المراكز الاولى في التدين.. وفي الفساد ايضا

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: يسود عالمنا المعاصر هذا التسابق المحموم لتصدر الواجهات في جميع نواحي الحياة، الاعلامية منها والاقتصادية والسياسية والثقافية.. وليست موسوعة غينيس ببعيدة عن تمثيلها لكثير من هذه الترتيبات للمراكز، ففيها الاكبر والاطول والاعلى والاضخم والاسرع الى اخر التوصيفات اللغوية الدالة على التفضيل واحتلال المراكز المتقدمة.

ثم مجال اخر دخلته تلك المفاضلات، وهو مايتعلق منها بالثقافة، بجميع وجوه انتاجها المقروء والمرئي والمسموع، فهناك الكتب الاكثر مبيعا، والافلام الاكثر ايرادا، والاغاني الاكثر سماعا، والمسرحيات الاكثر مشاهدة، الى اخر ذلك ايضا من تفضيلات.

احيانا لاتكون تلك الافضلية في محلها، وهو امر طبيعي، لاختلاف الاراء والامزجة والتوجهات لدى المتلقين،فما يعد الاول بالنسبة لجمهور معين قد لايعد كذلك بالنسبة لجمهور اخر، وقس على ذلك جميع التفضيلات.

واذا توجهنا الى نوافذ اخرى اكثر رصانة من موسوعة غينيس ومن مفاضلات الانتاج الثقافي، نحد انها تنشغل بامور اكثر اهمية للدول والمجتمعات وللانسان عموما لانها تؤثر على معيشته وبيئته ونواحي حياته الاخرى.

من ذلك مثلا، المنظمات الحقوقية العالمية التي تنشر تقاريرها حول الافضل والاسوأ بين دول العالم في مجالات حقوق الانسان، بما تحتوي عليه كلمة الحقوق من تفصيلات شتى، ومنظمات مراقبة التسلح حول اكثر الدول في العالم انتاجا او استخداما للاسلحة، ومنظمات البيئة وتقاريرها حول اكثر الدول تلوثا واقلها، ومنظمات السلام حول اكثر الدول امنا من العنف واقلها، ومنظمات الشفافية حول اكثر الدول فسادا واقلها، الى غير ذلك من منظمات وجمعيات تصدر تقاريرها بصورة دورية مستمرة.

اخردراسة نشرت من قبل مؤسسة (غالوب) الامريكية كانت حول التدين لدى المجتمعات الانسانية التي تتوزع على قارات العالم المعروفة.. اجريت الدراسة في العام 2012 وبينت في نتائجها أن (العراق) يأتي بالمرتبة السابعة عالميا، في نسبة انتشار التدين لديه بلغت88% من سكانه بعد غانا ونيجيريا وأرمينيا وفيدجي ومقدونيا ورومانيا، بينما تقاسم مع تونس واذربيجان وماليزيا وغانا وافغانستان وفيتنام المرتبة الاخيرة عالميا بالنسبة للدول الملحدة، بنسبة صفر بالمئة.

ومما اظهرته الدراسة ايضا، ان التدين ينتشر في المناطق الفقيرة والعنيفة، حيث أن معدل دخل الفرد في الغالبية العظمى من الدول (المتدينة) أقل بكثير من أقرانهم في الدول التي تقل فيها نسبة التدين.

واشارت الدراسة إلى أن كل المناطق الساخنة عالميا تحتوي على نسب تدين أكثر من 80 بالمئة، وهي باكستان بأربعة وثمانين بالمئة من المتدينين، وافغانستان بثلاثة وثمانين بالمئة، والعراق بثمانية وثمانين بالمئة، كما تذكر تلك الدراسة أن 86 بالمئة من غير المتعلمين هم متدينون.. هل ان تلك المرتبة المتقدمة التي احتلها العراق تدعو للفرح او الحزن؟

لانستبق الاجابة على ذلك، لنعرف اولا ما المقصود بالتدين كمفهوم عام، وليس كمفهوم خاص يتبناه الكاتب.. لا يخلو اي دين من طقوس وشعائر وممارسات عبادية يمارسها معتنقو هذا الدين بسوادهم الاعظم، تلك الطقوس والشعائر والممارسات هي محتوى او معنى او دلالات التدين.. ويلزم هنا التفريق بين (الديّن والمتدين) فالاول يتشابه مع غيره من جميع الديانات، والثاني يختلف عنه تبعا لاختلاف تلك الطقوس والشعائر والممارسات.

وثمة فارق اخر، وهو ان (الديّن) مؤمن بعقيدة دينه الذي يعتنقه، وبجوهر تلك العقيدة في العمق منها، اما (المتدين) فهو يمارس مايرتبط بهذا الدين ويتمسك بظاهره بعيدا عن جوهره، لان ذلك اسهل عليه من الايمان بالمعتقدات الحقة والصحيحة لدينه..لانها كثيرا ماتفرض عليه التزاما صارما بجملة من القيم والقواعد الاخلاقية التي تنظم علاقته بالاخرين قبل علاقته بمعبوده.. كل (ديّن) هو بالضرورة (متدين) والعكس ليس بصحيح.

لا ينفصل الدين الذي هو سمو وارتقاء بالعقول، عن التدين الذي يفترض به ان يسمو بسلوكنا وافعالنا..

اعود الى تلك الدراسة، واشير الى انها حددت ان نسبة التدين في بلداننا العربية قد بلغت 77 بالمائة من السكان، وهي نسبة مرتفعة جدا، وتعني ان الكثيرين من سكان تلك البلدان يمارسون طقوس وشعائر دينهم بصور واشكال متنوعة.

لكن تقارير اخرى تكشف عن حجم التناقض والخلل الحاصل بين نسبة التدين في بلداننا العربية وبين حجم الامراض الاجتماعية والاخلاقية التي تحيط بنا.. فعلى سبيل المثال:

تشير العديد من الدراسات والأبحاث إلى ارتفاع منسوب التدين لدى المغاربة، من بينها تقرير الحالة الدينية الذي أصدره المركز المغربي للدراسات والأبحاث المعاصرة ، بالمقابل يتوقف الباحثون عند مفارقة أساسية، فرغم أن الممارسات المتعلقة بالتدين في المغرب تسجل ارتفاعا ملحوظا إلا أن هناك توتر على مستوى التجلي، ذلك أن الزيادة المسجلة على مستوى الممارسة الدينية والاعتقاد لا يمكن أن يفهم منها أنها تؤدي بالضرورة إلى انسجام على مستوى الأخلاق والقيم. ومن تجليات ارتفاع مستوى التوتر على مستوى السلوك، هناك ارتفاع مستوى استهلاك الخمور والمخدرات وانتشار بعض الانحرافات الاجتماعية والأخلاقية.

مثل اخر وهي مصر التي تنتشر فيها مظاهر التدين في كل مكان، لدرجة جعلت معهد جالوب الأمريكى، في احدى دراساته السابقة، يعتبر المصريين أكثر الشعوب تدينا على وجه الأرض.. وفى نفس الوقت، فإن مصر تحتل مركزا متقدما فى الفساد والرشوة والتحرش الجنسى والغش والنصب والتزوير.

ماذا عن العراق صاحب المرتبة السابعة في احدث دراسة عن الحالة الدينية في العالم، واعيد طرح السؤال السابق، هل ان تلك المرتبة المتقدمة تدعو للفرح او الحزن؟

في تقرير اصدرته منظمة الشفافية العالمية، وهي المتظمة التي تختص بمراقبة مستويات الفساد المالي في دول العالم، احتل العراق المتدين المرتبة الرابعة في ترتيب الدول الفاسدة.

كيف يستقيم الفساد مع التدين، ومعلوم ان نزاهة الضمير والقلب لايمكن لها ان تترك مجالا لدخول الفساد اليه، وان الفساد لايمكن ان يتنشر ويسود ويصبح ثقافة اجتماعية تحوز على القبول بوجود تلك الضمائر والقلوب.

اعتقد انها معادلة صارخة بتناقضها، ان تكون متدينا وتكون مرتشيا وغشاشا وكاذبا ومنافقا في نفس الوقت.. لكنها معادلة مفهومة في ضوء انفصال الايمان الصادق والعقيدة الحقة عن السلوك، وهي معادلة مفهومة في ضوء انفصال التدين القشري عن الاخلاق والقيم الحميدة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 12/حزيران/2013 - 2/شعبان/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م