ان اليقينيات التي حافظت على فكرة الوحدة الاوربية وعلى التماسك
الاجتماعي خلال العقود السابقة بدأت بالانهيار، وان الهياكل المالية
التي شكلت أسس اوربا القديمة نراها تتشوه وتتحطم تدريجياً. فما القادم
اذاً ؟
ماذا يحدث لأوربا؟ متى وكيف اختُزل الحلم بقارة موحدة يسودها السلام
والانجاز الانساني الى سؤال عن انقاذ العملة؟ هذه الاسئلة وأسئلة اخرى
تتعلق بأصل المأزق الاوربي الحالي عرضتها مجلة نيوستيتمان البريطانية
في عددها للاسبوع الماضي 19 مايو 2013 في مقال للكاتب مارك مازور(1).
سنعرض بالتفصيل لأهم ما ورد في المقال.
يذكر الكاتب ان المشاكل الاوربية الحالية تعود في جذورها الى العام
1909 او ما قبله .في ذلك العام ذكر رجل السلام (نورمان انجل) بان
التعاون الاقتصادي المتبادل بين الدول جعل الحروب بينها عقيمة و غير
عقلانية، فالحرب ذاتها كانت "وهماً كبيراً". وبعد سنوات قليلة بدت
اراءه أقل اقناعاً لكن (انجل) كان مقتنعا حتى بعد الحرب العالمية بان
الاحداث اثبتت صوابيته وان التاريخ هو شيء مضحك، ذلك لأنه بعد الجولة
الثانية من إراقة الدماء، وافق في النهاية القادة الاوربيون على فكرته
بان احتلال الاراضي والهواجس القديمة عن الاقاليم والمستعمرات والحدود
لم تكن في الواقع ضرورية لتحقيق الازدهار، ومن الافضل طرحها جانبا لأجل
السلام. الوصول متأخراً خير من عدم الوصول. لكن عمل (انجل) يمكن قرائته
بطريقة أقل تفاؤلاً. جدالهُ ارتكز على الادّعاء بان المالية وانتشار
الائتمان استدعيا السلام والاستقرار، الانتصارات العسكرية لم تعد تضمن
الوصول الى اشكال الثروة المُتحصلة بوسائل الاقتصاد الحديث.
هو ربما يشير ايضا الى خاصية هامة لأزمة اليورو المستمرة: وهي ان
التكامل الاوربي والوحدة النقدية المنبثقان عن التحول في التمويل
العالمي سهّلا عملية تحويل الثروة وهي العملية التي لم يعد يمتلك
ازائها المواطنون او الدول اية حماية واضحة. اوربا (انجل) للسلام صنعت
الأمان للنقود ولأجلها، انها اصبحت عالماً تهيمن عليه المالية، فيه
يتصدع التكافل الاجتماعي وتتراجع العدالة.
كيف وصلت اوربا الى هنا وهل كان يتحتم عليها سلوك مثل هذا الطريق؟
كيف وجدت اوربا نفسها تعيش ازمة فيها تسيطر البنوك والمالية على عناوين
الصحف كمنقذين وآثمين على حد سواء؟عالم قام فيه صندوق النقد الدولي
والبنك المركزي الاوربي بوضع المؤسسات العالمية الاخرى في الظل، عالم
فيه الرواتب في مدينة لندن تتجاوز أضعاف متوسط الاجور؟
والأخطر من ذلك، عالم فيه تُستخدم النقود اكثر من اي وقت مضى لصنع
النقود وليس لأي شيء آخر. النقود اصبحت تجول حول العالم بسرعة كبيرة
مترافقة بنتائج اكثر اضطراباً، وان ايمان(انجل) بترابط الائتمان
والاستقرار ربما اصبح الآن اكثر معقوليةً. نحن في عصر اصبحت فيه ثروة
الطبقة الوسطى رهينة لتقلبات سوق الاسهم، وان التعقيد الشديد والغموض
الكبير في الاجراءات المنتجة كومبيوترياً المرتكزة على تكهنات للاحداث
قادتنا بعيداً عن رؤية انجل لعالم رأسمالي رشيد.
كان انجل يمتلك ثقة كبيرة بالدور السياسي للمواطن وبقوة النظام
الديمقراطي. عملية تمويل الاقتصاد العالمي financialisation جلبت معها
معظم الازمات الحادة للديمقراطية منذ الحرب العالمية الثانية. حينما
تدفقت النقود الهائلة الى القارة، شعر الناخبون في الشمال الدائن انهم
مُتجاهلون عندما موّل سياسيوهم الجنوب المدين، بينما شعر الناخبون هناك
باليأس تجاه صندوق النقد الدولي والبنك المركزي الاوربي. كلا المؤسستين
أضعفتا شرعية السياسيين والسياسة ذاتها.
قبل 200 سنة نشأ تصور أوربا لأول مرة وبموجبه ارتبط الاستقرار
والحضارة والسلام بانتصار رأس المال. وفي هذه اللحظة بالذات برز حقا
نقاش (انجل)، حينما نظر مفكرون مثل بنيامين كونستانت وجرمي بنهام و
هنري دي سانت سيمون الى النظام القديم الصانع للحروب والى الثورات
كأعراض لعصر قديم اكثر تعطشاً للدماء، وتنبأوا بمجيء عالم جديد جريء
يديره التجار والمحامون والمهندسون. وفي نفس العصر، اصبحت مدينة لندن
مركزاً عالمياً بلا منازع للصيرفة الدولية. كارل ماركس حلل القوة
الجديدة لرأس المال، ووصفها بانها تذيب التقاليد وتوحد العالم عبر
وشائج نقدية. لكنه ارتضى التفاؤل السائد بان التاريخ يسير في الاتجاه
الصحيح، هو تكهّن بالنصر النهائي للبروليتاليريا لتجسد الامل في التحرر
الانساني.
كل هؤلاء المفكرين كانوا اوربيين، وبالنسبة لهم – سواء كانوا
ليبراليين او علماء تكنوقراط او شيوعيين – كانت اوربا مختبراً لذلك
الشكل من الانسجام الاجتماعي الذي اعتبروه اكثر ملائمة للعصر الحديث.
واثناء السباق الى الحرب العالمية الاولى، اصبحت الاهمية المتصاعدة
للبنوك والمضاربين تجذب انتباها واسعا خاصة من جانب الراديكاليين
ونشطاء السلام. ويُعتبر (J A Hobson)، (هوبسون) اول من استخدم مصطلح
"الامبريالية"ليصف الطريقة التي سيطر بها المستغلون مثل (سيسل رود) على
السياسة الخارجية البريطانية وقادوا البلاد الى (حرب البوير) (2).
الاقتصادي الماركسي الاسترالي المولد (رودولف هلفريدنك) في كتابه رأس
مال المالية الذي نُشر بعد عام 1909 وصف فيه القوة المتزايدة للبنوك.
هو رأى فيها سببا جديداً للحرب، وبالتالي هي معجّل آخر للثورة
العالمية.
وفق المنظور السائد اليوم، فان الملفت في هذه التحليلات هو ايمانها
الراسخ بان المالية والماليين ربما يجنون ربحا خاصا على حساب الصالح
العام ولكن هناك ردود فعل محلية ودولية جماعية لعملهم هذا، وهم سوف لن
يفلتوا من العقاب الى الابد.
رأى (هلفريدنك)، كما (ماركس)، ان شخصية رأس المال الدولي ستثبت في
النهاية هزيمتها الذاتية. هو رحّب بالوضع الاحتكاري للمالية لأنها سوف
تسهّل المهمة النهائية للعمال وتساعدهم في السيطرة الكاملة على
الاقتصاد.
ان الحرب العالمية الاولى عمّقت الانتقادات ضد البنوك في عدة اماكن
من العالم لتسببها بالتوترات التي سبقت الحرب والتي مهدت لحرب جديدة
اخرى. كان المضاربون سعداء بخلق الصراعات والانتفاع منها حاصدين
المكافئات بينما الناس العاديين هم من يدفع الثمن.
وفي الأعمال الروائية لرعب الحروب الداخلية في مسرحيات (ايرك
امبلر)، مثلا، نجد رموز لوجودات معتمة مثل مؤسسة ايروسان للائتمان.احدى
التعليقات التي وردت فيها ان" قوة الشركات وليس مشاورات الدول هي منْ
يقرر مصير الامم". ومن هذه الزاوية فان استبعاد تصور الحرب الشاملة في
اوربا لا يساعد بذاته في تخفيف الغضب العام ضد الاستغلاليين، لأنه
سيزيل احد الاسباب التاريخية الرئيسية للتشكيك بهم. المصرفيون ربما في
اذهانهم شيئا اليوم، ولكن المطلوب تفسيره هو لماذا لم يكن الامر اسوأ
مما هو عليه، ولماذا كانت الارتدادات قليلة ازاء الطريقة التي اداروا
بها اعمالهم مقارنة بالثلاثينات. احد الاسباب، بالتأكيد، هو ان القلق
بشأن الجشعين الذي استمر في التاريخ الاوربي لمعظم القرن التاسع عشر
والنصف الاول من القرن العشرين قد تلاشى. فمن يتحدث عن الجشعين اليوم؟
كان انهيار وول ستريت عام 1929 هو الذي فضح المالية لجيل او اكثر.
الانهيار اللاحق لمستوى الذهب في انحاء العالم جعل العولمة ترتد الى
الخلف. سيطرة رأس المال اصبحت حقيقة غير ملفتة للناس. في بلد بعد آخر،
سلبت الدولة من القطاع الخاص عمل قرارات الاستثمار الكبرى وتنظيم
العلاقات بين العمال وارباب العمل. وفي نفس الوقت، صعود الاتحاد
السوفيتي مثّل تحديا كبيرا جديدا. السياسيون الاوربيون الساعون لإحداث
الاستقرار في الرأسمالية استجابوا على اكثر من صعيد، مقسمين الاراضي في
شرق اوربا الى قطع صغيرة وتوزيعها على الفلاحين، وتأسيس البنوك
المركزية، وصياغة التعاون الدولي من خلال هيئات مثل بنك التسويات
الدولية. كان خطر البلشفية هو الذي جلب الرأسمالية المنظمة الى اوربا،
وجلب ايضا تصورات جديدة عن الدولة كضامن للرفاهية الجماعية.
وهكذا فان "النموذج الاوربي" الذي يجمع بين الحرية والتضامن
الاجتماعي، الذي اطلق عليه المعلقون مثل (توني جت) و (جرمي رفكن) قبل
عقد او اكثر بالبديل الحضاري للرأسمالية الامريكية، انما برز بفعل
الخوف من الشيوعية والوجود المخيف للاتحاد السوفيتي على حدود اوربا.
وبما ان الاولوية كانت لتجنب الثورة الشيوعية، فان السياسيين كانوا
يرغبون باعطاء حصة متزايدة من الدخل القومي للعمال، كابحين تدفق رأس
المال المسبب لعدم الاستقرار، مستخدمين الدولة كضامن للسلام الاجتماعي،
ومساوين في مجال الثروة والفرص عبر توسيع الاساس الضريبي و دعم
الرفاهية. ولكن ماذا سيحدث لو لم يخش احد من الشيوعية وجرى الاعتماد
بشكل مطلق على الاستقرار الناجم عن طريق الديمقراطية البرلمانية؟
اليوم ومع بقاء العولمة قوية وان كانت بايديولوجيا هزيلة، من السهل
نسيان النجاح الاستثنائي للنموذج الاوربي. وفي الثلاثين سنة التي أعقبت
عام 1945 ادّت نسبة النمو العالية وغير المسبوقة الى دفع مستحقات
التوسع في الدولة كمجهز للخدمات الاجتماعية وازاحت من الذاكرة البطالة
الواسعة. الامريكيون من جهتهم قدموا المساعدة، موفرين ضمانات الأمن
لاوربا الغربية وخلقوا الحوافز المتواضعة للتعاون الاقليمي.
ما نشأ محليا كان شكلا من الاقتصاد انطوى على حجم كبير من
الاستثمارات الموجهة من الدولة خلف حواجز كمركية وسيطرة على الصرف مع
تحرير تدريجي للتجارة. في السنوات المبكرة للسوق المشتركة أظهرت
"اوربا" ضرورة العمل للحفاظ على شرعية ذلك الشكل من الجماعة السياسية
التي فضل معظم الاوربيين صراحة العيش فيه، اي الدولة القومية. ان ما
اطلق عليه المؤرخ (الن ميلورد) بـ "انقاذ الدولة القومية الاوربية" لما
بعد الحرب كان في اسلوبه نصراً اوربياً، كذلك كان الانبعاث القومي
والتكامل الدولي سارا يد بيد، تماما كما ذكر قوميو القرن التاسع عشر
امثال (مازيني) وتأكيدهم بوجوب ذلك.
هذا الشكل المنظم عاليا من الرأسمالية أكد على التنظيم الاقتصادي
وخصص دوراً ثانوياً للمالية. مع ذلك، وقبل وقت طويل من انهيار
الشيوعية، جرى استطلاع كلي لإمكانية ذهاب اوربا في اتجاه آخر. الحرب
العالمية الثانية طرحت السؤال عن الغاية من اوربا، وفي بريطانيا استكشف
عدد من المفكرين المنفيين وبعمق القضية الاقتصادية. ومن اكسفورد، ادرك
الاقتصادي البولندي ميشال كاليكي المضامين السياسية للاستخدام الكامل،
متوقعاً من ارباب العمل ان يمارسوا ان اجلا ام عاجلا ضغطا على
السياسيين لكبح السياسات الكنزية بسبب تأثيرها السلبي على الارباح. اما
الليبرالي (فردريك هايك) فكانت له رؤية مختلفة وذلك بتأييده فكرة السوق
الاوربية الحرة ورفضه فكرة الفيدرالية القارية ذات السلطات العابرة
للحدود وتشكيكه بامكانية حصول الفكرة على قبول سياسي من الدول الاعضاء.
اما الاقتصادي الهنغاري الكبير (بوليماث كارل بولناي) فقد اختلف
جذريا في رؤيته عن (هايك) لكنه ايضا ذكّرالقراء بان العودة الى حلم
السوق المنظم ذاتيا كان دائما خياراً ممكنا في عملية التخطيط الاقتصادي
المفضل لديه شخصيا، وهو اتجاه غير طبيعي ايضا وكلاهما له انصاره. في
مقالته التنبؤية عام 1945 "رأسمالية عالمية ام تخطيط محلي"،
جادل(بولناي) بان اوربا عندما خرجت من الحرب كان عليها ان تختار بين
النموذج الامريكي في الاقتصاد المتحرر المنفتح عالميا والنموذج
السوفيتي المرتكز على التخطيط والحدود المحمية وتدخّل ثقيل للدولة. هو
كان واعيا جدا ربما اكثر من سابقيه بان خيار اوربا للراسمالية سيكون من
الآن فصاعداً مشروطاً بشكل كبير بالاعتبارات الدولية.
ومع ان تلك التنبؤات اخذت وقتاً، لكنها في السبعينات اثبتت وبطرق
مختلفة صحتها. الهجوم المضاد للشركات الذي تنبأ به (كاليكي) جاء
متحفزاً بافكار هايك. وعلى المستوى الدولي، كان التحول الحاسم هو
التغيير في التفكير الامريكي من الكنزية العالمية الى المزيد من
المالية المرتكزة على السياسة الاقتصادية الخارجية. تخلّي الدولار عن
الذهب عام 1971 قاد الى إنهاء الدور الامريكي المركزي في المالية
الدولية، والى التصدع في التحالف الما وراء الاطلسي والعودة الى المزيد
من السياسات المحلية في التجزئة والحكم الذاتي. وفي نهاية العقد، قادت
الولايات المتحدة حملة ضد التضخم للابقاء على السيادة العالمية للدولار
وجلب اوربا الغربية الى الخط. وفي عام 1976 كانت ازمة الاسترليني
وتدخّل صندوق النقد الدولي يمثّلان نقطة التحول، ليتبع ذلك مارغريت
تاتشر، ثم الرئيس الفرنسي فرانكوس ماترند والاشتراكيين الفرنسيين.
ان ما برز كان هجوما متزامنا على قوة العمال المنظمة في الشمال
المتطور- وهو الهجوم الذي لم تتعاف منه ابداً- والشيء الآخر الذي لم
يتنبأ بنتائجه اي شخص هو إعادة الهيكلة الواسعة للبنوك والمؤسسات
المالية التي اطلقت العنان لمقدرتها في صنع الارباح في كل انحاء
العالم. ومع تراجع التصنيع، اصبح رأس المال الغاشم اكثر ربحيةً مصحوباً
بقفزات كبيرة في رواتب القطاع المالي.
هذه العملية من التمويل الحديث نشأت في الاصل في الولايات المتحدة
لكنها كانت مرتبطة بالوكالات الدولية. في الحقيقة، انها لا يمكن فهمها
الا كحملة ساعدت في بروز تحالفات قوية بين البنوك الكبرى مثل الخزانة
الامريكية وصندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
انها تمثل ميثاق بين ايديولوجية السوق الحرة لوول ستريت ورغبة اوربا
الغربية بقواعد ولوائح، فانتشرت الافكار الجديدة – في تحرير رأس المال
وإعادة تنظيم المصارف وقطاع الائتمان والخصخصة الداخلية للشركات
المملوكة للدولة – من قارة الى اخرى. كانت هناك ايضا سلسلة من ازمات
الديون جاءت كامراض لهذا العالم المالي الجديد، ووفرت الوسائل المواتية
لصندوق النقد الدولي لنشر العقيدة الليبرالية الجديدة.
وفي ظل رئاسة الاشتراكي الفرنسي (جاكس ديلور) للّجنة الاوربية،
وافقت اوربا على تعزيز التكامل عبر النظام النقدي استجابة للتقلبات في
سعر الصرف في اعوام السبعينات والثمانينات من القرن الماضي.ولكن برزت
هناك مشكلتان. الاولى كان وجود القواعد الجامدة التي اُدخلت مع اليورو
والتي ازاحت معظم السلطات التقديرية المتبقية لحكومات الدول الاعضاء
منذ تبنّي العملة. المشكلة الاخرى كانت الحجم الضئيل لميزانية الاتحاد
الاوربي جعل من المستحيل انجاز البند الرئيسي الآخر من رؤية (ديلور)
التحديثية –الآلية الحقيقية لتمويل التضامن الاجتماعي عبر الاتحاد
الاوربي.
واليوم تتجسد بوضوح نتائج التمويل الحديث داخل اوربا وخارجها. انظر
في نسب متوسط النمو خلال السنوات الثلاثين المجيدة(3) وخلال الثلاثين
سنة الماضية: المقارنة تعكس دلالات واقعية. المصارف وصناديق الاحتياط
ربما زادت من ربحيتها ولكن اداء الاقتصاد القومي والقاري شهد تراجعاً
حاداً . احد اسباب ذلك هو ان العولمة جعلت العالم اكثر ميلاً للكوارث،
وليس اقل من ذلك هو الحنين الى الدكتاتور (انتونيو سالزار) في البرتغال
او الى الشيوعية في روسيا الامر الذي يعكس الكيفية التي قاد بها
الاعتماد المتعاظم على الذات قبل الثمانينات الى جلب المزيد من التنبؤ
والاستقرار. وهي ايضا جعلت العالم اقل عدالة ومساواة. ان النزعة
للمساواة في الثروة والدخل التي حدثت في المجتمعات الاوربية بين 1945 و
1975 قد توقفت الآن وان المنحني وبضمنه اوربا، يشير الى اتجاه اخر، الى
الفجوة المتصاعدة باستمرار في الدخول والتي أجبرت قطاعات واسعة من
الناس لإعادة حساب توقعاتهم الاجتماعية عن انفسهم وعن اطفالهم.
والآن حين يقف الاتحاد الاوربي للدفاع عن العملة الموحدة، فهو بهذا
يجد نفسه في صف واحد مدافعا ضد الاولويات في الاستقرار والتضامن
والمساواة التي ساعدت في الحفاظ على شرعية الديمقراطية الغربية بعد عام
1945. ان الانقسام الاخير بين الشمال الدائن والجنوب المدين جعل هذه
المشاكل اكثر حدة، لكنها في الحقيقة كانت قائمة قبل نشوب الكارثة. وحتى
بعد ذلك، هي تكمن في جوهر التحدي السياسي الاساسي الذي انتجه التمويل
الحديث، وهو تحد تجسّد بفك الارتباط بين السلطتين السياسية و
الاقتصادية. ازمة اليورو جعلت هذا التحدي واضحاً، ومزعجاً اكثر من
الناحية الاخلاقية.
وفي مثل هذه الظروف، ان ما يستدعي التوضيح هو ليس ظهور الاحتجاجات
المنظمة، وانما الحاجة لها. لماذا؟ هل ان الناس يجدون من الصعب تصور
خيارات اخرى؟ أليس دافعو الضرائب هم منْ يمول القطاع المالي؟ اذاً
لماذا لم يطالبوا بالمزيد من التشريعات والمزيد من السيطرة على
المدفوعات، واخيراً إعادة التوازن في العلاقات بين المالية والتصنيع،
وبين السيولة العالمية والجماعات ذات الجذور القومية؟
السبب الرئيسي هو غياب الخيارات المستندة على إيمان واسع. اليسار
الثوري، سواء كان شيوعيا او فوضويا فشل في صناديق الاقتراع، وهو فشلُ
قد لا يهم انصاره وانما يشير الى ضعف الوزن السياسي. وفي حالات قليلة
من النجاح، كما في ازمة التقشف اليونانية (مع سيرازا) كانت علاجات
الازمة تفتقر الى الثورية. الناس ناقمون على حلم العولمة لكن السياسيين
لازالوا يعتبرون السوق المالي ضروريا بدرجة ما. وعلى الصعيد المحلي،
كان الملفت هو حجم اعتماد برامج الانعاش الحالية على توسيع السيولة من
خلال نظام مصرفي بدلاً من مشاريع الاعمال العامة الطموحة التي ميزت
الانتعاش في اوربا بعد عام 1945. وهكذا، بينما يقوم الوايت هول بمعاقبة
المصارف بيده اليسرى، نراه يلتمس منهم بيده اليمنى الاندفاع نحو ازدهار
جديد.
ودولياً، بدأ هناك حديث نادر عن الحاجة للتخلي عن فكرة ازالة
السيطرة على رأس المال الذي حدث في الثلاثين سنة الماضية – اي ضرورة
التمييز الحاد والقانوني بين الاستثمار المنتج الطويل والقصير المدى،
وبين التدفق المضارب -، مع ان هناك همسا خافتا عنها في نقاشات صندوق
النقد الدولي الاخيرة.
وحتى لو كانت هناك خيارات مقنعة، فهل ستجد من يستمع لها؟ رجوعا الى
1820s، كان الرأي العام بمثابة "لاهوتاً"، في قصة دمقرطة وعقلنة الحماس
الذي يجبر النخب القديمة على التحديث. وفي عصر الانترنيت، تعيش اوربا
انهيار اليقينيات القديمة. الديمقراطية ربحت ولكن ماذا يعني ذلك؟ انها
تضمن سيادة عدد من المؤسسات والممارسات، وليس اي من السياسات المحددة.
وفي النهاية، فان القوى التي اُنشأت لأجل العدالة الاجتماعية برزت ليس
من المؤسسات الديمقراطية بعينها وانما من التوترات الايديولوجية
العميقة والمنافسات التي ساعدت في لجم قوة الاسواق واضعفت الدعم
السياسي الواسع لعمل كهذا.
غياب اولئك المنافسين الايديولوجيين، او اي شكل جديد من التعبئة
الجماعية النشطة، لن يحول دون تفسخ النموذج الاجتماعي الاوربي.
اوربا = يورو: في ظل هذه المعادلة، تلاشت كل الصيغ القديمة الاخرى
والاكثر طموحا بشأن ما ترمز له اوربا. يستتبع ذلك سؤال ملفت وهو – هل
ان انحلال اليورو ضروري لأجل انقاذ شيء ما من الفكرة الاوربية؟ وهل
اننا سنجد انفسنا يوماً ما دون اي منهما؟ لازال الوقت مبكراً لنكتشف
ذلك.
..................................................
الهوامش
(1) Mark Mazower هو مدير مركز التاريخ الدولي في
جامعة كولومبيا. آخر كتاب له بعنوان"حكم العالم:تاريخ الفكرة".
(2) حروب البوير او(حروب الحرية) هما حربان نشبت
اولهما في الفترة بين 1881-1880 والثانية بين 1902-1899 خاضتهما
الامبراطورية البريطانية ضد اثنتين من جمهوريات بوير المستقلة في جنوب
افريقيا. الحرب الاولى خاضها ثوار البوير المزارعون ضد الحكم
البريطاني، اما الحرب الثانية فقد امتدت لفترة اطول وتطلبت اعداد كبيرة
من القوات البريطانية. انتهت الحرب بتحويل جمهوريات البوير الى
مستعمرات بريطانية مع وعد بحكم ذاتي محدود.
(3) فترة الثلاثين المجيدة تشير الى الفترة من 1945
الى1975 في فرنسا. والمصطلح اشتُق من (ثلاثة ايام مجيدة) وهي ايام
الثورة من 27 الى 29 تموز عام 1830 في فرنسا. وخلال فترة الثلاثين سنة
هذه تزايد عدد السكان الفرنسيين وتصاعد النمو الاقتصادي بسرعة. هذا
التطور ترافق مع نمو كبير في الانتاجية وفي الاجور ومستوى
الاستهلاك.ولكن بعد ازمة البترول عام 1973 بدأ التباطؤ في الاقتصاد
فكان منتصف السبعينات هي نهاية تلك الفترة. |