عصر الظهور وتطلّع البشرية نحو السلام الدائم

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: ما تزال البشرية حائرة، في أجزاء كبيرة من العالم، وهي تلقي بنظراتها هنا وهناك، عمن ينتشلها من مستنقع الحرب والعنف والإرهاب الذي يلقي بظلاله اليوم على الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وحتى النفسي.. فقد تسبب عدم الاستقرار الأمني، في صعوبات جمّة لمسيرة الانتاج، وفي انتشار البطالة والفقر وايضاً أشكال الفساد المالي والإداري، وعودة التبعية الاقتصادية والسياسية.

في ثقافة وعقيدة كل البشر، هنالك منقذ ومخلّص في آخر الزمان، يأتي ليزيل كل مظاهر الحرمان والتخلّف والفساد والانحراف.. لكن البشرية بحاجة لمن تتوفر فيه الشروط الصحيحة والمصداقية العالية التي لا تشوبها شائبة، وإلا فان الأنظمة السياسية في العالم جميعاً تنادي بالسلام والاستقرار والأمن، لنلاحظ المسمّيات الموجودة: "مجلس الأمن الدولي"، "معاهدات السلام بين الدول"، "اتفاقيات نزع السلاح"، وغيرها من الأطر النظرية التي لا تعدو حبراً على ورق، بينما الواقع نقيض ذلك. بل النظرية القائمة اليوم، أن السلام يتحقق من خلال الحرب..!

جاء في كتاب "فقه السلام" لسماحة الإمام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- أن "القاعدة في الإسلام هي السلام، والحرب استثناء ولا يكون إلا في أقصى حالات الضرورة، بينما نشاهد منذ أن أخذت الحضارة الغربية بزمام المبادرة، و تسنّمت مقاليد الأمور اشتعل العالم بحروب دموية ضارية لا مثيل لها في التاريخ..". من هنا فان ظهور الإمام الحجة المنتظر - عجل الله فرجه- يحمل معه تباشير الأمن والسلام، قبل أي شيء آخر.. وليس الحرب والتهديد والوعيد. وجاء في الرواية عن عصر الظهور أنه "يذهب الشحناء من القلوب"، يكفي أن نقرأ في الروايات أن الحمل الوديع الصغير يأمن خطر الذئب، وإن كان الى جنبه، فكيف بسائر البشر..! وهذا النمط الحضاري من السلم واللاعنف، هو الذي يبشّر به الإمام الحجة المنتظر للبشرية جمعاء ساعة ظهوره المبارك.

والسؤال؛ كيف يتحقق السلم والأمن الحقيقي والدائم، وسط كل هذه النيران والمستعرة لحروب ونزاعات مسلحة دامية؟

من السهل ملاحظة الدافع وراء انعدام الأمن في العالم، فكل بلد له عقيدته الخاصة في السياسة والأمن، أو ما يسمى بـ "الأمن القومي"، فالاعتقاد الموجود في بعض المدارس السياسية في العالم، بأن تحقيق "الأمن القومي"، يتم بتحطيم قواعد الأمن لدى الآخرين، هو الذي يعطي المسوّغ والتبرير، لإشعال فتيل الحروب بين الدول، والنزاعات المسلحة داخل الدول، مثال ذلك الآن الحرب الأهلية في سوريا، وقبلها الوضع المضطرب في العراق. فاختلاف العقيدة، لم يعد سياسياً، كما كان في العقود الماضية، إنما الاختلاف في العقيدة الدينية، بحيث بات المسلم يتقرّب الى الله تعالى بذبح أخيه المسلم، لمجرد الاختلاف في العقيدة. هذا الواقع المرير والمأساوي، يضع له الإمام الحجة المنتظر حدّاً نهائياً، ليس على صعيد الأمة وحسب، إنما على صعيد العالم بأسره.

جاء في كتاب "الغيبة" للنعماني، رواية عن الإمام الحسين صلوات الله عليه يقول: "لا يكون الأمر الذي تنتظرونه حتى يبرأ بعضكم من بعض ويشهد بعضكم على بعض بالكفر ويلعن بعضكم بعضاً"، بمعنى أن التكفير والقتل على الهوية والتشريد بدوافع طائفية الذي نشهده اليوم ، ربما يكون مؤشراً على أننا في الطريق نحو عصر الظهور.

يقول سماحة الفقيه الراحل السيد محمد رضا الشيرازي – قدس سره- في محاضرة له حول ظهور الإمام المهدي المنتظر – عجل الله فرجه- : "ظاهرة الفساد الموجودة، و حالات القتل والتناقضات والتناحرات، لن تنتهي ما دام هنالك إختلاف فكري وعقائدي، ربما يمكن للانسان ان يقرر التعايش من الناحية النظرية، ولكن من الناحية الواقعية والعملية، لن يكون ذلك ممكناً، فتبقى الحروب والثورات والاضطرابات الاجتماعية والسياسية المحلية والعالمية على الرغم من جميع شعارات التعايش، فالإمام الحجة صلوات الله وسلامه عليه سيزيل من الوجود هذه القاعدة المهمة من قواعد الخلاف والنزاع وسفك الدماء، وسيدخل جميع البشر في الخط الذي قرره الله تعالى لعباده، وبذلك يسود السلامُ والوئامُ العالَمَ كُلَّه" .

هذه الحقيقة، تدمغ كل التصورات والتحليلات الساعية لأن تلصق بالإمام المنتظر – عجل الله فرجه- حالات الانتقام والثأر وإشهار السيف بوجه المخالفين والمنحرفين لتصفيتهم وتخليص الناس منهم..! وربما في خلد بعض أصحاب هذه التصورات، أن الانحراف والنفاق والظلم، يتمثل في أشخاص، ينتهي بقتلهم. وهذا المفهوم المغلوط هو الذي أوقع الشعوب في مطب التغيير السياسي السطحي، فتم الإطاحة بالحاكم الظالم والتفرعّن والطاغية، لكن بقي مفهوم الظلم والتفرعّن والطغيان في النفوس. والتجربة الماثلة أمامنا في غير بلد اسلامي، أطاح بحاكمه الطاغي والظالم، وكان شخصاً واحداً، لكنه خلّف العشرات بل المئات من الظلمة والطغاة باحجام ومستويات وفي أماكن متعددة.

في دعاء "الندبة"، نقرأ عن أوصاف وسمات الإمام المهدي المنتظر – عجل الله فرجه- "أين حاصد فروع الغيّ والشقاق؟ أين طامس آثار الزيغ والأهواء؟ أين قاطع حبائل الكذب والافتراء.."، وفي مكان آخر: "... وقطعت دابر المتكبرين، واجتثثت أصول الظالمين". بمعنى أن استراتيجية الظهور – إن صحّ التعبير- هي السلام والأمن الدائمين في الحياة، حتى يأتي أمر الله تعالى، حيث جاء في الروايات أن الإمام الحجة المنتظر – عجل الله فرجه- يتعرض للإغتيال ويستشهد في نهاية المطاف.. لكن في كل الاحوال؛ الدولة التي يؤسسها، تقوم على السلم والاستقرار الذي ينعمّ به سكّان المعمورة، ولن يجدوا خلاله أية أزمة أو صراع. ولذا لن نقارن عصر الظهور، ويوم الخلاص الكبير، بالثورات والانتفاضات التي شهدها العالم التي تحررت فيها الشعوب ونالت استقلالها وكرامتها في بلاد مختلفة. لأن الحروب والصراعات لاحقت هذه الشعوب، ولم تنعمّ بنسيم حرية تلك الثورات السلمية منها أو غير السلمية، إلا فترة وجيزة.

وإذن، رسالة السلام والاستقرار التي تحلّ العالم في عصر الظهور، هي امتداد للرسالة ذاتها التي بشّر بها أول مرة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله، فقد زرع السلم والحب واللاعنف في أرض الجاهلية والوثنية، عندما حلّ في تلك الواقعة العظيمة "فتح مكة"، في مدينة مكة، ولم يقطف رؤوس الشرك والنفاق، بل حتى المستحقين للقتل والمهدوري الدم، فأصدر النبي صلى الله عليه وآله، قراره التاريخي والحضاري بالعفو العام، وبذلك كسب الناس أجمعين، وأهدى العالم والبشرية تجسيداً للأمن والسلم والاستقرار الدائم، ونبذ الكراهية والعنف والقسوة والدموية. وهذا ما يكون عليه الحال في عصر الظهور. رزقنا الله جميعاً معايشة ذلك اليوم العظيم.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 23/حزيران/2013 - 13/شعبان/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م