خير امة... القتل والسحل والتنكيل

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: ابشع من الجريمة تبريرها والاحتفاء بها.. اتابع يوميا ما يكتبه المثقفون العرب والعراقيون، عبر بعض المواقع والصحف المرموقة، عربية وعراقية، زادت متابعتي اثناء معركة القصير وبعدها، جميع الاقلام الثقافية العربية، تكشف عن هويتها السنية دون مواربة او خجل، فلا شيء يدعو من ذلك، طالما ان الحديث يدور حول مبادي وقيم انسانية عامة، الا ان هذا لا يمنع الكثيرين منهم من توجيه اصابع الاتهام للشيعة في ما جرى ويجري في سوريا، والعزف على وتر (الشيعة – الصفوية – العلويين).. يشاركهم في ذلك كتاب عراقيون، وهم في غالبيتهم العظمى، من المثقفين الشيعة، الا انهم لا يفصحون عن هوياتهم المذهبية، خوفا من ان تكون مواقفهم مجروحة، وهم يكتبون حول مباديء عامة وقيم انسانية يتفق عليها الجميع.

قبل شهور قليلة، هب عدد من المثقفين الشيعة، دفاعا عما اعتبروه ارهابا بحق احد الكتاب العراقيين الذي اعتقلته السلطات الايرانية في مدينة قم، وتنادوا للدفاع عنه، في حملة تظاهرات وكتابات جعلت منه مفكرا وحيد دهره وعصره، وهو ينتقد بعض المتبنيات الدينية الشيعية.

بعد اطلاق سراح (المفكر) عاد الى بغداد محتفى به في ندوات المثقفين، يتحدث عن فتوحات سابقة وفتوحات لاحقة.

اذكر هذه الحادثة لاصل من خلالها الى استنتاجين رئيسيين:

الاول: لم تصدر فتوى بهدر دم (المفكر) او محاولة قتله، من مراجع الدين الكبار في العراق او ايران، ولم تطارده مجموعات الزعران والبلطجية في شوارع بغداد، لضربه او التنكيل به، اقتصر الامر على سجالات هنا وهناك في الصحافة العراقية.

الثاني: امام بعض القضايا الكبرى، والتي تتعلق بوجود الانسان وكينونيته العظمى، وقدسية حياته ودمه، يقف المثقف الشيعي، حائرا يتلفت يمينا وشمالا، لا يدين الا على استحياء ومشفوعة بابعاد شبهة (الطائفية) عنه، وكانه في ادانته لما يقع من ظلم او حيف على اي انسان شيعي، كانما هو يشخصن هذا الظلم او الحيف، وانه مازال في مكانه لا يبارح تلك المظلومية التاريخية، التي كثيرا ما تم اتهامه باستغلالها من قبل الاخرين.. وهو في موقفه هذا يحاول جاهدا استمالة مشاعر الاخر المذهبي، الذي مهما قال او فعل، اعتبره ذلك الاخر محض (تقية) وهو يخفي في نفسه عكس ما يظهر.. ولعل مواقف بعض المثقفين الشيعة المؤيد للتظاهرات في المناطق الغربية، ومواقفهم من الثورة السورية، ومواقفهم من بعض الانتهاكات الحكومية تجاه التظاهرات، ومواقفهم من الجماعات الشيعية المسلحة ايام الاحتراب الطائفي، او هذه الايام، خير دليل على ذلك.

بالمقابل، المثقف العراقي السني، غير مهموم باخفاء هويته المذهبية، وغير معنيّ بشدة التوصيف او حدته او رقته، فالانتهاك الحكومي يشخصن بهويته المذهبية، وهي هنا (الشيعية) هذا اذا كان التوصيف فيه نوع من المجاملة، لكنه (صفوي – مجوسي) في حالات الصراحة – الوقاحة، والتي دأبنا على سماعها من كل حدب وصوب.

هذه السطور مقدمة لابد منها للحديث عما جرى في مصر، من قتل خمسة رجال شيعة وسحلهم في شوارع قريتهم مع هتافات التكبير.. لا يمكن لاي دين او شريعة او قانون ان يبرر او يبارك ما حدث الا من كان هناك خلل في دينه او في فهمه لهذا الدين.. وفي الحالتين هو مدعو لاعادة النظر والبدء من جديد.

وهو ايضا خلل في فطرته الانسانية، او مرض نفسي يحتاج الى العلاج العاجل، وهو في الحالة المصرية خصوصا والعربية الاسلامية عموما، خلل في فطرة الامة، التي ذهب الكثير من افرادها الى الاحتفاء بتلك الجريمة، ومحاولة تبريرها.. وكان التبرير شديد السخرية، لكنها سخرية موجعة سوداء قاتمة.

الضحية الابرز من ضحايا هذا (الانتهاك الحيواني) متهم بسب الصحابة وانتقادهم، ومكانة الصحابة في الفهم الديني للمعتدين، اكثر قدسية من حياة ودم هذا الناقد.. فالتاريخ قدس اقداسنا، رغم مثالبه وعيوبه وفضائحه.

وهو تاريخ يحاول ان يفرض عليك، ان تضع من كان اول المؤمنين، والذي لم يدنس يوما روحه او جسده بشائبة من شرك او حرام، بمنزلة واحدة، مع من فعل الافاعيل، وكان في الوسط او في المؤخرة من ركب المؤمنين، فكلاهما وحسب هذا التاريخ، (رضي الله عنهما).

اعود الى الاستنتاج الثاني، وانقل ماقاله ظافر العاني، الناطق الرسمي باسم كتلة متحدون، (وهو قبل العام 2003 المراسل الاعلامي لنظام صدام حسين عبر قناة الجزيرة القطرية)، يقول العاني: (نعم كثيراً ما تقززتُ وانا استمع للشيخ حسن شحاتة وهو يسب ويلعن ويكفر وبالفاظ بذيئة عقائد اكثر من مليار ونصف مسلم حين ينال رموز المسلمين، خلفاؤهم، صحابتهم، زوجات نبيهم المصطفى صلى الله عليه وسلم في استهانة غير مقبولة بمشاعر الناس، ومن اين ؟ كان شحاتة يتقصد ان يروي معظم خطبه من قم وطهران).

وأشار العاني قائلا على صفحته بشبكة التواصل الاجتماعي فيسبوك (لا ضير ان يغير المرء قناعاته المذهبية، فهي كلها مدارس فكرية اسلامية لها اجتهادها واصولها العقلية والنقلية، ولكن عليه ان يحيطها بالاحترام الواجب لمشاعر الاخرين).

وأضاف (لكن هذا شئ وما حصل له وثلاثة من اصحابه شئ اخر انه رد فعل لايقل غلواً عما كان يقوله شحاتة.. ان قتله وسحله والتمثيل بجثته في الشارع امام مرأى المئات قد شوه صورة مصر المتسامحة والاسلام المستنير وهو يفتح في امتنا جرحاً جديداً بالكاد نحاول تضميده، انه امتداد للصراع السياسي الطائفي ببعده الاقليمي، حيث يحتدم من حولنا في كل مكان، وهناك سؤال يحتاج لاجابة : من منا الرابح في هذه المعركة الخاسرة؟).

لم يعتبر هذا الناطق الجهبذ ما حدث الا رد فعل لغلو سابق، ومقدمته قد شرعنت من حيث لايصرح، بما حدث وهي تبرير له، واما الخاتمة، فهي انشاء بلاغي يبرع فيه المراسلون والناطقون الاعلاميون، الغاية منه قلب الحقائق او محاولة التخفيف من وقعها.

وهي ادانة تشبه كثيرا مانسمعه، حين يتكلم المتحدث ثم يتوقف قليلا ليقول (ولكن).. جريمة قتل الشيعة الخمسة وسحلهم وتصوير ماحدث والاحتفاء به وتبريره تحت مسميات شتى، لا يمكن لاي عقل سليم القبول به، لانه يدخل تحت تصنيف (الحيونة المسعورة)، والتي لاتكون في الحيوانات الا بعد اصابتها بمرض خطير يربك عملياتها الدماغية.

المسلمون، وقطاعات كبيرة منهم، ويتكشف ذلك عبر الكثير من المشاركات التي اطالعها في المواقع والصحف العربية، قد دخلوا مرحلة (الحيونة المسعورة) والتي تاتينا من خلال اكل الاكباد، او قطع راس شرطي على الرصيف، او قتل اخوة الوطن وسحلهم، وكل ذلك مصحوبا بهذه اللازمة التي لابد منها (الله اكبر).

نحن امة فقدت بوصلتها، او اننا اعطيناها لربابنة سفن لا يعرفون من الدين مطلق الدين، ومن الاسلام، الذي يفخرون بالانتماء اليه، غير الافتاء بالقتل بعد شيطنة القتيل... هل تبقّى شيء بعد هذا من خير امة؟

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 27/حزيران/2013 - 17/شعبان/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م