مراكز الدراسات الحديثة وآفاق المستقبل

رؤى من افكار الامام الشيرازي

 

شبكة النبأ: أثبتت التجارب أن من يهضم الماضي ويسيطر على الحاضر سوف يضمن المستقبل، ولكن هضم الماضي والسيطرة على الحاضر ليس الامر السهل ولا هو تحت اليد والتمني، إنه سعي حثيث متواصل منظّم مخطط ومبرمج له مسبقا، ولابد أن تقود هذا العمل عقول ذكية وارادات قوية، متمكنة من تشخيص الظواهر والعوامل القادرة على قراءة المستقبل، قراءة اقرب الى التنبّؤ والاستشراف الدقيق.

وقد وجدت المجتمعات المتطورة والنخب التي تتصدر قيادتها وتوجيه مساراتها، طرقا ناجعة لفهم المستقبل ومتغيراته الكثيرة، على الرغم من انه يقبع في المجهول، أي في تلافيف الزمن القادم، وهذه القدرة والمعرفة بالمستقبل، جاءت من خلال تأسيس وانشاء وتطوير مراكز دراسات متخصصة لهذا الهدف.

لذلك ركّز الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيم الموسوم بـ (فقه المستقبل)، على اهمية مراكز الدراسات التي تختص بدراسة المستقبل، وأورد سماحته أمثلة كثيرة ومهمة، عن المجتمعات التي استطاعت ان تفهم المستقبل، من خلال اهتمامها الكبير في هذا الجانب.

يقول الامام الشيرازي بكتابه المذكور في هذا المجال: (يلزم تأسيس مراكز الدراسات المستقبلية لمعرفة المستقبل ومتغيراته، ولأجل أن نكون صنّاعاً للمستقبل أو من صنّاعه على الأقل، ولكي نكيّف أنفسنا مع تلك المتغيرات).

مراكز الدراسات المستقبلية

لقد اهتم الامام الشيرازي كثيرا في مسألة انشاء وتطوير مثل هذه المراكز المتعلقة بدراسة المستقبل ومتغيراته، واكد سماحته على اهمية ان يسعى المسلمون في عموم ارجاء العالم، الى دراسة وفهم المستقبل، وبناء مراكز دراسات متطورة تعنى بالمستقبل، وركز في كتابه فقة المستقبل، على التجارب العالمية الناجحة في هذا المجال، إذ نقرأ في كتاب الامام الشيرازي حول هذا الموضوع: (نشير إشارة بسيطة لمراكز الدراسات المستقبلية في الغرب وغيره، كي تكون عبرة لنا، لأنها من أسباب تقدمهم وسيطرتهم على العالم. يقال: إن أول مركز تأسس لدراسة المستقبل ـ في العصر الحديث ـ كان في الولايات المتحدة، وتبعتها بعض الدول الغربية: كفرنسا، والسويد، والدانمارك، وألمانيا. وقد بلغ العاملون في هذه المراكز في الولايات المتحدة وفرنسا 240 ألف متخصص حسب بعض الإحصاءات).

ويضيف سماحته قائلا: (وأُنشئت في ألمانيا جمعية تعزيز بحوث السلام والأمور المستقبلية، وقد تم تأسيسها عام -1384هـ/ 1964م-، وأُنشئت كذلك جمعية باسم "المستقبل" عام 1387هـ/ 1967م. وفي مكان على مقربة من صحراء سيناء المصرية، تأسس المعهد الدولي لتحضير الأنظمة التطبيقية، ويقوم هذا المعهد بعملٍ وثيق الصلة بدراسة المستقبل، حتى يمكن النظر إليه على أنه معهد ذو توجه مستقبلي. واهتم جمع من العلماء في بولندا بالبحوث المستقبلية).

ولم يقتصر هذا الاهتمام بمراكز الدراسات المستقبلية على الغرب وحده، بل هناك دول من اسيا طرقت هذا المجال بعد ان ايقنت أهميته، وعرفت ان لا سبيل للتطور والارتقاء الا من خلال معرفة المستقبل وتوابعه. لذا يقول الامام الشيرازي في كتابه المذكور نفسه: لقد (طوّرت اليابان في السنوات الأخيرة، عدداً من المؤسسات ذات الاهتمام المستقبلي، فالجمعية الاقتصادية التقنية اليابانية التي شُكّلت في طوكيو عام (1386هـ/ 1966م) أقامت "معهد تكنولوجيا المستقبل". وفي اليابان أيضاً رابطة ذات توجّه مستقبلي وهي "جمعية علم المستقبل اليابانية").

التبعية للحكم الدكتاتوري

من الاشكالات الجوهرية التي تعاني منها مراكز الدراسات، هي تبعيتها للحكومة، او السلطة الفردية التي تحد من آفاق الحرية والابداع، وهذا يتنافى تماما مع الهدف الاساسي من انشاء وبناء مراكز الدراسات، فتحديد الفضاء الحر وربط حركة المراكز البحثية بسياسة الحكومات الدكتاتورية وافكارها واهدافها، حتما يحد من قدرات تلك المراكز، على العكس فيما لو كانت تنتج وتفكر وتكتب بحرية كما هو الحال في الغرب الذي حقق نجاحا كبيرا في هذا المجال، على العكس من الفشل الذي تعرضت له مراكز البحوث في الدول الشيوعية.

حيث يؤكد الامام الشيرازي هذا الموضوع في قوله: لقد (تصدرت الدول الشيوعية عدداً من الدول الأخرى في المركزية والتحقيقات والبحوث الحكومية، ولكنها لم تبدُ طليعيّة في دراسات المستقبل كما هو كذلك في الغرب وسرّه واضح، فهناك ـ أي الغرب ـ بعض الحريات التي تكفل إنجاح هذه الدراسات، بينما روسيا الشيوعية ومن في فلكها ليسوا كذلك، فهم خاضعون للتوجيه الحكومي الدكتاتوري). ويضيف سماحته قائلا في هذا المجال:

(أما سبب عدم تقدّم الشيوعيين في مجالات الدراسات المستقبلية؛ فلأنهم لا يسمحون للعلماء بتأسيس معهد أو رابطة مستقلة أو حتى شبه مستقلة، ولا بإصدار مجلة أو جريدة بدون الدعم والتوجه الحكومي، ولذا يصعب على المنظمات المستقبلية في البلدان الشيوعية أن تكون واقعية وأن تتطور، إلاّ أنها مع ذلك أخذت بالظهور قبل سقوط الحكومة الشيوعية وتنشطت بعد سقوطها. وقد التحق المعسكر الشيوعي ـ بعد الانهيار ـ بالغرب الرأسمالي في إنشاء المؤسسات المستقبلية، فأحد مراكز الدراسات المستقبلية لديهم حالياً هو أكاديمية العلوم، حيث يقوم العلماء هناك بتفسير الشؤون المستقبلية الغربية وتأويلها).

ومن الواضح ان المجتمع العالمي ككل يحاول ان يفهم المستقبل، كي يوسع من آفاقه، ولا يتم ذلك من دون مراكز الدراسات المتخصصة، حيث تخلو منها البلاد الاسلامية، فلا نجد اهتماما كافيا أو حتى جزئيا بمثل هذه المراكز، من لدن الحكومات الاسلامية ولا من الجهات المعنية، الامر الذي يؤشر خللا كبيرا في هذا المجال، على العكس من الغرب الذي يسعى الى تحقيق هذا الهدف، من خلال التغيير نحو الافضل، مستفيدا من مبادئ الاسلام في هذا الجانب.

إذ يقول الامام الشيرازي حول هذه النقطة: لقد (ذكرنا في كتاب "الغرب يتغيّر" أنّ الغرب أيضاً لا يبقى على الكيفية الحالية، وإنما يتطور تطوراً باتجاه الأخذ بقوانين الإسلام الإنسانية أكثر فأكثر حسبما يظهر من القرائن؛ لأن التقدم ـ نحو الأصلح ـ هو حتمية لابُدّ منها في حركة التاريخ، وأية دولة من الدول تقف أمام ذلك فإنها تدريجياً ستضعف وتتأخر ولعلها ستسقط).

لذلك لابد للدول الاسلامية ان ترعى هذه المراكز وتطورها، لانها الطريق الى فهم المستقبل وضمانه، لكن الواقع يؤكد ضعف الاهتمام بمراكز البحوث من لدن الحكومات الاسلامية، إلا ما ندر، وهو أمر ينذر بعواقب كثيرة، تقلل من آفاق فهم المستقبل، وتحد من فرص الالتحاق بالركب العالمي، لذلك يؤشر الامام الشيرازي هذا الخلل في المجتمع الاسلامي قائلا: (أمّا في البلاد الإسلامية فلا شيء من هذا القبيل، اللهم إلاّ بعض البرامج المتناثرة هنا وهناك، والتي لا تتناسب مع إمكانات هذه الدول، ولا مع قدرات شعوبها الهائلة، ولا مع حجم التحديات، وذلك على الرغم من سعة بلاد الإسلام وكثرة المسلمين).

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 17/حزيران/2013 - 7/شعبان/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م