يتميّز سفر الإمام المجدد السيد محمد الحسيني الشيرازي، الموسوم
"فلسفة التاريخ"، في المقام المتقدم، من بين تراثه العلمي، في مجال
البحث والدراسة في العلوم التاريخية، وقد كتبه استمراراً لسلسلة موسوعة
الفقه، وإن لم يظهر ذلك في غلافه، أو في تعليقات التحقيق على متنه، لكن
منهجيته البحثية، تعبّر عن ذلك، من خلال شكليته العلمية، ونصوصه
الفقهية، التي كتبها المجدد بشكل مسائل فقهية، بما يتماهى والفقه
الإستدلالي، أو تضمينه شكلا، ضمن منهجية فقه الأحكام الشرعية، وهو بذلك
يعدّ استمراراً بحثياً علمياً، لسلسلة موسوعته الرصينة في الفقه،
واستكمالاً لمشروع المجدد الرائد فيها.
ولهذه المقدمات البحثية والمنهجية، فقد اعتمدت الدراسة هذا السفر
الكبير، كنموذج بحثي، من بين تراث المفكر المجدد، في الدراسات والبحوث
التاريخية، فهذا الكتاب قد تخصص في كل من علم التاريخ وفلسفته، حيث إن
علم التاريخ، يبين كيفية وقوع الحدث التاريخي، بينما تبين فلسفة
التاريخ، أسباب وقوع هذا الحدث التاريخي، والذي يميّز الكتاب، أنّه قد
كتب بقلم الفقيه، وفكره وذائقته، ومنهجه وروحيته، وهذا ما يظهر في سائر
مبانيه.
كلمة في الجهد العلمي للمؤلف
لقد جهد المؤلف لإخراج سفر مميّز في مادته العلمية، وفي حقل علمي،
يندر الولوج لآفاقه ومبانيه، من قبل نظراء المؤلف، من الفقهاء المراجع
والمجتهدين، كونه يصنّف عند الحجم الأكبر منهم، من العلوم غير الدخلية
وغير الموضوعية، في البحث والتحقيق الفقهي، وهو ما أثبت الكتاب نقيضه،
لجهة العلاقة المباشرة بين العلوم التاريخية، ودخليتها الموضوعية في
العلوم الدينية عموماً، وضمنها العلوم القرآنية، والتحقيق الفقهي.
وبرغم إن هذا النتاج في البحث التاريخي، وهو الحلقة من سلسلة الفقه
"فلسفة التاريخ"، ليس الأول من بين مكونات التراث العلمي والبحثي، في
موروث المفكّر المجدّد، لكنه يعد نتاجاً مميزاً، لما جمعه وأثبت فيه،
من عصارة الفكر والخبرة والدراية، بما هو أوسع من عنوانه بكثير، حيث إن
الكتاب يتواضع كثيراً في عنوانه، ويتساهل في نطاقه تبعاً لذلك، كونه
أوسع من تقييده في إطار محدوديته المعرفية، التي يعبر عنها في عنوانه،
فالكتاب يعد موسوعة مصغّرة ومتكاملة، موجزة دون إخلال أو تفريط، وشاملة
دون إطناب أو إفراط، لما يمكن أن يصنّف في العلوم والدراسات التاريخية،
ومناهج البحث فيها، لفائدة الباحث وطالب العلم، فضلا عن مشروع الفقيه
المجتهد، بصفته المستهدف المباشر للإفادة منه.
وقد نحل المؤلف في مباحثه في الكتاب، منهجاً بحثياً علمياً تاريخياً،
جعل من الكتاب نتاجاً مميزاً، وإضافة للمكتبة الإسلامية الإمامية، التي
تبقى فقيرة للأبحاث والمؤلفات، ذات الصلة بالتراث العلمي التاريخي،
والبحث التاريخي عموماً، وذلك يسجّل ميزة لشجاعة الأستاذ الباحث مؤلف
الكتاب، وصبره وصواب اختياره البحثي العلمي.
أهمية الكتاب وعنوانه
إن الكتاب يضاف لسلسة الإصدارات العلمية التاريخية، التي تميّز بها
المؤلف، والتي أتحف بها المكتبة التراثية، في عناوين دافعة للطلاب
والباحثين والدارسين، في المدارس والحوزات العلمية، للاهتمام في حقل
علوم التاريخ والتراث العلمي.
وقد جعله المفكر المجدد، حلقة مهمة من سلسلة بحوثه الفقهية،
الموسومة "موسوعة الفقه"، والتي تميزت عن سابقاتها من البحوث في هذا
المضمار، أنها أضافت عناوين جديدة، لم تكن تولج دراساتها سابقاً، ضمن
مباني الفقه ومدركاته، وقد لوحظ أن المؤلف قد انتحل فيه المنهج الفقهي
التقليدي، في البحث والتحقيق، دون خروج فيه، عن المألوف العلمي البحثي،
لجهة حداثة العنوان، أو مادته العلمية، التي تفترض مناهج خاصة، تعرف
بمناهج البحث التاريخي، لكنه لم يتراجع أو يتساهل إزاء هذا المطلب، بل
تمسّك بالتحقيق الفقهي الإستدلالي، والبحث الأصولي المنهجي، في اعتماد
الأدلة الأربعة في البحث، النقلية والعقلية.
وهو ما يلاحظ في الكتاب، حيث تصدير جميع عناوينه الرئيسة والفرعية،
سواء للفصول أو المباحث، بمسائل مركّزة، تعبر بوضوح عن حضور فقه
الأحكام، في مباني الكتاب، ليصلح حقيقة أن يوسم، كحلقة في سلسلة موسوعة
الفقه التاريخ، وبذلك يتكامل البحث الفقهي العلمي الموسوعي الموسّع، مع
الإصدارات الأخرى في حقول مقاربة، من أمثال فقه الإعلام والرأي العام،
التي رأى المؤلف الفقيه، أن يجعلها خواتيم نتاجه، في سلسلة موسوعته
العلمية، في المباحث الفقهية.
المباحث التاريخية في تراث السيد المجدد
إن الدراسة التحليلية للكتاب، والوقائع المتضمنة فيه، بشكل علمي
بحثي منهجي، تقدم نموذجاً لأهمية الدراسة الدقيقة للتاريخ العام،
والتاريخ الفقهي بشكل خاص، لجهة تتبع نتاج المفكرين وأصحاب القرار،
وتأثيرهم في مسيرة الحياة، وتجارب نهوض الحضارات، وأسباب قوتها وضعفها،
بما يعرف بصناعة التأريخ.
ولكون المبحث في الدراسة التاريخية، فإنه يستفز طلبة المدارس
الدينية، لتتبع هذا الحقل العلمي وثيق الصلة والأهمية بدراستهم، وكذلك
المراكز الدراسية والحوزات العلمية، لتولي العلوم التاريخية الإهتمام
الذي تستحقه، ولتكون أكثر انفتاحاً وإدراكاً، لمواضيع تاريخ التشريع
الإسلامي، وتاريخ التراث الفقهي، وهي الغاية السامية ذاتها، التي سعى
اليها المفكّر المجدّد، في إخراجه لهذا السفر العلمي الكبير، وغيره من
مؤلفاته، في حقل التأريخ والتراث العلمي.
قراءة في مباني كتاب "فلسفة التاريخ" وأهميته
يتحدث الكتاب بشكل واف ودقيق، عن ماهية علم "فلسفة التاريخ"،
وأهميته في تكوين قاعدة معرفية، قائمة على تحليل وقائع وأحداث التاريخ،
وتعليل أسبابها، وتوظيف قوانين هذا العلم، لبناء الحضارة والنهضة
الإسلامية المنشودة، بالإضافة الى الاستفادة من هذه القوانين، وتطبيقها
على المكونات المجتمعية المختلفة، والمنظمات الأهلية غير الحكومية،
والحركات الفكرية والسياسية فيها، ومؤسسات الدول ومكوناتها، وانتهاءا
بتجارب الأمم والحضارات، التي يورد نماذج تاريخية لها، منتخبة بعناية.
وعليه فإن مادة الكتاب، يمكن اعتبارها منظومة متعددة، لما يعرف بعلم
فلسفة التاريخ، هذه المنظومة التي تساعد في العمل الذي يقوم به،
العاملون في الهيئات الدينية، وخاصة المتصدون لتوجيهها وتشغيلها، في
الشرح والبيان والتبصير، وصولاً الى اتخاذ القرارات المناسبة، حول ما
يجب أن يكون عليه، مسار النهضة في المجتمعات الإسلامية، في التعرف على
مواطن الخلل، والتوقيت المناسب للنشاط العام وآلياته، وما يجب أن يكون
إتجاهها، من حنكة وإلمام ودراية، لجهة المتغيرات المحتملة، وتأثيرها في
المجتمع.
والكتاب يحتوي على أفكار ثاقبة، تطرح بأسلوب لغوي دقيق، لجهة أن
الكتاب مصنف في فقه الأحكام والفقه الإستدلالي، ولهذا فقد صيغت مطالع
عناوينه الرئيسة، باسلوب المسائل الفقهية التقليدية المحكمة، التي
تستوجب الدقة في صياغاتها اللغوية، والمباشرة في التعبير، دون تورية أو
رمزية، لغرض فهمها بشكل لا يقبل التأويل والحاجة للتفسير.
ويوضح الكتاب نشأة علم فلسفة التاريخ، ومكنوناته ومبانيه، ويتطرق
الى القوانين العامة الرئيسة فيه، وهو العلم الذي يحاول أن يكتشف
القوانين الموجهة لحركة المجتمعات، ويؤشر بتركيز واهتمام مقصود، الى
الدور البشري في توجيه الوقائع التاريخية، سلباً وإيجاباً، باتجاه
الخير أو الشر، في الإصلاح أو الإفساد.
كما يبين الكتاب، أهمية دراسة التاريخ، في تحقيق التغيير وبناء
النهضة، ويبين مقومات الدول والحضارات، وأسباب نجاحاتها وإندثارها، وأن
نهضة الأمم، مشروطة بامتلاك إرادة التغير، وعليه فإن في مقدمة الفوائد
المكتسبة من الكتاب، للقارئ المتلقي، هي في تشجيعه أولاً، لقراءة
المزيد من مراجع التاريخ ومصادره، بعد أن ينحسر الإعتقاد لدى المتلقي،
بأن التاريخ جزء من الماضي، وسرد لوقائعه وحوادثه، وسير رجالاته
الماضين لا غير، والحال إن المجدد المفكر، يتفرد في مباحث كتابه، ليثبت
الدور الموضوعي للتأريخ، في تأسيس العلوم الدينية عموما.
الكتاب وأهمية علم التاريخ
تبين فلسفة التاريخ، إن دراسة علم التاريخ، والبحث في السنن الكونية
مطلب رباني، وهو مطلب عقلي أيضاً، فالتاريخ هو بيت الخبرة الإنسانية،
ومن لا يعرف التاريخ يتعثر في مطبّات كبيرة، أما من يستفيد من تجارب
الذين سبقوه، ونتائج أعمالهم، فحرّي به ألّا يكرر التجارب الفاشلة
للآخرين، وأن يزيد البناء لبنة، وأن يبدأ من حيث انتهوا، وبذا سيملك
حتما فرصة سانحة للنجاح، وعليه فإن المهمة الأكثر إلحاحاً، هي في كيفية
قراءة التاريخ، بما يفضي الى فهم قوانينه ومبانيه، وهو الذي قد يكون
العلّة المسببة للغاية من الكتاب.
والكتاب بين دفتيه، مشتمل لنظرة لأهم آراء المفكرين، في علم التاريخ
الحركي "الديناميكي"، أو ما يعبر عنه بفلسفة التاريخ، وبه عرض جميل
لأكثر من جانب حساس، بصورة موضوعية حيادية، تعزز جانب الموضوعية لقارئه
المتخصص في العلوم الدينية، في حكمه على الأشياء، وتقييم الوقائع
الماضية وشخوصها، فالإنسان شاهد على الزمن، والتأريخ شاهد على الإنسان،
مما يمكنّه من ملكة استشراف المستقبل، والتنبوء بمساراته، وفق منهجية
علمية.
ويتحدث الكتاب عن أهمية فلسفة التاريخ، في تحليل أحداث التاريخ،
والقوانين الفاعلة في تكوين الحضارة أو انهيارها، مع عرض الأفكار
والربط بينها، ويتحدث في مباحثه، عن بعض من المفكرين والفلاسفة، الذين
كونوا نظرياتهم في دراسة التاريخ، وكذلك عن نماذج للحضارات المختلفة،
في الزمان والمكان، مما يبين قوانين بناء أو سقوط الحضارات.
الكتاب وموضوعة الفكر وصناعة التأريخ
المعلوم أن فلسفة التأريخ، علم يهتم بدراسة الفكر فيه، وهي الوعاء
المعرفي "الإبستيمولوجي"، الذي يؤسس لتقنين العلوم والمعارف، بما ينشئ
دراسة معمّقة، للتراث العلمي ومعالم إحيائه، ومن المفيد أن يبسّط
الفكر، فالناس تحجم عن قراءة الأفكار المعقدة، والمصطلحات الغير
مفهومة، وهذا الكتاب من الكتب التي تبسّط الفكر، وتقدّمه للجميع، بأفضل
وأسهل طريقة، لما فيه من سرد بأحوال الأمم السابقة، ليتحصل القارئ
المتلقي، على خلفية دولها وحضاراتها، وعن أفكار الشخصيات المذكورة فيه،
التي صنعت التاريخ، لتعينه على قراءة التاريخ بشكل أفضل، وإنّ عرض
أفكار الشخصيات فيه موضوعيّ، لذا فهو وسيلة فاعلة، لأن يكون مدخلاً،
ليعرف على تلك الشخصيات، ويدرس أثرها وتأثيرها، في مسار الأحداث،
وصناعة التاريخ.
* موقع الإمام الشيرازي
http://alshirazi.com |