في مديح الغبطة... عن الجهل توابع وزوابع

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: تسقط الكثيرات من النساء حملهنّ، لاسباب عديدة يشرحها الطب بعد الاطلاع على كل حالة.. تتدخل الثقافة الشعبية كثيرا اذا تكرر الاسقاط، فيقال ان تلك المراة لديها (تابع – تابعة) وهو (الجن او الجنية)، التي تلاحق كل حمل جديد للمراة لغرض اسقاطه.

التابعة وليست الرعاية الصحية المستمرة هي سبب اسقاط الحوامل، هكذا يفسر (الجهل) الامور ويشخص مواطن المرض او الخلل.. لهذا يعتبر الجهل والامية في كل مجتمع من العوامل المعيقة للتنمية البشرية.

والزوابع هي الاعاصير، او المصائب.. وايضا التوابع والزوابع هي الدواهي والمصائب.. ماهي الغبطة؟ الغبطة حسن الحال وفي الحديث (اللهم غبطا لا هبطا) معنى (غبطا لا هبطا) أنا نسألك نعمة نغبط بها وأن لا تهبطنا من الحالة الحسنة إلى السيئة.. وقيل معناه اللهم ارتفاعا لا اتضاعا وزيادة من فضلك لا حورا ونقصا.. وقيل معناه أنزلنا منزلة نغبط عليها وجنبنا منازل الهبوط والضعة.. وقيل معناه نسألك الغبطة وهي النعمة والسرور ونعوذ بك من الذل والخضوع.. والغبطة المسرة.

وغبط الرجل: حسده وقيل الحسد أن تتمنى نعمته على أن تتحول عنه والغبطة أن تتمنى مثل حال المغبوط من غير أن تريد زوالها ولا أن تتحول عنه وليس بحسد.. وللاغتباط مرادفات: اِبْتِهاج، فَرَح، سُرُور، بَهْجَة، مَسَرَّة، حُبُور، غِبْطَة، تَهَلُّل، طَرَب، نَشْوَة، اِرْتِيَاح، اِنْشِراح، سَعَادَة. ولها أضداد: اِكْتِئابٌ، حُزْنٌ، غَمٌّ، اِبْتِئاسٌ، شَجْوٌ، أَسًى.

ماهو الجهل؟ هو عكس العلم وجهل الأمر يعني خفي عنه. ويقسم الجهل إلى ثلاثة أقسام بحسب ويكيبيديا الموسوعة العنكبوتية:

جهل بسيط: هو فهم مسألة ما بدون أحاطة كاملة.

جهل كامل: وهو خلاف العلم بالمسألة أي إن صاحبها لايعلم من المسألة شيئا.

جهل مركب: وهو أسوأ أنواع الجهل، وهو فهم الأمر خلاف ماهو عليه.

استخدم القرآن الكريم لفظ الجهل بمعنى الاعتقاد الفاسد علميا ومنطقيا وفطريا، أما ما هو عكس العلم في القرآن الكريم فهو اللاعلم أي فراغ النفس من العلم بشيء ما أو نقص العلم حوله.

الجهل في الاستخدام القرآني عكس الحلم و الحكمة والعقل. وهو يعني تحكيم القوة : ومن هنا سميت الفترة ما قبل الإسلام بالجاهلية، لأنها كانت فترة تحكيم القوة والعصبية القبلية أي حكم القوي على الضعيف. ولكن بمرور الوقت أصبحت بمعنى عدم المعرفة، باعتبار أن العرب قبل الإسلام كانوا لا يملكون كتابا يعلمهم الحكمة.

والقرآن الكريم ذم الجهلاء وتوعدهم بالجحيم أما الذين لا يعلمون فحضهم على العلم فقط، ولم يذمهم ولكن لم يسو بينهم وبين العالِمين، فجعل العالِمين أكبر درجات من الذين لا يعلمون

ماهي علائم الجاهل، كما وصّفها امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام)؟

الجاهل لا يرتدع، الجاهل لا يرعوي، الجاهل من خدعته المطالب، العالم ينظر بقلبه و خاطره و الجاهل ينظر بعينه و ناظره، الجاهل لن يلقى أبدا إلا مفرطا أو مفرطا، ثروة الجاهل في ماله و أمله، طاعة الجهول تدل على الجهل، غاية الجهل تبجح المرء بجهله، كلما حسنت نعمة الجاهل ازداد قبحا فيها، ما أوقح الجاهل، الجهل موت

ومن هو اجهل الناس عند امير المؤمنين عليه السلام؟ أجهل الناس مسيء مستأنف، أجهل الناس المغتر بقول مادح متملق يحسن له القبيح و يبغض إليه النصيح، أعظم الجهل معاداة القادر و مصادقة الفاجر و الثقة بالغادر، من اصطنع جاهلا برهن عن وفور جهله..

ويعقد الامام عليه السلام مقارنة بين العلم والجهل، عبر ذكر النقيض للشيء دون التصريح به: من جهل علما عاداه، المرء عدو ما جهل، الجاهل لا يعرف العالم لأنه لم يكن قبل عالما، الجاهل يستوحش مما يأنس به الحكيم.

وفي معرض ذمه للجهل، انظر اليه كيف يعبر بكلمات قليلة: الجهل أنكى عدو، الجاهل صخرة لا ينفجر ماؤها و شجرة لا يخضر عودها و أرض لا يظهر عشبها، إذا شاب الجاهل شب جهله، ضالة الجاهل غير موجودة، عمل الجاهل وبال و علمه ضلال، أبغض الخلائق إلى الله تعالى الجاهل لأنه حرمه |أفضل| ما من به على خلقه و هو العقل

الناظر لاحوالنا، كعرب ومسلمين، كم يجد من تلك التوصيفات تنطبق علينا، في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة وفي العلوم الصرفة والتكنولوجيا، وفي جميع شؤون الحياة، المادية منها والمعنوية؟

جميع تلك التوصيفات تنطبق وتتطابق مع حالنا، ففي السياسة لانفكر بالابداع كما يفرض علينا العقل، بل نلجأ الى الاتباع كما ينصحنا الجهل بذلك، فهو اكثر راحة لنا، وهو نوع من الغبطة الحميدة.

والغبطة بجهلنا مسرات دائمة، هل نبارح تلك المسرات ونعيش الاكتئاب والحزن والغم الذي تفرضه علينا المعرفة ولواحقها؟

والغبطة بكرهنا للاخرين اسهل من معرفتهم وحبهم، لان الحب معقد في المنح والعطاء، ونحن لانريد ان نبارح غبطتنا بالوقوف عند الحدود الدنيا من انسانيتنا، ولان الحب نوع من ترف لانطيقه ولانغتبط بوجوده..نعم، نحن نعيش وهم حب الاخرين دون محبتهم، لان شرط الحب معرفة من نحبهم.. لكننا لانبذل جهدا ولو يسيرا في معرفتهم.. حلقة مفرغة، ودوامة متواصلة ومتسارعة.

اعيت امراضنا واسباب تخلفنا وانحطاطنا، الكثرة الكثيرة من المفكرين والباحثين، الذين ينطبق عليهم (الوصف والموصوف) علما وبحثا، وليس التسمية فقط، لان هؤلاء ايضا كثرة كثيرة من الذين يعيشون غبطتهم الخاصة بهم.

في السبعينات والثمانينات العراقية، دأبت جميع الشخصيات التي يستضيفها التلفزيون العراقي، في حواراته في الشان السياسي او الثقافي او الاقتصادي، ان يستهل الضيف اجابته على السؤال بقوله (في الحقيقة والواقع) ثم يسهب في كلامه وشرحه.. لم اعرف اول من بدأ بتلك الافتتاحية التي اصبحت تتكرر في كل لقاء، واصبح ماياتي بعدها هو (كما قال السيد النائب – كما قال السيد الرئيس – كما قال السيد الرئيس القائد – كما قال السيد الرئيس القائد حفظه الله ورعاه) كان التطوير في الاضافة على اللقب مستمرا وممتدا بامتداد المناصب والالقاب والتوصيفات التي حصل عليها (السيد النائب) وبقيت (في الحقيقة والواقع) صامدة امام عوامل الامتداد والتغيير الذي جاء بعدها.

(في الحقيقة والواقع) كانت شعار الغبطة الذي رفعه المثقفون والكتاب والصحفيون والادباء والشعراء في تلك الفترة، ولم يكن مما يقولونه قريبا باي شكل من الاشكال من الحقيقة او الواقع.

هذه النخبة، والكثير منها في مواقع المسؤولية والتوجيه، تتلمذت على يديها وفكرها الكثير من الاجيال، التي لم تر (الحقيقة والواقع) ومن رأى ذلك منهم، كان مصيره رباعية العراق الشهيرة في ذلك الوقت (القتل – السجن – الهجرة – الاعتزال).

الاغلبية عاشت غبطتها ومزايا تلك الغبطة، التي نعيش فصولها حتى الان، لان الكثير من اجيال (في الحقيقة والواقع) لازالوا بيننا، هل تريدون امثلة على ذلك؟ شاهدوا تصريحات السياسيين، انظروا الى سلوك المواطنين في الشوارع، ستجدون جميع انواع الغبطة، مانحة المسرات رغم فواجع جهلنا العظيمة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 30/حزيران/2013 - 20/شعبان/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م