العراق... عبثية الموت وانخفاض قيمة الإنسان

 

شبكة النبأ: فجأة وعلى حين غرّة من الاستقرار والأمان، يعلو صوت مزمجر مصحوب بانفلاق كتلة نارية تهتز لها الأرض بعنف، فتتحطم الاشياء القريبة منها، من سيارات ونوافذ ومساكن، وتتمزق الأشلاء وتراق الدماء، فيحصد الموت والعوق الجسدي كل من كان قريباً من الحادث.

لكن بعد فترة وجيزة نرى الناس الآخرين يزيلون آثار الحادث الارهابي والاجرامي، بغسل بقع الدماء، وإزالة آثار الدمار، ليعود كل شيء الى حالته الأولية.. ذات سأل مراسل أحد المواطنين في العاصمة بغداد - التي يمكن تسميتها بـ "مدينة الموت" - وبعد تفجير ارهابي حصد ارواحاً واصاب آخرين بجروح، عمن يعتقد انه المسؤول عن هذا الحادث، وهل هناك دوافع طائفية..؟ فكان جوابه النفي. فمن يكون المسؤول الذي يقف وراء هذه الاعمال الاجرامية والدموية بشكل يومي في بغداد وعدد من مدن العراق..؟ الجواب: "لا أعلم"..!

ربما رؤية سطحية للاحداث، يوحي للرائي أن في العراق الموت عبثاً، لأن التفجيرات والاغتيالات وأساليب الموت الأخرى، لم تغير من مجرى الاحداث شيء، فالمحاصصة السياسية على حالها، والكرد يحتفظون بأمر الواقع في شمال العراق، بل ساعون لتطوير الوضع اقتصادياً وسياسياً وحتى دبلوسياً، أما المنطقة الغربية، فهي دائمة الشكوى والتذمّر، بين المصالحة والمحاربة مع الحكومة المركزية. نعم؛ كان فيما مضى هدفاً واضحاً من أحداث العنف، أو بالاخرى مبرراً لسقوط القتلى بغضّ النظر عن مشروعية العمليات المسحلة التي كنا نشهدها، لكن وجود قوات الاحتلال الامريكي، كان يعد خير شمّاعة للجماعات المسلحة من التيارات والاتجاهات كافة، لأن تمارس مهنة القتل والنسف والترويع، تحت يافطة "المقاومة" والتصدّي للقوات الامريكية والمتحالفة معها، بينما كان الذي يدفع الثمن، هم الاطفال والنساء والابرياء في الاسواق والطرقات.

لكن رغم انسحاب القوات الامريكية نجد أن الارهاب والدموية والموت، ملازمٌ للعراق والعراقيين. لنلاحظ الرقم المهول الذي حصدته انفجارات شهر آيار الماضي في العاصمة بغداد والتي بلغ حوالي ألف شهيد، وعدد كبير آخر من المصابين والمعوقين.

والحقيقة هناك أكثر من سبب وراء استمرار هذا المسلسل الدامي، فهناك أموال طائلة تصرف من جهات إقليمية، وتحديداً خليجية، وخطط للتفجير تنفذها جهات داخلية، ومعلومات وإحادثيات وعناصر مجندة وغيرها من الامكانيات توظف لإدامة مشاهد الموت في العراق:

1- الإبقاء على هشاشة الوضع الأمني، بالاستفادة من التشضّي السياسي القاتل، لاسيما التصعيد الأخير بين حكومة المالكي والمعتصمين في محافظات الانبار وصلاح الدين والموصل، وما تخللته خلال الفترة الماضية من أحداث عنف، أنعكست فوراً على المدن العديدة في الوسط والجنوب، حيث حصدت الانفجارت بالعبوات الناسفة والسيارات المفخخة العشرات من الشهداء والمصابين. هذا الوضع يزيد من التباعد بين المواطن والحكومة، ويخفض نسبة الثقة الى أدنى مستوياتها، فعندما يكون من السهل على الجماعات الارهابية تنفيذ علمياتها الاجرامية أنّا شاءت، فان تفاعل وتجاوب المواطن، يتأثر بشكل كبير، ولعل أبرز مثال؛ المشاركة غير الفاعلة مع انتخابات مجالس المحافظات التي شهدت في بعض المحافظات مشركات بين 30 و 50 بالمئة. ولسان حال الكثير من الناس؛ ما فائدة مسؤول ننتخبه لمجلس المحافظة، اذا لم يكن قادراً على حفظ ارواح الناس في الاسواق والاماكن العامة؟!

2- الإبقاء على التبعية الاقتصادية، يُعد من أهم أهداف وغايات الارهاب في العراق.. إذ ان النمو والتطور والانتاج والابداع، مرتبط عضوياً بالاستقرار الكامل على الصعيد الامني، فاذا كان العراق بحاجة الى استثمارات عاجلة في الوقت الحاضر للتقدم في مشاريع بنية تحتية مثل الطرق والمواصلات والطاقة والزراعة وغيرها، فان اصحاب الرساميل في العالم يفكرون ألف مرة قبل أن يضعون أموالهم في منطقة ملتهبة مثل العراق. طبعاً؛ تحاول بعض "الحكومات المحلية" في الوسط والجنوب، استقطاب رؤوس الأموال بدعوى الأجواء الامنية المستقرة نسبياً، إلا ان هذه المحافطات – الحكومات- ليست في  الوقت الحاضر، بالوضع الذي يمكنها من الأخذ بزمام المبادرة الاقتصادية والسياسية، فالأمر كله بيد العاصمة بغداد، فالوزارات هناك هي التي تبتّ في نهاية المطاف في هذا المشروع أو ذاك.

3- الهروب من النظام والالتزام والمراقبة والمحاسبة. وهذه الحالة كانت على أشدها في السنوات الاولى من التغيير، فلا شيء يقف أمام الاجراءات الامنية والعسكرية، سواء أكانت سيارات ذات الدفع الرباعي وهي تسير عكس الاتجاه أو تقفر وسط الشارع الى الجهة المقابلة، أو كانت اجراءات أمنية فجائية وقطع الطرق بشكل فضيع. وما يعطينا الدليل الواضح، الحصول على تأجيل الانتخابات المحلية في المحافظات الثلاث المصنفة "سنيّاً" وهي الانبار والموصل وصلاح الدين، بعد التصعيد الملحوظ فيما يسمى بـ(ساحات الاعتصام)، الامر الذي اضطر رئيس الحكومة نوري المالكي بتأجيل اجراء الانتخابات في هذه المحافظات.

وفي اطارا هذه النقطة بالذات؛ فان الاعتراض الذي أبدته أطراف سنيّة على قرار المالكي، لن يكون ذات مصداقية كبيرة، نظراً الى ان التيارات والجماعات السياسية والعشائرية الفاعلة، لن تتمكن العمل وسط فوضى التظاهر والاعتراض في هذه المدينة وتلك.. فهل من المعقول أن يمارس الساسة في الانبار الديمقراطية، بوجود مجاميع متطرفة وتكفيرية تمزق صور المرشحين في الشوارع، فهذه ربما تكون رسالة عنيفة للغاية لكل من يحاول اجتياز المرحلة وتحقيق مكاسب سياسية.

وفي دائرة أوسع؛ يسعى الارهابيون الى الإبقاء على موطئ قدم لهم في المعادلة السياسية في العراق. وهذا ما جعل الحكومة في بغداد تشكك بسياسة واشنطن في التعامل مع الملف الأمني في العراق، إذ بدأت تصريحات وأقوال تصدر من مسؤولين وخبراء امريكيين عن وجود "عنف طائفي"، و"شعور السنة بالتهميش"، كما على لسان خبير الشؤون العراقية في مجموعة "ايه كي اي" جون دريك" الامريكية، معللاً ذلك بتصعيد الجماعات الارهابية لعملياتها الاجرامية.

وكان تصريح وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري لمحطة سي.ان.ان التلفزيونية ذا مغزى عندما قال: "فقدنا جهود وسيط نزيه" في اشارة واضحة الى امريكا. وفي تصريح لمايكل نايتس من معهد واشنطن لسياسات الشرق الادني القريب من مراكز القرار، قال عن الجماعات الارهابية بانها "يمكن ان تربك الجهود السياسية الرامية لحل النزاع.." وقال ايضاً: "لن اصفها بزيادة ملحوظة من الناحية الاستراتيجية بعد.. نحن في مرحلة ما بعد الحرب الاهلية وفترة فراغ قبل المصالحة". أما كينيث بولاك المسؤول السابق بوكالة المخابرات المركزية والبيت الابيض والذي يعمل حاليا بمركز سابان لسياسات الشرق الأوسط في معهد بروكينجز: "اعتقد اننا سنشهد قدرا كبير من العنف الطائفي".

وهذا يعزز الاعتقاد لدى المراقبين أن واشنطن لا تجد بأساً من وجود عنصر الارهاب والدموية في الواقع السياسي العراقي، تطبيقاً للسياسة القديمة: "العصا والجزرة". فهذا الوضع من شأنه ان يوفر للامريكيين ومعهم البريطانيين التوازن في الوجود على الساحة العراقية، وعدم استفراد جهة اقليمية معينة على الوضع في العراق. لذا كل قابل للتغيير والتحوّل،إلا الوضع الامني، وأعمال العنف ومسلسل الموت، فانه يستمر مع استمرار المصالح الاقليمية والدولية في هذا البلد الجريح.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 16/حزيران/2013 - 6/شعبان/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م