسا أصباغا فلسفية، فقد اتصل في الولايات المتحدة بأهداف عسكرية، وتحديدا بالرغبة في تطوير الاستراتيجية والأسلحة الحربية، وهو ما دعا إلى إنشاء (مركز الاستطلاع التكنولوجي البعيد المدى للجيش)، و(مشروع رائد للبحث والتنمية) و(معهد هدسون)، بجانب مئات المعاهد والمؤسسات والمشروعات واللجان والدوريات، من أشهرها (لجنة العام 2000) و(مركز البحوث حول المستقبل).

وفي (الاتحاد السوفييتي) - السابق - اتخذ الاهتمام بدراسة المسقبل من النظرية الجدلية أساسا منهجيا له، لا يرتبط بالمجتمع وتوجهاته الاقتصادية والسياسية فحسب، بل ويتواصل مع الممارسة الاجتماعية ومصالح الطبقة العاملة، اعتباراً من أن وضع هذه الطبقة وطموحاتها هما اللذان سيؤثران في أساليب التنبؤ ومحتواه.

ورغم هذه الاختلافات، يتفق المشتغلون بهذا العلم على أن الاهتمام بالمستقبل، مع سعيه في نطاق الحاضر إلى استشرافه، يدفع بفئات ثلاث من الوقائع: الاتجاهات الكبرى، والأحداث المنبئة بالمستقبل، والاتجاهات الصغرى.

تتكون الاتجاهات الكبرى من مجموع المعطيات التي تبدو محتّمة ومتوقعة، مع احتمال ضئيل بالخطأ، مثل اتجاهات النمو السكاني، ومعدل التقدم التكنولوجي، والتحضّر.

والأحداث المنبئة بالمستقبل، هي التي لا تكون في أكثر الأحيان ممكنة الإدراك، فلا تشكل سوى وقائع محتملة، سرعان ما تتأكد أهميتها وتكون لها انعكاسات عميقة وواسعة، مثل الاختراعات الحديثة، أو ظهور فئات اجتماعية مهمشة.

أما الاتجاهات الصغرى، فهي التي يمكن إدراكها عبر ظروف وملابسات حاضرة، مثل احتمالات الطقس.

وعبر هذه الوقائع الثلاث، يمكن أن نميز في دراسة المستقبل مستويات ثلاثة للتعرف عليه: الأول، ويتصل بالتخمين، ويعني الاعتماد على الاحتمالات، خصوصا عندما تكون البيانات غير موجودة لتحديد قيمة متغير ما بدقة.

 والثاني، يرتبط بالتوقع، ويقوم على تقدير التطورات القادمة، أو اقتراح النتائج المتوقعة، على ضوء تواتر وقوع حدث معين بدرجة لافتة من الانتظام، ويستخدم عادة في مجالات التخطيط الاجتماعي والتنمية المحلية والإدارة الاقتصادية.

 أما المستوى الثالث، فيتعلق بالتنبؤ، ويعد أقوى المستويات الخاصة باستشراف المستقبل، فيما يتوق إلى تشخيص حدث معين، والتوصل بصدده إلى نتائج محددة، قبل أن يستنفد سياقه، عن طريق التحليل العلمي لملابساته، والتخطيط لمواجهته، بواسطة التحكم في المتغيرات التي تحوطه، وهو ما يتصدى له علم المستقبليات.

وقد ذكر بعض المستقبليين عن أهمية الدراسات المستقبلية الآتي:

- خلق وعي قوي بالمستقبل وتنمية رأي عام مهتم بالمستقبل وتحفيزه لمواجهة تحدياته ورفع مستوى الوعي بالقضايا والتحديات المستقبلية.

- المستقبل هو ناتج قرارات من صنع الماضي والحاضر ولكن باستخدام الدراسات المستقبلية يصبح الحاضر ناتجاً عن قرارات تتعلق بالمستقبل.

- استباق الأزمات ومنع حدوثها؛ حيث إن تمييز الأزمات المحتملة مستقبلاً حتى يمكن تفاديها هو إحدى أهم وظائف الدراسات المستقبلية فالاستكشاف المنهجي لاحتمالات المستقبل يمكن أن يعمل كجهاز إنذار مبكر.

- المساعدة في عملية صنع القرار وتقرير الأولويات وطرق تحقيقها، لكونها تستند إلى رؤية مستقبلية واضحة، وصادرة في التوقيت المناسب. الحالي. حرية الاختيار ودرجته، ولكننا بدراسة احتمالات المستقبل نبدأ ندرك الاحتمالات الجديدة المفتوحة أمامنا فلا نبقى سجناء وضعنا الحالي.

- تهيئة الناس للعيش في عالم متغير وفهمه وتمكينهم من صنع مستقبلهم بإرادتهم (إن أفضل طريقة للتنبؤ بالمستقبل هي صنعه).

- الإسهام في تقدم العلم والفكر الإنساني فبحوث المستقبل تحقق توليد المعرفة ونشرها وتوظيفها، وتعزيز الإبداع والابتكار لمواجهة مشكلات وأزمات المستقبل وكذلك المساعدة في حث الجميع على التعلم.

- تعزيز ثقافة العمل (نعمل ثم نرى) بدلاً من ثقافة الركود ( ننتظر لنرى).

- حل التناقضات بين الحاجات الملحة قصيرة الأجل، والحاجات المهمة طويلة الأجل.

- اختصار الفترة الزمنية للتنمية.

- المساعدة على التكيف مع ضغوط التغيير السريع لمواجهة المتغيرات والاستعداد لتوجيهها عندما تكون هناك تغيرات محلية أو إقليمية أو عالمية.

- زيادة القدرة على توقع المشكلات والتصرف لمنع ظهورها (أي التأثير فيها) وليس فقط القدرة على حل المشكلات (وإن كانت أصلا ضعيفة).

- تمكين دول ومجتمعات وشعوب العالم النامي من القدرة على الإمساك بزمام مستقبلها، ذلك أن مستقبل الدول النامية ما زال يواجه محاولات الهيمنة، ومن ثم فإن عليها استشراف المستقبل وتقديم الحلول المناسبة المسبقة والاقتراحات لضمان سيرها إلى المستقبل وليس إلى التاريخ كما يراد لها.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 16/تموز/2013 - 7/رمضان/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م