معظم الفلاسفة الكبار لن يستسلموا بضربة واحدة. الفيلسوف المثير
للجدل ليو ستراوس Leo Strauss شيّد فلسفته على القراءة الباطنية
لإفلاطون، لكن بحثاً جديداً مدهشاً كشف ان ستراوس كان مخطئاً، ليس فقط
في اعماله عن افلاطون وانما ايضا في منهجه ورؤيته التدميرية للفلسفة
السياسية.
بعد ان درس مع cassierer وهايدجر وهسرل، فر ستراوس من المانيا
النازية ووصل لاجئاً الى الولايات المتحدة عام 1937. وفي جامعة شيكاغو،
اشتهر ستراوس – او ساء صيته بتأكيده ان الخوف من الاضطهاد هو الذي دفع
افلاطون وغيره من الفلاسفة لإخفاء عقيدتهم الحقيقية. القارئ الذكي كان
يُفترض ان "يقرأ ما بين السطور" ليكتشف فلسفة افلاطون الخفية والخطيرة.
هذه الطريقة في قراءة افلاطون هي ببساطة تتجاهل اعمال الباحثين
المحدثين الذين كتبوا حوله. منذ القرن التاسع عشر اتخذ التيار السائد
للباحثين من المعنى الظاهري لحوارات افلاطون الاساس لأعمالهم. هم بذلوا
جهداً شاقاً في القراءة الحرفية لإفلاطون. وكما في ستراوس، العديد من
اتباع افلاطون في العصور القديمة قالوا ان الحوارات كانت رمزية.
المحادثات في ظاهرها كانت تكفي لتعليم قرائها، ولكن الطلاب في
المستويات المتقدمة يُفترض ان ينفذوا بعمق في المبادئ الذكية المشتقة
من فيثاغوروس.
ستراوس تجاهل هذه التفسيرات القديمة. وبدلاً من ذلك هو وجد في
افلاطون مقاومة مشككة بكامل النظرية وبجميع الميتافيزيقا. ان نظريات
افلاطون حول الأشكال والارواح والخير كانت مثيرة للحيرة والالتباس.
ستراوس كشف عن اسرار افلاطون وجعلها محور لفلسفته الخاصة، ولكن
الكثيرين اعتبروا رؤيته لإفلاطون كأنها تكهّن غير حقيقي برفض هايدجر او
نيتشة للميتافيزيقا.
ان ادّعاء ستراوس بمعرفة الفلسفة الباطنية لافلاطون لم يكن واقعيا.
كتاب (جاي كندي) الجديد (البناء الموسيقي لحوارات افلاطون) يؤكد ان
أتباع افلاطون القدماء كانوا على صواب. حوارات افلاطون تحتوي بالفعل
على رموز اُشتقت من فيثاغوروس وتلاميذه. هذا ليس مجرد تفسير جديد
لافلاطون. هناك نماذج موسيقية محددة في الحوارات يمكن التحقق منها بدقة
وموضوعية.
هذا البحث الجديد أثار نقاشا واسعا بين الكلاسيك والفلاسفة. حيث
كانت هناك سلسلة من المحاضرات في اقسام الكلاسيك في الجامعات
البريطانية، والعديد من ورش العمل القادمة جرى جدولتها في نيويورك
وريودوجانيرو. كذلك هناك عدد من الردود يجري إعدادها من جانب عدد من
العلماء البارزين في الكلاسيك والفلسفة وعلم الموسيقا.
قصص مثيرة حول فك "اسرار افلاطون" جذبت وبشكل مذهل اهتمام الميديا
في الصحف والاذاعات ومنتديات الاون لاين في جميع انحاء العالم. غير ان
كل هذا النقاش ركز على رموز افلاطون لكنه تغافل عن الضربة القاصمة التي
وُجهت الى فلسفة ستراوس.
الى جانب البرت اينشتاين وثوماس مان وفلاديمير نابوكوف، كان ستراوس
احد أعظم اللاجئين المفكرين الذين اغنوا امريكا في اواسط القرن الماضي.
سمعة وتأثير ستراوس لمعت عندما اصبح من اعظم الفلاسفة المثيرين للجدل
في العقد الماضي.
تلاميذ ستراوس عُرفوا من خلال الفلسفة وعلم السياسة ومؤسسة السياسة
الخارجية الامريكية، حيث نشروا افكاره القائلة بان السياسة والفلسفة
السياسية هي مخادعة من حيث الجوهر. وفي صحيفة the New Yorker عرض
المحقق والصحفي (Seymour Hersh) شكلاً لجمعية خاصة من انصار ستراوس كان
لها تأثيراً كبيراً على سياسة دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الامريكي
السابق. بعض هؤلاء جادل تحريرياً بان " الخداع هو المبدأ في الحياة
السياسية". العديد من الامريكيين يؤكدون ان ستراوس اصبح المفكر الوغد
الذي وقف وراء الحرب ضد العراق ودافع عن السياسة المتعمدة للكذب تجاه
الناخبين.
حروب ستراوس اندلعت في سلسلة من الكتب الحديثة. فمثلاً من اليسار
نجد Nicholas Xenos يهاجم ستراوس في كتابه (ارتداء الفضيلة: الكشف عن
ليو ستراوس وبلاغة السياسة الخارجية الامريكية)، يقابله رد من(Peter
Minowitz)في كتاب (ستراوسفوبيا: دفاع عن ستراوس ضد Shadia Drury
والنقاد الاخرين). ان قراءة ستراوس للقدماء جرى التصدي لها من جانب
احدى محققات افلاطون (Catherine Zuckert) في كتاب (الحقيقة حول ليو
ستراوس) وفي كتابات اخرى. لم يكن ستراوس ابداً بمثل تلك الشهرة.
ان افق ستراوس ربما يلمع اكثر في المستقبل. انتقاداته لليبرالية
جعلت منه الاكثر شهرة في الصين. وطبقا لما ذكرته العديد من التقارير
الصحفية، كان ستراوس حاضراً هناك "كونه قرأهُ الجميع"ومن مختلف
الانتماءات والمشارب.
غير ان كل ذلك لم يوقف جامعة كامبرج من تقديس ستراوس. في دليل
كامبرج لعام 2009 جاء ستراوس بين اهم الفلاسفة البارزين في القرن
العشرين. واليوم استمر ستراوس محافظا على سمعته بسبب استمرارية نشر
اعماله من قبل مركز ستراوس في جامعة شيكاغو.
استمرت كامبرج في تأييدها لستراوس رغم سيل الانتقادات والشكوك من
تيار الفلاسفة والكلاسيك. (Miles Burnyeat) وهو كاتب شهير في (New York
Review Of Books) اطلق على ستراوس لقب "معلم المحافظين الامريكيين"
لكنه اضاف بان ستراوس هو "اسطورة بلا اسرار". اما (Brian Leiter) اعلن
بوضوح: ان " الستراوسية هي مرض الفلسفة الامريكية".
قراءة ستراوس الخاصة لأفلاطون هي جوهر فلسفته. في كتابه (الاضطهاد
وفن الكتابة) جادل ستراوس بان العديد من الفلاسفة منذ اضطهاد سقراط
وحتى الان أخفوا رؤيتهم الحقيقية عن العلن. وهم باستعمالهم التلميحات
والتناقضات المقصودة حجبوا بدهاء المعاني الاصلية لكتاباتهم.
ان هذه المسألة تختلف كلياً عن موضوع المفارقات الواردة في حوارات
افلاطون. كبار الباحثين في دراسات افلاطون مثل (Paul Friedlander)
و(Gregory Vlastos) جادلا بان سقراط كان مخادعا وهو كثيرا ما اخفى
وتجاهل المعنى الاصلي لكلماته. اما ستراوس فقد ذهب ابعد من ذلك حين
الغى ما اعتبرهُ القدماء والمحدثون على السواء مبادئ جوهرية
للافلاطونية.
كتب ستراوس ثمان تعليقات حول حوارات افلاطون وبقيت تلك التعليقات
قدوة له في الكتابة الباطنية. افلاطون يُفترض انه اكتشف الصراع الاساسي
بين الفلسفة والمجتمع. يقول ستراوس ان الفلسفة هي تساؤل دائم عما اذا
كان المجتمع بنوعيه – الحديث واليوناني القديم- يحتاج دائما لإثبات
اساطيره.
يقول ستراوس" ان الفلسفة هي محاولة لإستبدال الرأي بالمعرفة، وان
الرأي هو العنصر الاساسي في المدينة، ولذلك تكون الفلسفة مدمرة
وبالتالي يجب على الفيلسوف ان يكتب بطريقة (يتظاهر) فيها بتطوير
المدينة بدلاً من تحطيمها ". هذا يفترض ان السرية هي طريقة الفيلسوف
للتهرب من الاضطهاد في ظل الانظمة القمعية، ولكن العديد من نقاد ستراوس
رأوا شيئاً اكثر مكراً. ستراوس يبدو ايضا اعتبر الكتابة السرية ضرورية
لأن الناس العاديين كانوا يشكلون تهديداً. هم سوقيون وجهلة وغير قادرين
على ادراك الفلسفة العليا. هذا الخط من التفكير هو في الاساس غير
ديمقراطي وهو يجيز سياسة الكذب النبيل وقاد الى اتهام ستراوس ومناصريه
بانهم طابور خامس للفاشية.
كل هذا خلق ضغطاً هائلا على ستراوس ليوضح الفلسفة التدميرية التي
وجدها مختبئة لدى افلاطون. في تعليقات ستراوس وكتاباته مثل (افلاطون
الفارابي) و (ماهي الفلسفة السياسية؟) يرى ستراوس ان افلاطون هو معاد
ليس فقط للميتافيزيقا وانما لكل النظرية الوضعية. الهدف النهائي
للفلسفة هو نوع من الجهل السقراطي المدمر المقاوم الى الابد لأي رؤية
ميتافيزيقية عميقة للعالم. وهكذا يكون ستراوس جعل من افلاطون كائناً
وجودياً او فينومولوجياً.
اما (Neil Robertson) قام بتحليل تفسيرات ستراوس لافلاطون واستنتج "
ان ما يوضح هذه المقاومة للبروز والاختباء وراء الستار هو ان ستراوس
يفترض ويطلب ايضا من افلاطونه تماسكاً فينومينولوجياً معاصراً... قراءة
ستراوس لافلاطون عُرضت لتصبح مشوشة منهجيا عبر الربط المباشر والقوي
للنصوص الافلاطونية بالاشكاليات المعاصرة ".
قبل الآن لا احد استطاع اثبات ان ستراوس كان خاطئاً. طريقته في
القراءة بين السطور كانت فقهية ولا يمكن اختبارها. الستراوسية بامكانها
الرد دائما بان نقادها غير مؤهلين. هم ببساطة غير قادرين في النظر في
الاعماق المحيرة التي وجدها ستراوس مخفية في اعمال افلاطون.
في السنوات الاخيرة، بدأ الكلاسيك والفلاسفة يقبلون تدريجياً
بالرؤية القديمة بان افلاطون يمتلك فعلا معتقدات فيثاغورية لم يفصح
عنها ابداً في حواراته. كتاب (Ken Sayre) بعنوان (plato’s Late
Ontology:A Riddle Resolved) كان معلماً بارزاً في دراسات افلاطون
المعاصرة. هو رأى ان ملامح معينة في (الفيليبوس) كشفت ان افلاطون امتلك
فلسفة رياضية مشتقة من فيثاغوروس – تماما كما ذكر تلامذة افلاطون
الخاصين. كبار الباحثين امثال (جون ديلون) و (جارلس خان) يوافقون على
التباين في هذه الرؤية.
المؤرخون المستقلون ذوي الاطلاع الواسع طوروا جذريا دراسة الرمزية
القديمة. بعد اكتشاف اقدم الكتب الدينية لدى الاغريق (Derveni papyrus)
طرح بيتر ستراك في (مولد الرمز) رؤية منقحة بان الرموز كانت جوهرية
للفلسفة القديمة والادب. والآن من المقبول على نطاق واسع ان الرمزية
كانت موضوعاً للتحقيقات في الحلقات التي عُقدت حول سقراط والتي برز
منها افلاطون.
اشتمل بحث (جاي كندي) على التقدم الحاصل في كل من هذين الجانبين بما
يجعل بالإمكان اثبات خطأ ستراوس.
قد يقال ان ستراوس كان على نصف المسافة من الصواب. وكما في العديد
من اتباع افلاطون القدماء، هو شعر ان هناك عمقا تحت المعنى الظاهري
لكلمات افلاطون. إحياء هذه الرؤى القديمة كان عملاً احادياً وشجاعا
لوضعية وحرفية مناخ ما بعد الحرب التي سادت الاوساط الاكاديمية
الامريكية.
مع ان افلاطون كان فعلاً كاتبا باطنياً، الا ان ستراوس لم يتمكن
ابداً من القراءة بين السطور. هو لم يفصح عن اي تأثير لنظرية فيثاغوروس
الموسيقية او الرياضية على افلاطون. في الواقع، وصف ستراوس الفلسفة
كرفض جوهري للاستسلام لسحر الرياضيات. هذه الكراهية للعلوم الوضعية
جعلت ستراوس غير ملائم ابداً لفهم افلاطون الذي هو اعظم ابطال
الرياضيات في الفلسفة والتعليم. لم يتمكن ستراوس من رؤية رموز افلاطون
الموسيقية والرياضية.
(البناء الموسيقي في حوارات افلاطون) هو نوع من المرشد لفك الشفرات.
هو يعطي مدخلاً لطبيعة الرمزية القديمة ثم يتعقب النماذج الموسيقية عبر
الحوارات العظيمة لافلاطون في الحب (the Symposium) والدين (the
Euthyphro). هو يعرض عدة خطوط لترسيخ الدليل لكل من الادعاءات الكبرى
ويكشف الاشكال الموسيقية الأنيقة التي استعملها افلاطون لتوحيد حواراته.
ذكر ستراوس ان افلاطون كان نظرية مضادة، ولكن في الواقع ان الرموز
تكشف تماما ان ما قاله اتباع افلاطون القدماء جرى ترميزه هناك كفلسفة
فيثاغورية كاملة.
يمكن النظر الى ستراوس الآن كشخصية انتقالية. اتقانهُ المطلق
للفلسفة يثير الاعجاب دائما. هو أثار سؤال الباطنية في عصر يسيطر فيه
العلم وحيث تُقرأ الحوارات حرفياً. الشك والسخرية التي تحمّلها لم تهز
قناعته بوجود أعماق مجازية لا مرئية في حوارات افلاطون.
اتجاه ستراوس في (القراءة بين السطور) جرى تفنيده، كونه اتجاه شديد
البداهة ولا يمكن التحكم به. هو ربما كان طريقة مضادة ومتعمدة.
بالمقابل، يمكن توضيح رموز افلاطون عبر تطبيق الطرق المعيارية التي
يستعملها باحثو الادب في دراسة كتّاب المجاز امثال دانتي و سبنسر.
اصبحنا ندرك الآن ان اتجاه ستراوس هو ان يجعل افلاطون مخطئاً.
http://www.annabaa.org/news/maqalat/writeres/hatimhameed.htm
................................................
Jay Kennedy فيلسوف ومؤرخ علوم في مركز تاريخ
العلوم، التكنلوجيا والطب، جامعة مانشستر. صدر له في 2011 كتابه الجديد
(The musical structure of plato’s Dialogues).
انظر مجلة الفلاسفة The Philosophers’ Magazine (TPM)
عدد سبتمبر 25/2011 . |