شبكة النبأ: لم يكف الوصول الى
البرلمان في مصر، والاستيلاء على المساجد وجعلها منطلقاً لتحركاتهم
ونشاطاتهم في ظل أجواء التغيير السياسي في البلاد العربية، ورفع السلاح
والسيف في سوريا، حتى عمد التيار السلفي الى توجيه سهامه الى التشيّع
وتعبئة الشارع العربي والاسلامي ضد مذهب أهل البيت عليهم السلام، في
تخندق سياسي واضح، أثار العديد من الأسئلة لدى الباحثين والمتابعين
لأمر التغيير الكبير والنوعي الذي حصل في الأنظمة السياسية العربية بعد
مرور قرن من الاستقرار الديكتاتوري في مصر وتونس وليبيا واليمن.
فقد كان انهيار أنظمة الحكم في عدد من البلاد العربية، بمنزلة
المتنفس لعناصر و رموز هذا التيار بعد فترة طويلة من القمع والتنكيل و
التغييب، وربما يكون التغيير أو "الربيع العربي" - في جانب منه- فرصة
معد لها من قبل أطراف اقليمية ودولية، لصعود وتنامي وجود هذا التيار في
عموم البلاد العربية من الخليج الى المحيط.. ففي مصر تمكن السلفيون من
الوصول الى مجلس النواب، وفي الجزائر وتونس تمكنوا من التسلل بسرعة
فائقة الى المساجد والاستيلاء عليها، وجعلها منطلقاً لتظاهراتهم
ونشاطاتهم، حتى نُقل أن حوالي (80) بالمئة من مساجد الجزائر تحت سيطرة
السلفيين، وهم يحضرون لتشكيل حزب سياسي، رغم رفض الحكومة ذلك، وفي تونس،
وبعد اسبوع واحد فقط على هروب زعيمها الديكتاتوري، في السابع عشر من
كانون الثاني عام 2011، سارع السلفيون، على حين غفلة من الناس، ووسط
دهشة الجميع بالسيطرة على مسجد "الفتح"، أكبر وأقدم المساجد في تونس،
ومنه أعلنوا وجودهم في البلاد. علماً أنهم موجودون في معظم البلاد
العربية بشكل أو بآخر، يدعون الى ما يزعمون أنه "تصحيح في المفاهيم
والدعوة الى الرجوع الى الكتاب.."، كما جاء في حديث للشيخ سالم الرافعي
أحد شيوخ السلفية في لبنان..
والمعروف أن "تيار السلفية" تحالفها وتعاضدها "الوهابية السعودية"،
وساعدت على انتشارها منذ الثمانينات والتسعينات في البلاد العربية
وافغانستان وباكستان واندونيسيا شرقاً، وحتى بلاد القوقاز وآسيا الوسطى
شمالاً، والصومال ومالي والبلاد الافريقية جنوباً.. كل ذلك بفضل
الأموال السعودية السخية، والتي ساندتها مؤخراً أموال قطرية، لدفع
السلفية هذه المرة نحو قمة السلطة والاستيلاء عليه قبل الآخرين.
إذن؛ فما الذي يجعل هذا التيار يتخندق ضد التشيع ومذهب أهل البيت
عليهم السلام؟ ويتخذ من "شيعة فويبا" أداة هامة لإيجاد موطئ قدم في هذا
البلد وذاك؟
لو تصفحنا الخلفية الفكرية للتشيّع نجد أن يحمل - مما يحمله- نهجاً
ثورياً – نهضوياً وإصلاحياً على طول الخط.. فهو تصدّى للحكام المفسدين
والمنحرفين والطغاة منذ فجر التاريخ الاسلامي، كما إنه عرّج الى الساحة
الاجتماعية ليوقظ في افراد المجتمع الهمم والإرادة والقدرات في تأسيس
نظام حكم عادل قائم على القيم الدينية والمبادئ الانسانية، وهذا كلفه
تضحيات جسام، ولعل في طليعة هذه التضحيات ما حصل في صحراء كربلاء عام
61 للهجرة، واستشهاد ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله، الإمام
الحسين بن علي عليهما السلام. وفي التاريخ المعاصر كان للتشيع حضورٌ لا
ينكر في الساحة السياسية، ليس فقط من خلال الوقوف بوجه الحكام المفسدين
والمنحرفين، إنما هذه المرة التصدّي وبقوة لقوى الاستعمار المتجبرة
التي كانت تملك العالم خلال القرن التاسع عشر. وقد سجّل التاريخ مواقف
ساطعة وملاحم بطولية، كان الهدف والغاية القصوى منها، الحفاظ على حصون
الإسلام من الاعتداءات الاجنبية.
وبالمحصلة نعرف، أن منطلق التشيع والشيعة في تحركهم السياسي هو
القضية الرسالية والاسلامية الكبرى، فلم تتضمن أدبيات الشيعة يوماً
الحديث عن "طائفة" أو "جماعة" أو غير ذلك من المسمّيات الفئوية
المحدودة. حتى مراجع الدين وأهل الفتيا والحل والعقد، فانهم يفضلون
ويقدمون دائماً مصلحة الإسلام والمسلمين في كل مكان على أي شيء آخر.
في المقابل، نلاحظ الخلفية الفكرية للسلفية، فهي انطلقت في الآونة
الاخيرة من الفشل والإخفاق الكبيرين للجماعات السنية بشكل عام في
البلاد العربية والاسلامية، وذلك على الصعيدين؛ الاجتماعي والسياسي..
فهي لم تتمكن من أن توجد لها موطئ قدم في الحياة الاجتماعية، فضلاً عن
إيجاد البديل الأفضل لما موجود من واقع التخلّف والانحراف، وايضاً في
الحياة السياسية، لأنها مجبرة على القبول بالأمر الواقع، اتباعاً لنهج
"الرضى بما يمليه السلطان"، وتطبيقاً لمقولتهم: "العلماء أمناء على
الدين، والأمراء أمناء على الأمة"..! وبعد عقود طويلة من النشاط الفكري
والثقافي لجماعة "الأخوان المسلمين" في البلاد العربية، وصل كبار القوم
الى قناعة تامّة لا رجعة فيها، أن العمل الثقافي والتربوي والتبليغي
الذي درج عليه "الأخوان"، يجعل التيار السنّي برمته في مهب الرياح
السياسية العاتية التي غيرت الكثير من معالم الخارطة السياسية في
العالم الاسلامي، لاسيما بعد سقوط "شاه ايران"، وصعود التيار الشيعي
بشكل سريع في العالم الاسلامي. ومن هنا برزت "السلفية الجهادية"،
انطلاقاً من مصر نفسها التي انطلقت "حركة الأخوان" في عشرينيات القرن
الماضي. فلم يكن أمامهم سوى التكفير والإلغاء واتباع العنف والدموية
للتعويض عما فات في الساحة السياسية والاجتماعية. فانفلت أفراد من
المجتمع المصري، من المؤمنين بالسلفية، فاطلقوا اللحى وارتدوا الجلباب
القصير الابيض، وهجروا البلاد والعباد، معلنين في مطلع التسعينيات
تنظيم "التكفير والهجرة".
ولا أعتقد أن أحداً بحاجة الى مزيد من الأدلة على المستنقع الذي
سقطت فيه السلفية باستخدامها "الإرهاب" لغة للخطاب السياسي والاجتماعي،
وما جرّ عليهم من ردود الفعل المقززة من المجتمع، بسبب الفتاوى المثيرة
والغريبة عن أجواء الشريعة والأحكام الاسلامية، والتي باتت تُعرف بـ
"الفتاوى الجنسية"، وايضاً التشكيك بمصداقيتهم الدينية بسبب التكفير
الدموي الذي أدى الى انقلاب الرأي عليهم، كما حصل في العراق، وربما
يحصل في سوريا أيضاً، اذا ما حصلت تسوية سياسية، كالتي حصلت بين
الحكومة العراقية وبين عشائر الانبار.
من هنا يمكننا القول؛ إن أهم وأبرز ما يخشاه السلفيون، سواءً ما
يحارب التشيع بلسانه وتكفيره، ومن يحمل السلاح والسيف، هو رسالة السلم
والأمان الذي يحمله الشيعة في كل مكان.. وإن كانت هناك سجالات ونقاشات
فكرية وعقائدية، فهي لا تعدو أن تكون بحثاً في التاريخ والحديث
والرواية. وهي بالنتيجة مسائل قابلة للنقاش والبحث، وربما يكون الطرف
المقابل للتشيع على حق، إن أثبت صحة موقفه بالدليل والبرهان.. بينما
الطرف المقابل نجده يزعم أنه يدافع عن الرسول الأكرم صلى الله عليه
وآله، بذبح من يتشهد الشهادتين، حتى الطفل الصغير، ابتاعاً لنهج الشيخ
المفتي الأكبر.. "ابن تيمية" الذي حمل لواء تكفير الشيعة منذ ابتداع
فكرته "السلفية" في القرن السابع الهجري.
وها هي السلفية اليوم، وهي على مقربة من الحكم في عدد من البلاد
العربية، لكنها تشهر سلاح التكفير ضد الشيعة، بمعنى إن الذبح والنسف
والقتل بالجملة الذي جربوه في العراق منذ الإطاحة بالطاغية صدام، و
مايزالون، لم تحقق لهم الهدف المنشود، وهو محو الفكر الشيعي من الساحة،
وإعادة الشيعة الى ما كانوا عليه في بداية القرن العشرين بفضل
السياسيات البريطانية والأمريكية. ولا أجانب الحقيقة إن قارنت بين
محاولات الغرب، والولايات المتحدة في خلق "إسلام فوبيا" أو الرعب
الإسلامي أمام الشعوب الغربية، وبين محاولات "شيعة فوبيا" التي يلجأ
اليها السلفيون خوفاً على مكتسباتهم وامتيازاتهم السياسية في عدد من
البلاد العربية. |