الحكم الرشيد من واقع الاسلام

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: هنالك مواصفات ومقاييس خاصة يلتزم بها البعض لترشيد وتقويم نظام الحكم في سبيل تحقيق الهدف المنشود بإيجاد علاقة سوّية ومثمرة بين الحاكم والشعب. فمن حق المفكرين الغربيين ابتكار أنماط ومقاييس لنظام الحكم، تناسب الطبيعة الاجتماعية والخلفية الثقافية الحضارية لهذا الشعب الغربي أو ذاك.. لذا كان "العقد الاجتماعي"، الذي بلوره مفكرون من أمثال "جان لوك" و "جان جاك روسو" و"توماس هوبز"، وغيرهم، ليكون قاعدة تشيد عليها أنظمة الحكم في الغرب. لكن؛ ماذا عن الشرق، والعالم الإسلامي..؟ فهل يجب أن نعرف العلاقة الصحيحة بين المجتمع والحاكم، من خلال "العقد الاجتماعي" السائد في الغرب؟ أم نقبل بالنموذج الديكتاتوري المستبد الذي تولته الأنظمة السياسية في البلاد الاسلامية الى ما قبل عهد الاستعمار، مثل النمط العثماني، وما سبقه من تجارب سيئة ومريرة؟ أم هناك طريق ثالث ونموذج أمثل وأحسن؟

من صميم العقل والحكمة أن يلجأ الباحث عن الحقيقة في نظام الحكم الرشيد، الى السيرة المطهرة للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام، حيث قدما للعالم أجمع، تجارب عملية ناجحة في الحكم، أفضت الى قيام دولة العدل والحرية والرفاهية والكرامة. وهذا ما يمكن ان نستلهمه من رؤى وافكار سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي – دام ظله- في كتابه "السياسة من واقع الإسلام". حيث يقول: "لقد كان رسول الله صلی الله عليه و آله سيداً لساسة العالم، وأكبر سياسي محنك، فهو تلميذ الله تعالى، وأستاذ جبرئيل، وسيد الأنبياء عليهم السلام، ومعلم البشرية أجمعين. وقد حيّرت سياسته العقول، وأشخصت أبصار العالمين..".

إن أول درس نستفيده من مدرسة الرسالة المحمدية، أن "السياسة" كمفهوم وتطبيق، لن تكون غريباً أبداً عن القيم الاخلاقية والمفاهيم الانسانية، بخلاف ما يدّعيه البعض من أن هكذا أمور لا تنسجم مع الشؤون السياسية، وتبرير هذا البعض أن النظام العالمي والمبادئ المتبعة لديه، لا تعرف المساواة والعدل والحرية الحقيقية، رغم أن هذا التبرير هو الذي جرّ الويلات والمعاناة الرهيبة على شعوب العالم، حيث تواجه اليوم الحروب والأوبئة والمجاعة والفقر والديون.

وبدلاً من الخوض في سلبيات وإسقاطات الغرب، من الجدير بنا تسليط الضوء على أبرز الملفات في الدولة النموذجية التي نبحث عنها، وهي الدولة التي شيدها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، وأمير المؤمنين عليه السلام، كما يبينها سماحة المرجع الشيرازي في مؤلفه القيّم، لنرى كيف أسست هذه الدولة، نظاماً سياسياً متكاملاً معترف به عالمياً، وفي الوقت نفسه تطابق مع الفطرة الانسانية، والمطالب الحقّة للشعوب. فقد كان التعامل سياسياً مع الاطراف الخارجية، في غاية النبل والسمو والذكاء، كما كان التعامل بالشكل نفسه، مع ملفات تخص الوضع الداخلي للمسلمين، من قبيل الحرية والعفو وفرص العمل وغيرها. لذا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي أن السياسة الحكيمة لرسول الله صلی الله عليه و آله، هي التي مكنته من "أن يجمع حول الإسلام أكبر عدد ممكن من البشر، وفي مدّة قصيرة أدهشت التاريخ والعالم، وأخضعت حكماء العالم، مما لا يوجد في تاريخ العالم الطويل مثيل ولا نظير لها".

العفو .. درسٌ في البناء الاجتماعي

لقد جسّد النبي صلی الله عليه و آله، قيمة العفو في الإسلام خير تجسيد، وأبلغ الرسالة للجميع، أن الإسلام جاء يريد الخير لمجتمع الجزيرة العربية، بل لشعوب العالم أجمع، وأن الإسلام ليس ديناً ينشر الكراهية والحقد والعقوبات القاسية. وإن كانت هنالك بعض الممارسات الصارمة فهي نابعة عن روح الأحكام والتعاليم التي تصب هي الأخرى في مصلحة الانسان.

في معركة "أحد" كان المسلمون في موقف خطير وصعب للغاية، بعد تمرّد بعض من ضعاف النفوس على أوامر النبي، وإخلاء ظهور المسلمين، مما مكّن المشركين من محاصرة المسلمين وبينهم كان الرسول الأكرم، وخيرة أصحابه الأبطال، فكان من اشتداد البأس إصابة النبي الأكرم بجراحات في وجهه الكريم، كما أصيب أمير المؤمنين عليه السلام، بجرح عديدة، واستشهد في تلك الأثناء حمزة، وكان يشكل رمز القوة العسكرية عند المسلمين، فتقدم بعض الصحابة إلى النبي صلی الله عليه و آله، واقترح عليه أن يدعو على المشركين ليعذبهم الله بعذاب من عنده، كما كان يعذّب الكفّار في الأمم السابقة بدعوة أنبيائهم عليهم. فأجابه: "إني لم أبعث لعاناً، ولكنـي بعثت داعياً ورحمة، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون".

وعن هذا الموقف، تحيّر الكثير من الباحثين والمؤرخين، عن أن النبي الأكرم، ليس فقط صفح عمن ألحق الأذى به، إنما أوجد له العذر عند الله تعالى، حيث ليس من السهل والهيّن عليه تعالى أن يكون رسوله الكريم والنبي الخاتم في موقف هكذا، لذا فان النبي اراد ان يستبق الرحمة والمغفرة قبل العقوبة والنقمة من السماء على المتجرئين والمتحدين لإرادة الله تعالى.

 طبعاً؛ هنالك قصص كثيرة يذكرها أصحاب السير، عن عفو النبي الأكرم مع المسيئين من المسلمين، وحتى المشركين لدى دخوله مكة فاتحاً، والسؤال الذي يجدر بنا الاجابة عنه، هو الغاية النهائية لهذا العفو..؟ اذا لاحظنا طريقة تعامل النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، وكذلك أمير المؤمنين عليه السلام، مع السلوك الدارج للمجتمع آنذاك، نعرف أن الغاية من رد الإساءة بالإحسان، أو التجاهل، هو محاولة إزالة آثار هذا السلوك والطباع والثقافة الجاهلية من نفوس الناس. واستبدالها بثقافة العفو والتسامح والتراحم. وإلا كان بالإمكان توجيه النصح والتذكير لذلك الأعرابي الذي جذبه بعنف من ردائه حتى احمّرت رقبته صلى الله عليه وآله، وهو يقول:

 يا محمد..! احمل لي على بعيري هذين من مال الله الذي عندك، فإنك لاتحمل لي من مالك ولا من مال أبيك..! فسكت النبي صلی الله عليه و آله هنيئة ثم قال صلی الله عليه و آله: المال مال الله وأنا عبده. ثم قال صلی الله عليه و آله: ويُقادّ منك يا أعرابي ما فعلت بي؟ قال: لا؟ قال صلی الله عليه و آله: ولم؟ قال: لأنك تعفو، وتصفح، ولا تكافئ بالسيئة السيئة. فضحك النبي صلی الله عليه و آله، ثم أمر أن يحمل لـه على بعير شعير وعلى ‎الآخر تمر.

هذا المشهد وغيره كثير، يعطي درساً بليغاً للانسانية جمعاء، أن هنالك منهج وقاعدة لنظام الحكم يمكن ان تحفظ كرامة وحقوق أي انسان في المجتمع مهما كان، فالهدف ليس العقاب والتأديب بالعصا والسيف والقمع والسجون الرهيبة، كما نشاهد ذلك في جميع بلادنا الاسلامية. إنما التربية والتهذيب والتأهيل، ليكون الصلاح والفلاح صفة للجميع.

لا للشعارات الفارغة.. نعم للوفاء بالعهد

من الايام الاولى لتأسيس الدولة الإسلامية علّم الرسول الأكرم صلی الله عليه و آله، المجتمع الاسلامي الأول قيمة الوفاء بالعهد، والشعور بالمسؤولية، والحذر من مغبة ارتكاب الغدر والخذلان والنكول. وهذا يُعد من أساسيات نظام الحكم الناجح والراشد الذي يرتضيه الشعب، وقبله الله تعالى.

وقد ذكر المؤرخون الكثير من القصص الرائعة في ذلك، نذكر عدداً منها:

حصل أن تواعد النبي صلی الله عليه و آله مع شخص في مكة، وكان ذلك قبل البعثة الشريفة، أن ينتظره حتى يأتي ذلك الشخص، فذهب الرجل، ونسي وعده، وترك النبي صلی الله عليه و آله يترقّبه ثلاث ليال في المكان نفسه. وبعد ثلاث جاء الرجل، ليجد النبي صلی الله عليه و آله، لا يزال في انتظاره بمكانه.

وذكروا: أنّ وفداً جاء من قبل "النجاشي" إلى رسول الله صلی الله عليه و آله، فأضافهم، وأكرمهم، واحترمهم. وكان صلی الله عليه و آله، يُحضر لهم بعض الحاجات بنفسه الكريمة. فقال لـه بعض الأصحاب: نحن نكفيك ذلك. فقال صلی الله عليه و آله: إنّهم كانوا لأصحابنا مكرمين، وإني أحب أن أكافئهم..

ولعل أروع صورة للوفاء والبر، مما من شأنه ان يكون درساً بليغاً لجميع الحكام والطامحين الى الحكم وإيجاد العلاقة الصحيحة مع شعوبهم، ما سجله النبي صلى الله عليه وآله مع الأنصار بعد أن فتح الله تعالى لرسوله الكريم صلی الله عليه وآله مكّة المكرّمة، فلم يبق فيها، رغم أنها مدينته ومسقط رأسه، وقد قضى فيها حوالي خمسين سنة من عمره الشريف، وهي تضم الكعبة المشرفة، ومحل ذكرياته، وأسرته وعشيرته، لأنه قضى اكثر من عقد من الزمن مع الأنصار في المدينة، فلم يشأ أن يتركهم ليعودوا وحدهم إلى المدينة، كما لو أنه استنفذ أغراضه منهم، وانتفت الحاجة اليهم. وما أكثر ما نلاحظ هذا الموقف في السياسيين في بلادنا – مع بالغ الأسف-.

وبعد استباب الأمر له صلى الله عليه وآله في مكة، أمّر على مكّة بعض أصحابه، وقفل راجعاً إلى المدينة بصحبة الأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة، وآووه ونصروه، وبقي فيها حتى توفاه الله تعالى والتحق بالرفيق الأعلى، ولم يسكن في مكّة المكرّمة، ولم يبت فيها ليلة واحدة.

الحرية الحقيقية عند أمير المؤمنين (ع)

وعلى خطى رسول الله ومعلّم الإنسانية، مضى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، في منهج الرسالة، لاسيما ما يتعلق بقيمة الحرية، فقد قدم عليه السلام، النموذج المشرق والعذب للحرية التي يجد فيها الانسان انسانيته، فوجد الناس في عصر الإمام عليه السلام، الحرية الواسعة في ظل النظام الإسلامي الحقيقي.

الى ذلك يشير سماحة المرجع الشيرازي – دام ظله- في مؤلفه: بان "هذه الحرية الإسلامية التي فسح لها الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، المجال، كانت أشبه شيء بالحريات التي منحها رسول الله صلی الله عليه و آله، للناس في صدر الإسلام، فكما كان في المدينة المنورة وحواليها يعيش المسلمون، والمشركون واليهود والنصارى والمنافقون، جنباً الى جنب، متقاربةً دورهم وأسواقهم، ويتعاملون ويمارسون حرّياتهم المتبادلة في ظلّ الإسلام العظيم، واستمر ذلك حتى وفاته صلى الله عليه وآله، كانت هذه الشرائح الاجتماعية تعيش في ظلّ الإسلام الحقيقي – عهد أمير المؤمنين- عيشة محترمة هانئة، وفي عزّة ورفاه، وجاء عنه عليه السلام، في عهده الى مالك الأشتر: فإنهم ــ أي الناس ــ صنفان إمّا أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق".

أما عن الغاية السامية من هذه السياسة السامية المستوحاة من تعاليم السماء، فيوضح لنا سماحة المرجع – دام ظله- في تعليقه على الحديث الأخير بأن "هذه الكلمة الفذّة العظيمة الخالدة التي تفسح المجال لاحترام البشر بما هو بشر، لكي ينظر إليه الناس من هذا المنظار فتجمعهم جميعاً كلمة العدل وحق الإنسانية".

فاذا كان أمير المؤمنين عليه السلام، يفسح المجال للمعارضة السياسية، في تعامله مع أصحاب الخوارج، ثم أصحاب الجمل، وغيرهم ممن واصلوا التجديف والطعن والحرب النفسية في عاصمة دولة الإمام عليه السلام، فانما أراد به أن تكريس ثقافة المعارضة الحقيقية والسليمة، لما فيه خير العباد والبلاد، وليست الثقافة العدوانية والتكفيرية ، كما كان يروج لذلك أعداؤه، وفي مقدمتهم الأمويون. ويكفي أن نعرف أنه عليه السلام، لم يمحو أسماء الخوارج من ديوان العطاء، رغم أنهم رفعوا السيف بوجهه في معركة "النهروان"، كما لم يسمح لأصحابه من أن يلمسوا شيئاً من تركة أصحاب الجمل في تلك المعركة الطاحنة التي ذهب ضحيتها حوالي (20) ألف انسان مسلم، على أنها لا تنطبق عليها صفة الغنائم، كما كان يتصور أصحابه.

ولنلقي نظرة على فقرة أخرى في قانون الحرية عند أمير المؤمنين عليه السلام، وهي الحرية الفردية، التي تُعد من أكثر الامور جدلاً في الانظمة السياسية في العالم الاسلامي، فقد حصل أن كان الإمام جالساً مع أصحابه وإذا بإمرأة تمر، فاجتذبت معها عيون الجالسين، فما كان من الإمام إلا ان أمرهم بالانصراف الى بيوتهم وأهليهم، وهو يقول: إن لديهنّ ما في تلك المرأة.. – مضمون الحديث-.

إن الإمام علي عليه السلام، لم يدع هذه الحركة البسيطة والغريزية من أن تمر بسلام، وربما يتحدث الكثير عن حركات وممارسات أكبر وأشد، بداعي الحرية الفردية التي تنادي بها المدرسية الليبرالية في العالم. لكن الإمام عليه السلام، يتحدث عن مصلحة الفرد، قبل أن يتحدث عن حريته، فإطلاق العنان للميول الجنسية لدى الرجال والنساء، لن يحقق المصداقية للحرية في المجتمع، بقدر ما يتحول الى معول هدم لكيان المجتمع والأمة بكاملها.

من هنا؛ يقول سماحة المرجع الشيرازي – دام ظله- "إنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، هو واضع الأسس العميقة للحرية، بعد النبي صلی الله عليه و آله، بأقواله، ومنفذ ثابت للحرية بأعماله وممارساته في أوساط الأمّة". وفي مكان آخر يشير سماحته الى أن "أمير المؤمنين عليه السلام، كان هو المثل الآخر الصحيح الذي عكس سياسة الإسلام بكل دقّة وروعة واستيعاب، بعد رسول الله صلی الله عليه و آله.. لقد كانت سياسة أمير المؤمنين عليه السلام، العملية خير درس للقادة وللمسلمين في تطبيق حياتهم العملية السياسية عليها، كما كان ذلك بالنسبة لرسول الله صلی الله عليه و آله فهو النبي وعلي عليه السلام الوصي..".

ومن أجل ان تتحول تلكم التجارب المضيئة والغنية جداً، الى برامج عملية للتطبيق على أرض الواقع، يوجهنا سماحة المرجع الشيرازي – دام ظله- الى "التلاحم والتواصل الفكري المعمق بين الحوزة العلمية، والجامعة، لوضع صيغة صالحة وغنية من أجل التطبيق العملي في العصر الحاضر، للحكومة الإسلامية الإلهيّة الحقّة".

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 13/حزيران/2013 - 3/شعبان/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م