العظماء والعرفاء يعرفون قيمة هذه المأدبة، فهم يغتنموها أشد اغتنام،
يحولون إمساكهم لصوم حقيقي، ويتلون القرآن حق التلاوة، فإذا كانت (نياتهم
صادقة وقلوبهم طاهرة) كيف لا يوفقون؟!
البدء بالذات قبل الآخرين:
إذا عرفنا أن شهر رمضان (دقائق وثواني) فكيف سنحياها؟! هل سنصدر
القيم للآخرين ولساننا: (الجار ثم الدار)؟! أم نكون كصاحب (مفاتيح
الجنان) الذي طبق كل ما كتبه قبل أن يطرحه للناس؛ وهذا سر من أسرار
توفيقه، النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا ينهى الصبي عن أكل (التمر)
– في القصة المعروفة - حتى ينتهي هو عند ذلك، ونحن يحاربنا قوله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ
* كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ)
!!
لنتأمل آيات العذاب:
إننا نقرأ القرآن ونتغني بآيات: (الجنان، والحور، والولدان، وما
أعده الله في سورة الرحمن)، فلا يهتز لنا عرق ولا يغمض لنا جفن، وكأننا
حتمنا على الله الجنة، والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يخاطب أم سعد
وينهاها عن التحتيم، بقوله: (يَا أُمَّ سَعْدٍ لَا تَحْتِمِي عَلَى
اللَّه) حينما قالت: (يا سعد، هنيئاً لك الجنة(، فلماذا لا نتأمل آيات
العذاب؟!، ولماذا لا نستحضر تلكم الأهوال؟! حتى نمسك العصا من المنتصف،
وأمير المؤمنين (عليه السلام) يصف المتقين: (هم والنار كمن قد رآها فهم
فيها معذبون).
النار مخلوق عظيم يصرخ في وجوه الفارين المدبرين فيا ويل من يقع في
قبضة أنيابها: (كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى *نَزَّاعَةً لِلشَّوَى *تَدْعُوا
مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى)، فلها فوران وشهيق مرعب: (إذا ألقوا فيها
سمعوا لها شهيقاَ وهي تفور* تكاد تميز من الغيظ)، إن لله ناراً يروع
بها من يشاء، إلا أنه: (أقسم بعزته أن لا يعذب المصلين والساجدين وأن
لا يروعهم بالنار)، كيف لا وطول السجود يخفف ثقل الأوزار التي على
الظهور؟!
نعم للباقيات الصالحات:
هل سنضيع هذه (الثواني) في هذا الشهر المبارك؟! أم سنكسبها؟!،
والضيافة مدت السماط منذ بزوغ الهلال وتنتهي ببزوغ جديد، في الرواية
التي تتحدث عن ملك سليمان (عليه السلام) قال أحد رعيته: (هل رأيتم ملكاً
أعظم من هذا؟ فنادى ملك من السماء: لثواب تسبيحة واحدة أعظم مما رأيتم)،
لاشك أن ما يدوم خير مما يزول: (وَالْبَاقِيَات الصَّالِحَات خَيْر
عِنْد رَبّك ثَوَابًا وَخَيْر أَمَلًا)، إننا نسبح الله ونذكره، ولكن
الغفلة تعترينا وتصيبنا فعلينا بالاستذكار، يُنقل أن الإمام الشيرازي (قدس
سره) إذا دخل المطبخ وشاهدهم منهمكين في العمل نبههم: (لماذا تتركون
أوقاتكم تذهب هدرا؟)؛ ثم يحثهم على ذكر الله والصلاة على النبي محمد
وآله (صلى الله عليه وآله وسلم).
التزود قبل الرحيل:
الرحيل يغرب فجأة دون أن نحسب له حساب، فلماذا لا نحسب حسابه منذ
الآن؟!، ليكن تزودنا كل يوم وكل ليلة، فصلاة الليل تضيع على الكثيرين،
فلماذا لا نعقد العزم على الالتزام بها؟! (وَانَّ الرَّاحِلَ إِلَيْكَ
قَرِيبُ المَسافَةِ)، ينقل السيد محمد رضا الشيرازي (قدس سره) - في
إحدى محاضراته – قائلاً: (لم يكن آباؤنا الأبرار يتركون صلاة الليل حتى
في الليالي الباردة، وقد كان بعض أهالي كربلاء المقدسة ـ مثلاً ـ
يخرجون قبل أذان الفجر لأداء صلاة الليل في جوار سيد الشهداء (عليه
السلام) وعند باب صحنه المبارك قبل أن تُفتح الأبواب، لا تثنيهم حرارة
ولا برودة ولا فراش وثير)، إنه ذاتُ العزم الذي يقول فيه علي (عليه
السلام) مخاطباً نفسه: (أَشدُد حيازَيمكَ لِلمَوتِ).
بقاءٌ رغم الموت:
الأعمال الصالحة تأثر في الأبدان والتجارب تعكس هذا المضمون، فأكل
الحلال له تأثيره السحري على البدن، ومن تلك الآثار أن يبقى الجسد
طرياً بعد الموت دون تحلل، والقصص في ذلك كثيرة – عرضنا عنها ابتغاء
الاختصار -، فهي كرامة يسوقها الله للمخلصين والملتزمين عن أكل الحرام
والمشتبه، أولسنا نجتنبُ كلَّ صنوف الأطعمة طيلة نهار شهر رمضان، فليكن
الفم بوابة للحلال من الزاد؛ لنحظى بتلك الأسرار التي لم تكشف عند
الكثيرين.
صدقة بعد الفناء:
لن يتصدق عنا أحداً بعد موتنا – ربما – فلماذا لا نتصدق عن أنفسنا
لتلك اللحظة الرهيبة؟!، إننا نتحدث عن (الصدقة الجارية)، فكثيرة هي
المشاريع التي تدخل علينا الخيرات ونحن نسكن القبور، منها بناء المساجد،
وقد لا نملك الثراء اللازم لتدشين مثل هذه المشاريع إلا أن الحث
والترغيب معول بناء: (إِنَّ الدَّالَّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ)،
ينقل السيد صادق الشيرازي (حفظه الله)، أن رجلاً لا يملك من حطام
الدنيا شيئاً ولكنه قام ببناء (80) مسجداً بفضل الترويج لفعل الخير. |