الاندبندنت البريطانية كانت أول من استخدم مصطلح (الربيع العربي)
المنطلقة شرارته الاولى من تونس بعد حرق (البوعزيزي) نفسه احتجاجا على
تردي المستوى المعيشي وتفشي ظاهرة الفساد الاداري بشكل كبير، حيث
تباينت شدة الاسباب المؤججة للربيع العربي من بلد الى اخر، غير انها
يمكن ان تتمحور في:
1- غياب التبادل السلمي للسلطة وشيوع ثقافة القمع والتسلط والقهر
والاضطهاد من قبل الحكومات.
2- تفشي الفقر والبطالة والضيق الاقتصادي وفشل الأنظمة الحاكمة في
تحسين أوضاع الشعوب.
3- استشراء الفساد المالي والإداري والقضائي وفقدان مؤسسات الدولة
لمهنيتها وجدوائيتها.
4- تطبيق القوانين والانظمة بانتقائية ومحاباة.
5- الكبت والمضايقات ومصادرة الحريات وغياب الاعلام الحر.
6- تحول اغلب الحكومات الى اشباه مافيات او (عوائل مالكة) والتهيئة
لمبدأ (التوريث).
7- منح العسكر صلاحيات واسعة وعسكرة المجتمع فكريا وعمليا.
وقد استبشر العديد من أنصار الديمقراطية خيرا بتحرك الشعوب وتوجهها
لنيل حرياتها، الا ان هذه الفرحة لم تكتمل فسرعان ما تحولت الموجات
الربيعية الى اعصار يضرب المنطقة ليحرك عناصر تفجير الطائفية، ورغم
معاناة الشعوب العربية من الأنظمة الاستبدادية المتعاقبة، الا انها
اليوم باتت تتخوف من أي تغير لاحتمالية تسلط التطرف او الفوضى على
الوضع العام.
المشهد الحالي المبتدأ من ربيع تونس انتهى بشكل سريع حصد تغييرا في
النظام السياسي للبلاد، وكذا الربيع الليبي رغم صعوبته، وبمستوى اقل
صعوبة اسدل الستار على مشهد اليمن، الا ان ربيع مصر لم يكن طيبا
بالكامل فمازالت تداعياته تسير وتتفاعل بين المسلمين والاقباط بشكل
واضح، ثم البحرين التي مازالت الامور غامضة فيها الى حد كبير، ليصل
المطاف في مسيره الى سوريا حيث ظهرت المعركة بعنوان مغاير تماما لما
بدأت به فلم يعد الموضوع اليوم في سوريا موضوع نظام مستبد وشعب ثائر بل
تطور المشهد ليكون مفتاح صراع طائفي يهدد المنطقة بأسرها.
في اغلب دول العالم بمختلف مشاربها وتوجهاتها يوجد التنوع المذهبي
والطائفي والقومي وحتى القبلي والعشائري، وربما المناطقي، وكل ذلك لا
يمثل خطرا او هاجسا بل هو تنوع بشري تقليدي وتناسق خلقي فطري يضيف
للمجتمعات قوة وصلابة، وحتى بعض الصراعات التي تحدث فهي لا تتجاوز
مراحل او فترات زمنية وقد تكون ناتجة من ظروف طارئة او مواقف غير واضحة
الملامح لتنتهي بوضعها الطبيعي من التعايش.
حيث استطاع الأوروبيون تحييد نزاعهم (الكاثوليكي - البروتستانتي)،
وكذا فان الصراع (السيخي الهندوسي- الإسلامي) بدا يقل سنة بعد سنة داخل
الهند، رغم ما يحويه هذا البلد من عادات اجتماعية بالية لكنه يحقق بعض
النجاحات بالقضاء على معظم هذه المعضلات.
فالمشكلة ليست في التنوع القبلي او الطائفي والمذهبي، فهو كما
اسلفنا صورة للتنوع الانساني ويبقى كل شخص يعتز بذلك الانتماء ايا كان
لونه، غير ان الخطورة تكمن في حالات التعصب الاعمى ومحاولة انتاج
الكراهية، تحت مسمى الطائفة او المذهب وإلباس العنف لباس الدين وهي
قضية عانت منها البشرية بجميع الوانها على مر العصور.
ومما لا شك فيه فان (الكراهية) لا تنتمي الى طائفة ولا الى مذهب
بقدر انتماؤها للنفوس صاحبة (الايدلوجيا الموجهة) والمصالح الضيقة،
ولعل اول المتضررين من هذا التوجه (الايدلوجي) هي الشعوب المطالبة
بالتغيير، فاغلب الشعوب التي انطلقت منها احتجاجات الامس المطالبة
بالحقوق حظيت بتأييد وتعاطف كبيرين من اغلب المنطقة والعالم والتفاعل
الايجابي معها اعلاميا وسياسيا واجتماعيا.
الصورة الربيعية الجميلة تحولت اليوم (في بعض دول المنطقة) الى شكل
مشوه يعلوه شعار طائفي تعصبي لا يكاد يلتمس منه وضوح في قياداته او
أهدافه او هوية اعضائه، ولعل ذلك من اهم الاسباب التي جعلت العالم
يتوقف كثيرا في دعمه لحالة التغيير الشرق اوسطية، وخصوصا الوضع السوري
على اقل تقدير كون تلك الحالة فاقدة المركزية في التمثيل او القيادة
وحتى الشعبية فهي غير معروفة المساحات ولا تحظى بتأييد كبير من الشعب
السوري نفسه، مضافا لذلك الخطاب المتخبط والمشوش لأغلب الجهات المشاركة
في العمل المسلح في سوريا والافعال الوحشية اللاإنسانية في مسيرتها
القليلة.
من المسؤول؟
يبدو ان الحكومات التقليدية المُهددة بالتغيير المسؤول الاكبر عن
تشوية صورة الربيع الشعبي ومحاولة تصويره على انه صراع طائفي، فحتى
يتمكن البعض من الوصول الى ذلك فهو يجند ما لديه من قدرات اعلامية
واقتصادية وسياسية لدفع الامور بمسار طائفي او مذهبي او يعطيه الصبغة
الدينية ليغطي على الاهداف الخاصة به، غير ان ذلك لا يعفي الحركات
الاسلامية بكل طوائفها، من تشويه الصورة الوردية للاحتجاجات الشعبية (علمت
ام لم تعلم)، فهي اليوم في واجهة الحدث وتنسب جميع الاعمال اليها وهي
ارتكبت اخطاء كبيرة في التعامل مع الاحداث، وهذا على ما يبدو ناتج من
عدم فهما لأهدافها ومنطلقاتها.
حيث يقول المرجع الديني الراحل الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي
في كتابه الموسوم (الحركات الاسلامية)، (..قبل أن تنطلق الحركة
الإسلامية في معترك الحياة السياسية والتغيير، لابد لها من تحديد الأسس
والمنطلقات النظرية والفكرية، التي تعتمد عليها في جهادها ومسيرتها
الرسالية وذلك لأن الأسس الواضحة والمنطلقات الناضجة، هي بمثابة صمام
الأمان للحفاظ على وحدة الحركة ومنع عوامل الاهتراء والضعف من البروز
في جسم الحركة... وكلما أصبحت الأسس واضحة والمنطلقات منسجمة مع بعضها
البعض، تمكنت هذه الحركة من الاستمرار والبقاء، وتحدي عوامل الاضمحلال
والاندثار... فالبداية الطبيعية لأي مشروع عام، هي تحديد أسس ومرتكزات
المشروع النظرية، ومن ثم الانطلاق بهذا المخزون النظري للعمل والسعي من
أجل تحقيق الأهداف والغايات) ويحدد الامام الشيرازي أسس الحركة
الإسلامية في ستة هي كالآتي:
1- التوعية، إذ أن الهدف الاستراتيجي البعيد للحركة الإسلامية هو
تحكيم أفكارها وتصوراتها الإسلامية في الواقع الخارجي، ولكي تصل الحركة
إلى هذه الغاية، لابد من العمل على صنع المجتمع والأمة التي تتحمل
أعباء الرسالة، وتجاهد بكل ما تملك من أجل تحقيق قيم الرسالة في الواقع
الخارجي، ولا شك أن الوعي هو الذي يصنع ذلك.
2- التنظيم، حيث أن المسلمين اليوم، لا يواجهون عدواً فوضوياً،
وإنما يواجهون عدواً منظماً، ويمتلك أحدث وأرقى الوسائل التنظيمية
والإدارية، وعن طريقها تمكن أعداؤنا منا ومن كل خيراتنا وإمكاناتنا،
لذلك فإن التنظيم واجب شرعي وسنة كونية وضرورة حيوية بالنسبة إلى الأمة
الإسلامية.
3- أخلاقيات الحركة الإسلامية، يحاول السيد الشيرازي في هذا السياق،
أن يحدد مجموعة من الصفات والأخلاقيات، التي تعتبر بمثابة العمود
الفقري لنجاح الحركة الإسلامية كونها تتعامل مع مجتمع مرهف بالأحاسيس
والقيم ولابد من ان يكون الطريق الى كسب القلوب عن طريق مكارم الاخلاق
لا غير، وأهم هذه الأخلاقيات هي:
أ- التعاون وهو يعني نبذ التفرقة والتنسيق بين كافة المنظمات
والأحزاب حتى غير الاسلامية منها.
ب- نظافة القائمين بالحركة، بمعنى الاهتمام الجدي بالبعد التربوي
في حياة أبناء الحركة الإسلامية، حتى يكونوا مصداقاً حقيقياً لأخلاق
ونقاوة الإسلام.
ت- فهم ارتباطات الحياة بمعنى أن التغيير الاجتماعي يسير وفق هدى
ونواميس اجتماعية ثابتة، ومن المهم استيعاب هذه القوانين ومعرفة آليات
فعلها، واتجاهات سيرها، وهذا الاستيعاب يتطلب فهم قوانين التغيير
الاجتماعي، وإدراك آليات التمكن، والعمل وفق القواعد والنواميس
الاجتماعية.
ث- الاستقلال ويعني أن لا تتحول الحركة إلى ريشة في مهب رياح
النزعة الفردية والشهوات والمصالح والطموحات الشخصية او الارتباطات
الاقليمية والدولية، وأن لا تضحي حبة ملح في محيط مليء بالتيارات
والخطوط السياسية، حتى لا تستقطبها القوة، وتستهويها مظاهر السلطة
والزعامة.
4- السلام ونبذ العنف، حينما يؤمن الإنسان بالله سبحانه وتعالى،
ويجعل كل حركاته وسكناته بتوجيه الهي، رباني، حينذاك تغمره حالة الرضا
والأمن والاطمئنان، وفي هذه الحالة يعيش المؤمن سلاماً مع الذات
والضمير، وسلاماً مع العلم والعقل والمنطق، وسلاماً مع الناس وبني
البشر، وسلاماً مع الوجود كله ومع كل موجود، وبالإمكان تحقيق قيمة
السلام في الحركة الإسلامية لتكون داعية للتغير بدون السلاح حتى ان
جوبهت بذلك فنبذ العنف والتمسك بالسلمية الطريق الضامن لاستمراها
وتأكيد نجاحها.
5- الاكتفاء الذاتي وعدم مد اليد للآخرين، وذلك عبر الاهتمام
بمقومات الاكتفاء الذاتي، ورعايتها وتنميتها في المجتمع والأمة.. والذي
لا يبدأ ضخماً واسعاً عميقاً، وإنما هو كالنبات ينمو رويداً رويداً،
لذلك فإن النواة الأولى لعملية الاكتفاء الذاتي، هي توفر الإرادة
السياسية ووجود مشروع وطني واضح المعالم.
6- منهج الحكم الإسلامي، فليس الحكم ثيوقراطياً أو استبدادياً،
وإنما يعتمد على قاعدة مهمة وهي المشاركة في اتخاذ القرار وبناء البلد،
فالجميع اخوة فيه على مبدأ امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه
السلام) (الناس صنفان أخ لك في الدين او نظير لك في الخلق) حيث يمكن مد
الجسور مع الجميع بلا استثناء.
وعندما نركز هنا على الحركات الاسلامية فهذا لا يعني الغاء دور باقي
الحركات الليبرالية او المدنية فدورها كان مهما في التغيير وواضحا، غير
ان طبيعة الشعوب العربي طبيعة اسلامية عموما وشعار الدين له اصداءه
الواسعة وعندما يسير باتجاه معين فانه يطغى على باقي الشعارات ولذلك
كان لزاما ان نرى ان التصحيح يبدا من حيث بدأ الخطأ.
اذن فالتغيير المنشود لابد ان يكون تغييرا خالصا للشعوب لا من اجل
اشخاص وحركات او بلدان مجاورة او اقليمية او ضمن مخطط دولي، وعلى
الحركات والاحزاب المتصدية لهذا التغيير ان تعي خطورة الوضع القائم وان
لا تتصرف بطريقة تجعل الشعوب تترحم على ايام الدكتاتورية، وتكون بذلك
قد خسرت رصيدها التاريخي والشعبي الى غير رجعة.
* مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث
http://shrsc.com |