الحرية السلبية هي عبارة عن غياب العوائق والحواجز والقيود الخارجية
امام الفرد، حيث يكون المرء متحرراً سلبياً بمقدار الافعال المتاحة له.
اما الحرية الايجابية هي امكانية الفعل – او حقيقة الفعل- بطريقة
يستطيع معها الفرد السيطرة على حياته وادراك اهدافه الجوهرية. واذا
كانت الحرية السلبية تُنسب للفرد الوكيل، فان الحرية الايجابية تُنسب
احياناً للمجموعات او للافراد الذين هم اساسا اعضاء في جماعات معينة.
فكرة التمييز بين المعنى الايجابي والسلبي لمصطلح الحرية "liberty"
تعود في جذورها لـ(عمانوئيل كانط)، وجرى تحقيقها والدفاع عنها بعمق من
جانب المفكر والاستاذ (Isaiah Berlin) في الخمسينات والستينات من القرن
الماضي. المناقشات حول الحرية السلبية والايجابية عادة تجري ضمن سياق
الفلسفة الاجتماعية والسياسية. المصطلحان يبتعدان عن النقاشات الفلسفية
حول موضوع الرغبة الحرة رغم ارتباطهما احيانا، كما ان البحث في طبيعة
الحرية الايجابية عادة يتداخل مع البحث عن طبيعة الاستقلالية الذاتية
"autonomy".
اوضح (برلين)، ان الحرية الايجابية والسلبية هما ليس مجرد نوعين
متميزين للحرية، بل يمكن النظر اليهما كتفسيرين متضادين غير منسجمين
لمثال سياسي واحد. اذ طالما هناك عدد محدود من الناس يعلنون انهم ضد
الحرية، فان الطريقة التي فُسّر وعُرّف بها هذا المصطلح ستكون لها
نتائج سياسية هامة. الحرية السياسية تميل لتفترض ضمناً التعريف السلبي
للحرية: الليبراليون يرون اذا كان هناك من يفضل حرية الفرد فلابد من
وضع قيود قوية على نشاطات الدولة. نقاد الليبرالية عادة يرفضون هذه
المضامين برفضهم التعريف السلبي للحرية: هم يرون ان السعي للحرية الذي
جرى فهمه كارتقاء ذاتي او حرية الارادة الذاتية (سواء للفرد او للجماعة)
قد يتطلب تدخّل الدولة بطريقة لن يسمح بها عادة الليبراليون.
العديد من الكتّاب يفضلون الحديث عن الحرية الايجابية والسلبية، حيث
ان مصطلحي تحرر (liberty) وحرية freedom) (يمكن استخدامهما بشكل متبادل.
وعلى الرغم من بعض المحاولات التي بُذلت للتمييز بين الحرية والتحرر
الا ان تلك المحاولات لم تكن موفقة، حيث لا يمكن ترجمة اي منهما الى اي
لغة اوربية اخرى لأن اللغة الانجليزية تحتوي على المصطلحين معاً اما
اللغات الاوربية الاخرى تحتوي على مصطلح واحد.
مفهومان للحرية
لو تصورنا ان شخص ما يقود سيارته في شوارع المدينة بهدف الوصول الى
بائع التبغ. لا توجد امام السائق اي اشارات مرور ولا كاميرات مراقبة او
اي عوائق اخرى، هو ينحرف يميناً ثم يساراً والى الامام حتى يصل الى
هدفه الاخير. هذا السائق هو حر تماما. ولكن هذه الصورة ستتغير كليا لو
اعتبرنا ان السبب الذي دفع السائق للالتفاف يمينا ويسارا هو ادمانه على
التبغ ورغبته الشديدة في الوصول الى البائع قبل موعد اغلاق المحل. هنا
بدلا من ان يكون السائق هو القائد نجده اصبح منقاداً لأن رغبته الشديدة
للدخان هي التي دفعته دون اي سيطرة منه لسلوك ذلك الطريق.
هذا المثال يعرض لنا طريقتين متعارضتين للتفكير في الحرية. فمن جهة،
يمكن للمرء التفكير في الحرية كغياب للعوائق الخارجية للفرد. هنا الفرد
حر طالما لا احد يمنعه من عمل اي شيء. ومن جهة اخرى، يمكن اعتبار
الحرية هي وجود تحكّم ذاتي لدى الفرد. فانت لكي تكون حراً يجب ان تمتلك
ارادتك وتستطيع تقرير مصيرك ومصالحك الذاتية. وفق هذا المعنى لا يمكن
اعتبار السائق في مثالنا اعلاه حراً لكونه فشل في السيطرة على عواطفه
التي منعته من بلوغ مصالحه الحقيقية. اذا كانت الحرية في معناها الاول
هي عن عدد الابواب المفتوحة للفرد فهي في معناها الثاني عبارة عن
الدخول من الابواب الصحيحة ولأسباب صحيحة.
في مقالة شهيرة نُشرت عام 1958 لـ (Isaiah Berlin) أطلق فيها على
هذين المفهومين للحرية بالايجابي والسلبي. وسبب ذلك هو ان المفهوم
السلبي يتطلب غياب شيء ما (قيود، عوائق، تدخّل)، اما المفهوم الايجابي
يستلزم وجود شيء ما (توجيه، سيادة ذاتية، تقرير مصير ذاتي). يستخدم
(Berlin) مفهوم الحرية السلبية في محاولة منه للاجابة على السؤال عن "ماهية
المساحة التي في ضمنها يُترك او يجب ان يُترك الفرد او الجماعة ليقوموا
بعمل ما يستطيعون دون اي تدخّل من الاخرين؟. بينما نحن نستعمل المفهوم
الايجابي للاجابة على السؤال "عن ماهية وهوية مصدر التوجيه والتدخل
الذي يقرر ما يقوم به شخص ما لشيء دون أخر؟.
من المفيد التفكير بالفرق بين المفهومين وفقاً للتمييز بين العوامل
الخارجية والعوامل الداخلية للفرد. فاذا كان منظّرو الحرية السلبية
يهتمون بالدرجة الاولى بالمقدار الذي يعاني فيه الفرد او الجماعة من
تدخّل الجهات الخارجية، فان منظّرو الحرية الايجابية أكثر تركيزاً على
العوامل الداخلية المؤثرة في درجة تصرف الفرد او الجماعة بشكل مستقل.
هذا الفرق قد يغري المرء للاعتقاد ان الفيلسوف السياسي يجب عليه
التركيز حصراً على الحرية السلبية، ذلك ان الاهتمام بالحرية الايجابية
هو اكثر ملائمةً لعلم النفس ولمعنويات الفرد منه الى المؤسسات السياسية
والاجتماعية.
يرى البعض ان القضايا الساخنة في الفلسفة السياسية هي السؤال التالي:
هل المفهوم الايجابي للحرية هو مفهوم سياسي؟ هل بامكان الافراد او
الجماعات تحقيق الحرية الايجابية من خلال الفعل السياسي؟ وهل بإمكان
الدولة صيانة وتعزيز الحرية الايجابية للمواطنين ولمصلحتهم؟ واذا كان
الامر كذلك فهل من المرغوب ان تقوم الدولة به؟ ان المناهج الكلاسيكية
في تاريخ الافكار السياسية الغربية هي منقسمة حول كيفية الاجابة على
هذه الاسئلة: منظّرو التقاليد الليبرالية الكلاسيك امثال (كونستانت)
و(همبولد) و(سبنسر) و(مل) يجيبون على تلك الاسئلة بـ(لا) ولذلك هم
مدافعون عن المفهوم السلبي للحرية السياسية، اما المنظّرون امثال (روسو)
و(هيجل) و(T.H. Green) يجيبون بـ (نعم) كمدافعين عن المفهوم الايجابي
للحرية السياسية.
ان الحرية الايجابية بشكلها السياسي اُعتبرت ضرورة تتحقق من خلال
الجماعية. (روسو) أوضح ذلك في نظريته عن الحرية حيث بموجبها تتحقق حرية
الفرد عبر المشاركة في عملية تمارس فيها الجماعة سيطرة جماعية على
شؤونها الخاصة طبقاً "للرغبة العامة". بهذا المعنى يكون المجتمع حرا
حينما يقرر مصيره بذاته واعضاء ذلك المجتمع احرارا بمقدار مشاركتهم في
العملية الديمقراطية. ولكن حتى هنا نجد احيانا تطبيقات فردية لمفهوم
الحرية الايجابية حين تتولى الدولة مهمة خلق الظروف الضرورية للأفراد
ليكونوا مقتنعين ذاتيا وليحققوا ذواتهم.
النقد والنقد المضاد
العديد من الليبراليين بمن فيهم (برلين) يرون ان مفهوم الحرية
الايجابية يحمل معه خطر التوتاليتارية. ومثال على ذلك الاقليات الاثنية
التي يشارك افرادها بعملية ديمقراطية تتبع قاعدة الاغلبية. اعضاء هذه
الاقلية ربما يقال هم احرار باعتبار انهم اعضاء في مجتمع يمارس السيطرة
الذاتية على شؤونه الخاصة. لكنهم في الواقع مضطهدين وبالتالي هم
بالتأكيد غير احرار. كذلك ليس من الضروري ان يكون المجتمع ديمقراطياً
لكي نقول عنه مقرر لمصيره. ربما هناك من يتبنى مفهوم المجتمع العضوي
organic الذي بموجبه يُنظر الى الجماعات ككائن حي، هذه الصيرورة من
الكيان العضوي تعمل بعقلانية وتسيطر على ذاتها فقط عندما تصطف مختلف
اجزائها في خط واحد مع الخطة الرشيدة المرسومة من حكام عقلاء. في هذه
الحالة حتى الاغلبية ربما تتعرض للاضطهاد باسم الحرية.
اما المدافعون عن الحرية الايجابية فكما يذكر بيرلن يطرحون خطا
فكريا متعرجا يبدأ بفكرة الذات المجزأة، الذات العليا هي الذات الرشيدة
القادرة على الفعل الاخلاقي وتحمّل مسؤولية ما تفعل. هي الذات الحقيقية
التي تميّز الانسان عن الحيوان. اما الذات الدنيا هي ذات الهوى
والعاطفة والحوافز غير الرشيدة. الفرد يكون حرا عندما تكون ذاته العليا
هي المسيطرة وليس عبدا لعواطفه. اما المحطة الاخرى في هذا الخط الفكري
تتمثل بالاشارة الى ان بعض الافراد اكثر عقلانية ورشدا من الاخرين،
ويدركون بشكل افضل ماهية مصالح هؤلاء الرشيدة. هذا يسمح بالقول ان
اجبار الافراد الاقل رشدا لعمل اشياء رشيدة انما هو تحرير لذواتهم
الحقيقية. اما الخطوة الاضافية التي يتخذها المدافعون عن الحرية
الايجابية هي تصور الذات بشكل اوسع من الفرد، اي على شكل (كل) اجتماعي
عضوي – القبيلة، العرق، الكنيسة، الدولة، المجتمع الكبير من الاحياء
والاموات والذين لم يولدوا بعد-.ان المصالح الحقيقية للفرد تتحدد
بمصالح هذا الكل، والافراد يمكن بل يجب اجبارهم لتحقيق هذه المصالح
لأنهم سوف لن يرفضوا هذه القسرية لو كانوا بنفس درجة الرشد والحكمة
التي يتميز بها عقلاؤهم.
فريق الحرية السلبية من جهته يرفض وجود اي علاقة ضرورية بين حرية
الفرد ورغباته، فالحرية هي غير الرغبة، فمثلاً العبد المطمئن والمكتفي
هو حر تماما في ادراك جميع رغباته ولكن مع ذلك تبقى العبودية في تضاد
مع الحرية. لابد من عدم الخلط بين السعادة والحرية، حيث لا يمكن منطقياً
منع الفرد الحر ليكون غير سعيد او منع الفرد غير الحر من ان يكون سعيداً.
الفرد السعيد قد يشعر بالحرية ولكن كونه حر هي مسألة اخرى. هذه النقطة
بدورها تُواجه بالرفض من الفريق المقابل باعتبار ان العبد المقتنع هو
في الواقع حر تماماً ذلك ان الفرد لكي يكون حرا يتوجب عليه ان يحرر
ذاته من رغبات محددة لا ان يتعلم فقط السيطرة عليها.
الحرية كمفهوم ثلاثي الابعاد
بعد ان حدد (برلين) معسكري الحرية لم يتفق هذان الفريقان حول اي من
هذين المفهومين المختلفين يستحق اسم "الحرية". هل هذا يشير الى عدم
وجود اتفاق اساسي بين المعسكرين؟ كيف يمكن ان يختلفوا على تعريف الحرية
وهم يتحدثون عن شيء واحد؟ في مقالة شهيرة للفيلسوف الأمريكي (Gearald
MacCallum) عام 1967 أعطى فيها الجواب التالي: هناك في الحقيقة فقط
مفهوم اساسي واحد للحرية يلتقي فيه كلا الفريقين من النقاش. ما يختلف
عليه منظّرو الحرية الايجابية والسلبية هو الكيفية التي يُفسّر بها هذا
المفهوم الاحادي للحرية. يرى (MacCallum) هناك عدة تفسيرات للحرية،
ولكن التقسيم الثنائي المفتعل لبيرلن هو الذي قادنا للتفكير بهذه
الثنائية. يعرّف (MacCallum) المفهوم الاساسي للحرية – المفهوم الذي
يتفق عليه الجميع - كالتالي: وجود وكيل متحرر من قيود محددة، او ظروف
قاهرة تحول دون ان يصبح شيئاً محدداً او يقوم باشياء محددة. الحرية اذن
علاقة بين ثلاثة اشياء: الوكيل، والظروف المانعة، وما يقوم به او يصبح
عليه الوكيل. ايّ وصف للحرية او لعدم الحرية يمكن ترجمته وفق التعريف
اعلاه. ادّعاء وجود او عدم وجود الحرية في موقف معين سوف يتطلب وضع
افتراضات محددة حول الوكيل والقيود والهدف الذي يوصف من اجله الوكيل
بالحر او غير الحر.
وفق تحليل (MacCallum)، لا يوجد هناك فصل مبسط بين الحرية الايجابية
والحرية السلبية، بل يجب ان نعترف بوجود نطاق كامل من التفسيرات او
"التصورات" الممكنة للحرية. في الواقع، كما يقول (ماكلم) وكما يعترف
ضمناً (برلين) لا يمكن ان نصنف وبدرجة من الوضوح مجموعة من الكتّاب
الكلاسيك ونضعهم في اي من المعسكرين. (لوك) مثلا، يُعتبر احد مؤسسي
الليبرالية الكلاسيكية وبذلك هو مدافع قوي عن مفهوم الحرية السلبية. هو
يعلن بوضوح (لكي اكون في) حرية يعني ان اكون حرا من قيود وعنف الاخرين.
ولكنه ايضا يقول ان الحرية يجب ان لا تلتبس مع "الترخيص " ذلك ان
"المريض يستحق اسم الحجز الذي يحمينا فقط من الوقوع في المستنقعات او
المنحدرات" (الاطروحة الثانية، مقطع 6 و 57). واذا كان لوك يعطينا
تفسيراً لقيود الحرية التي يسميها (برلين) سلبية، فهو يتفق مع تفسير
(ماكلم) للحرية الثلاثية الابعاد التي يسميها (برلين) ايجابية، مقيداً
هذه بالافعال غير الاخلاقية (الحرية ليست ترخيص) وبتلك الافعال التي
ترتبط بمصلحة الوكيل الخاصة (انا لست بلا حرية لو مُنعت من السقوط في
المستنقع). قام عدد من الليبراليين المعاصرين بطرح تعريفات للحرية ذات
طابع اخلاقي امثال (Nozick 1974 وRothbard 1982). وهذا يؤكد فرضية
(ماكلم) من ان تقسيم المنظّرين الى معسكرين – سلبي وايجابي هو امر شديد
الالتباس والتشويش مفاهيميا وتاريخيا.
http://www.annabaa.org/news/maqalat/writeres/hatimhameed.htm
......................................
STANFORD ENCYCLOPEDIA OF PHILOSOPHY نُشرت هذه
المقالة اول مرة في شباط 27/2003 واعيد تنقيحها في اكتوبر 2007. |