(أنظمة الحكم في العراق تعتقد أن
المواطن الجيد هو المواطن الميت)
يحكى أن أعرابيا سار مع صاحبه في الصحراء، فشاهدا شيئا اسودا من
بعيد فقال لصاحبه: انه غراب، وقال له صاحبه: انه عنز، فلما وصلا إليه
طار، فتبين انه غراب، فقال لصاحبه: ألم أقل لك انه غراب، فرد عليه
صاحبه: عنز ولو طار، فذهب قول الأخير مثلا يضرب للدلالة على أصحاب
الرأي المتزمت والمعاند الذي ينكر الحقيقة حتى إذا عرفها طالما أنها لا
تنسجم مع رأيه وهواه.
وعليه، فان موضوع هذا المقال لا يخاطب أمثال هؤلاء لأنهم لن
يقتنعوا ولو خاطبتهم الملائكة، وحاججهم ابلغ الوعاظ والفلاسفة، لكنه
موجه إلى أصحاب العقول المتفتحة، والأفكار المعتدلة، والحس السليم
بضرورة بناء دولة عراقية تصون كرامتهم، وتضمن مستقبل أبنائهم.
إن السياسة هي تعبير عن وجود الجماعة، كما يقول جورج بوردو، وتقوم
على معادلة تقف في طرف منها السلطة، ويقف في الطرف الثاني الشعب،
وتحديد طبيعة العلاقة المتبادلة بين الطرفين يحكم على نجاح بناء الدولة
أو فشلها، وهذه العلاقة تحكمها التصورات التي يحملها كل طرف عن الطرف
الآخر. انطلاقا من ذلك نود أن نبين كيف نظرت أنظمة الحكم في العراق إلى
مواطنيها؟ ومن هو المواطن الجيد لديها؟.
سوف لن نغوص في أعماق تاريخ الدولة العراقية الحديثة لنجيب عن هذه
الأسئلة، بل سنقتصر على عهديها القريبين، أي عهد صدام حسين، والعهد
الذي جاء بعده. ففي عهد صدام حسين الذي دام لأكثر من خمسة وثلاثين عاما،
تجد أن نظرة النظام لشعبه كانت نظرة اتهامية تسقيطية، فهناك واحدة من
ثلاثة تهم جاهزة، توجه لكل رأي ناقد يتمرد على سياسة النظام أو يحاول
تصحيح مساره المتخبط: التهمة الأولى هي العمالة لأمريكا وإسرائيل
والرجعية العربية، والتهمة الثانية العمالة لإيران وحزب الدعوة،
والتهمة الثالثة التخاذل والجبن عن خدمة أهداف الحزب والثورة، وبسبب
هذه التهم الثلاث، هجر الكثير من العراقيين، ونزعت عنهم جنسيتهم
العراقية أو اعدموا أو سجنوا وعذبوا أو حجر عليهم وحرموا امتيازاتهم
كمواطنين.
أما المواطن الجيد في نظر النظام، فكان المواطن الخانع الذليل الذي
يقبل أن تنتهك عقيدته أو عرضه وتسلب كرامته وحياته وحياة أبنائه،
وتغتصب حقوقه دون أن يرفع صوته بالاحتجاج والمطالبة بحقه في المشاركة
السياسية ومحاسبة المسؤولين، فالنظام كان يريد قطيع أغنام مدجن ولا
يريد شعبا حرا يمتلك الوعي والإرادة والقوة ليقول للظالم والسارق
والوضيع كفى.
وبعد أن زال ذلك النظام غير مأسوف عليه، وذهب إلى مزابل التاريخ
المليئة بأمثاله، استبشر الشعب أو على الأقل العقلاء وأهل الرشد خيرا
في تغيير تلك النظرة السلبية من نظام الحكم في العراق إلى شعبه، لكن
للأسف تغيرت المسميات ولم يتغير المضمون، فلا زالت تلك النظرة السلبية
موجودة تحفر جذورها في عقول بعض الساسة والمسئولين من صناع القرار من
مختلف الأطراف سواء على مستوى العقل الواعي أو العقل الباطن، فقد تم
استبدال التهم السابقة بتهم جديدة توجه لكل حركة انتقاد واحتجاج توجه
إلى سياسة النظام الحاكم، مطالبة بتغيير مرتكزاته الفكرية وسلوكياته
الفاسدة، وهذه التهم هي: التهمة الأولى بعثي، والتهمة الثانية تكفيري،
والتهمة الثالثة طائفي، ولا نقول أن هذه الفئات غير موجودة في الحياة
العراقية الحاضرة ولا تشكل خطرا على بناء الدولة، لكن جرى تعميمها
لتكون سيفا مسلطا على رقاب جميع العراقيين.
أما العراقي الجيد في عرف النظام، فهو العراقي الصامت غير المبالي،
الذي لا يحتج على النهب المنظم لثروته، ولا يطالب بمحاسبة المفسدين
لتقديم أفضل الخدمات له، ولا ينادي بإصلاح نظامه القضائي، وتطبيق
المعايير الصحيحة للعدالة الانتقالية وو.. فنظام الحكم لا يزال يريد
قطيعا من الغنم ليحكمه، ولا يريد شعبا حرا يحاسبه ويوقفه عند حده عند
انفلاته أو انحرافه.
إن استمرار هذه النظرة السلبية من قبل أنظمة الحكم العراقية
المتعاقبة لشعبها تذكر بتلك النظرة الإسرائيلية للعربي الجيد، فالعربي
الجيد في نظر إسرائيل هو العربي الميت، وأنظمة الحكم العراقية تعتقد أن
الشعب الجيد والمواطن الجيد هما الشعب والمواطن الميتين، الذين لا
يمتلكان عنفوان الحياة، وحيوية الأحرار، لأن الشعب المدجن، والخائف،
والذليل لن يزيد على أن يكون شعبا ميتا.
حقيقة أن الشعب العراقي في صميم روحه شعبا حرا، وصعب المراس، ولا
يقبل الذل، فهو شعب علي والحسين والمقامات والمقدسات، وهو كما وصفه
الإمام علي عليه السلام جمجمة العرب، لكن حيوية هذا الشعب وتدفقها
الإصلاحي الإبداعي لن تظهر مع النظرة السلبية التطويعية التي تمارسها
ضده أنظمته الحاكمة، لاسيما إذا كان الشعب هو – أيضا- في صميمه لا
يحترم نظامه الحاكم (هذا ما سنبحثه في مقال آخر)، بل لا بد من تغيير
هذه النظرة بأخرى ايجابية تعطي للشعب استحقاقه، وهذا لن يكون إلا
بتغيير عقلية الحاكم وصانع القرار، فالمبادرة يجب أن تكون من السلطة
لتحقيق هذا الهدف وليس من الشعب، نعم قد تكون التحديات كبيرة في ظل
الظروف الاستثنائية التي يمر بها العراق والمنطقة، لكن الظروف
الاستثنائية بحاجة إلى قادة استثنائيين ومن طراز خاص، ليبحروا بشعوبهم
إلى بر الأمان، وتجربة العراق في السنوات العشر المنصرمة تبين عدم وجود
مثل هؤلاء القادة، وما انشغال جميع القادة بالتكالب على المصالح
والامتيازات والمنافع الشخصية إلا دليل على ذلك، فهل يكون شعب العراق
محظوظا في الأجل القريب والمنظور ليخرج من رحم معاناته الحالية قادة لا
يتعاملون معه بعقلية الاتهام والقطيع لقيادته القيادة السليمة الصحيحة
صوب التقدم والرقي وتبادل الاحترام والتقدير بين الحاكم والمحكوم؟
ستترك الإجابة عن هذا السؤال إلى الأيام لنجيب عنه نحن أو الأجيال
القادمة.
* مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات
الإستراتيجية
http://fcdrs.com
khalidchyad@yahoo.com |