أفريقيا سوق للأسلحة الإسرائيلية

د. مصطفى يوسف اللداوي

أصبحت إسرائيل منذ تسعينيات القرن العشرين المورد الرئيس للأسلحة والأجهزة العسكرية والعتاد الحربي وتكنولوجيا الحرب المتطورة، وأجهزة التشويش، إلى العديد من الدول الأفريقية، خاصةً تلك التي تشهد صراعاتٍ عسكرية، واضطراباتٍ قبلية، وحروباً داخلية أو حدودية مع دولٍ مجاورة، مما يجعلها في حاجةٍ دائمة إلى السلاح والعتاد، خاصة الذخيرة وأحياناً الأسلحة الخفيفة التي تتطلبها حروب العصابات، والعمليات العسكرية التي تشبه الغزو، وفي طبيعتها المباغتة، والكر والفر.

كما أنها تمد دولاً أفريقية بالعديد من الخبراء والفنيين العسكريين الإسرائيليين، ورجال المخابرات المدربين، وضباط أمن وعسكريين متقاعدين، ومجموعاتٍ أمنية خاصة لتدريب وحدات المهام الخاصة في بعض الدول الأفريقية، وتدريب وتأهيل الحراسات الخاصة، والمرافقة الأمنية الشخصية، الخاصة بالرؤساء والوزراء والقادة العسكريين وكبار مسؤولي الدولة، حيث يقوم بهذه المهام ضباطٌ متقاعدون، ممن يملكون القدرة والكفاءة، وممن سبق لهم الخدمة في هذه المجالات، فيقومون بأنفسهم بهذه الأدوار، أو يقومون بالوساطة لإتمامها عن طريق جهاتٍ أخرى، خاصةً إذا كان من المتعذر عليهم دخول بعض الدول الأفريقية، أو العمل فيها بحرية كالسودان مثلاً، أو أخرى ترفض أن تستخدم أرضها للتآمر على جيرانها.

يتعاون عددٌ من الضباط الإسرائيليين في إنشاء شركاتٍ أمنية خاصة، تكون إسرائيل مركزها، أو تؤسس لها مراكز رئيسية في الكونجو وكينيا وأوغندا وأثيوبيا وغيرها من الدول الأفريقية، التي تتميز في علاقاتها القوية مع إسرائيل، والتي يشعر الإسرائيليون فيها بنوعٍ من الأمان، فيفدون إليها، ويشترون المزارع، ويبنون المعامل، ويفتحون المصانع، وتكون لهم فيها مصالح تجارية واقتصادية كبيرة، حيث يشعر الإسرائيليون بنوعٍ من الإطمئنان في الدول الأفريقية التي تكون أغلبية سكانها من غير المسلمين، أو يكون لقادتها احساسٌ بالخوف من المسلمين، من أن يشكلوا أكثرية، أو يقوموا بانقلاباتٍ عسكرية تطيح بهم، وتقوض أركان حكمهم، خاصةً إذا كانت ولاءاتهم الدينية أقوى من ولاءاتهم الوطنية، وارتباطات تنظيماتهم وجماعاتهم خارجية أكثر مما هي داخلية، الأمر الذي يزين لهم تحالفهم مع إسرائيل، وتعاونهم معها.

تعتبر إسرائيل القارة الأفريقية كلها سوقاً مفتوحة لمختلف الأنواع من الأسلحة، وحقلاً جاهزاً لإجراء الكثير من التجارب فيها، ولكنها تركز في مبيعاتها للأسلحة إلى الدول الأفريقية على أنواع من الأسلحة الخاصة، وذلك وفق الأهداف المرجوة من الأسلحة، فهي تصدر الأسلحة الفردية الخفيفة كبندقية العوزي الإسرائيلية الصنع لعدة أسباب، منها التخلص من مخزونها الكبير من بنادق العوزي، لافساح المجال أمام أجيالٍ جديدة من البنادق الحديثة، فهي وإن كان جيشها يعتمد البندقية الأمريكية أم 16، إلا أنها تنتج وتطور أنواعاً مختلفة من البنادق، التي تتميز بصغر الحجم، وخفة الوزن، ودقة الإصابة، وكثافة النيران، وتقوم بإجراء تجارب عديدة عليها بغية تطويرها وتحسينها، الأمر الذي يراكمها في مخازنها بكمياتٍ كبيرة من أجيالها القديمة، فترى أن أفضل طريقة للتخلص منها هو توريدها إلى دولٍ أفريقية، هبةً أو بيعاً، إذ هذا أفضل بكثير من الحفاظ عليها في المخازن أو إتلافها.

كما أن السياسة الإسرائيلية المتبعة في أفريقيا تحرص على أن يكون السلاح الفردي متوفراً بين أيدي المواطنين الأفارقة، إذ أنه وقود التمرد، وشرارة الصراعات الداخلية، والمادة الكفيلة بإشعال الحروب والنزاعات القبلية والحدودية، التي تمكنها من التدخل في الشؤون الأفريقية، وإيجاد موطئ قدمٍ لها في أي مشكلة أو معركة، فوفرة السلاح في أيدي المواطنين، يسهل عليهم اللجوء إليه واستخدامه لحسم أي خلاف، ويقود بسرعة إلى تشكيل اصطفافاتٍ وجماعاتٍ متباينة، سواء على أساسٍ عرقي وديني، أو على أرضية مصالح ومنافع، كما أن بيعه وتسويقه قد لا يلزمه أحياناً موافقة الدولة والتزام سياساتٍ ضابطة، بل قد يقوم بهذا الدور أفرادٌ ومجموعات بقصد الانتفاع والتجارة.

كما تحرص إسرائيل على أن تورد للدول الأفريقية أجيالاً مختلفة من الصواريخ والقذائف المختلفة، بقصد تجريبها، والتعرف على آثارها، والتثبت من دقة إصابتها، ومعرفة درجة تدميرها، بالإضافة إلى قذائف عديدة، مضادة للدروع والأفراد، تحمل على الكتف، أو تطلق من قواعدٍ ومنصات، ولديها قدرات مختلفة على الاختراق والإصابة، ولكن ينبغي تجريبها في الحروب، والتثبت من جدواها وفعاليتها على أرض المعركة، ما يجعل من توريدها لدولٍ أفريقية يشكل منفعةً حقيقية لإسرائيل، قبل أن تكون نافعة وضرورية للدول الأفريقية، فضلاً عن أن أطرافاً كثيرة في أفريقيا تسعى للحصول على السلاح الإسرائيلي وتعتقد بفاعليته وجدواه.

كما تحتاج إسرائيل إلى مناطق لتجرب فيها الأسلحة المحظورة، والقنابل المحرمة دولياً، وهي تجد صعوبة كبيرة في تجريبها داخل فلسطين المحتلة، نظراً لصغر المساحة، وكثافة السكان، واحتمالات الخطورة وإنعدام درجات الأمان المطلوبة، الأمر الذي يفرض عليها البحث عن مناطق جغرافية غير بحرية لتجريبها، والتعرف على آثارها، وهو ما كانت تتعاون فيه سابقاً مع حكومات جنوب أفريقيا العنصرية، ولكنها خسرت هذه الفرصة مع سقوط النظام العنصري، وتولي حكوماتٍ ديمقراطية تعارض إسرائيل الحكم فيها، وهي تختلف معها في سياساتها الاحتلالية للأراضي الفلسطينية، بل وتدين فيها ممارساتها القمعية، مما حرمها من مناطق حرة كانت تجرب فيها أسلحتها وقنابلها بسهولة.

وتقوم الاستراتيجية الإسرائيلية في أفريقيا على أن يكون من بين الدول الأفريقية عددٌ من الدول القوية المتفوقة، التي تمتلك السلاح، وتحوز على قوة الردع، وتستطيع الحسم في أي معركة، كما يمكنها التدخل أفريقياً لصالح أي طرفٍ ضد آخر، وتحقيق الكسب له، أو رجحان الكفة لمصالحه، مما يشكل خطراً على الدول الأفريقية القوية نسبياً بالمقارنة مع الدول الأفريقية الأخرى، كمصر والجزائر وليبيا والسودان، على أن تأمن إسرائيل هذه الدول، وتطمئن إليها، ولا تشعر بالخوف من تعاظم قوتها على مصالحها في أفريقيا، ولا تخشى من خروجها عن الفلك الإسرائيلي، وخضوعها لنفوذِ دولٍ وقوى أخرى معادية، فتحاول أن تكون دوماً قريبة منها، تقدم لها النصح والمشورة، وتساعدها في اكتساب القدرات والمهارات والخبرات لتحافظ على تفوقها.

أفريقيا التي كانت لنا، أرضاً وشعباً ومقدرات، أصبحت تتفلت من بين أيدينا، وتخرج عن إطارنا، وتذهب بكل خيرها إلى عدونا، ولكننا نحن من فرط وباع، ونحن من ترك وتخلى، فهل نلوم أنفسنا، أم نحملهم المسؤولية ولا نعذرهم...

يقوم بعض الضباط الإسرائيليين في مناطق التوتر الأفريقية بقيادة المعارك بأنفسهم، والنزول إلى جبهات القتال للإشراف على أداء المجموعات العسكرية، لضمان تفوقهم وانتصارهم، وهو ما تأكد فعلاً من خلال مقتل العديد من الضباط الإسرائيليين في معارك أفريقية داخلية، فضلاً عن كثيرٍ من القتلى في مناطق التوتر في السودان، سواء قديماً في معارك الجنوب قبل انفصاله، أو في المعارك التي تدور في دارفور، حيث يهم إسرائيل أن تنتقل المعارك وحالة عدم الاستقرار من جنوب السودان إلى شماله، حيث لا تتهدد السودان فقط، وإنما يمتد أثر الاضطراب وعدم الاستقرار إلى مصر، التي تربطها بالسودان حدودٌ طويلة.

كما تقدم إسرائيل خدماتٍ عسكرية وأمنية إلى جهاتٍ عديدة في القارة الأفريقية، مستفيدةً من أقمارها الاصطناعية التي تركز عملها على ما يدور في القارة الأفريقية، وتستطيع أن تلتقط الصور، وتجمع المعلومات، وتفرز البيانات، وتسجل المكالمات، وتتعرف على الأسرار، وغير ذلك مما يحتاجه الفرقاء الأفارقة، الذين يفتقرون إلى كل ما تملكه إسرائيل من معلوماتٍ عنهم وعن خصومهم، ومن خرائط مختلفة تبين المواقع العسكرية، وثكنات الجنود، ومناطق التدريب، وترصد حركة المجموعات المسلحة، والأهداف التي تتجه إليها، الأمر الذي يجعل من المعلومات التي تملكها قيمة كبيرة، يمكن التفاوض عليها، ومساومة الأطراف على أساسها، لتخضع بعضهم لشروطها، وتستخدم آخرين لغاياتها وأهدافها.

تعتمد إسرائيل في تسويق مبيعاتها العسكرية، والتي قد تكون أحياناً هبةً أو مساعدة بالمجان، حيث تتطلع إلى أهدافٍ أخرى من وراء بيع الأسلحة غير النفع المادي القريب والمباشر، على سفاراتها المنتشرة في الكثير من الدول الأفريقية، حيث باتت السفارات الإسرائيلية أوكاراً للتجسس، ومقراً لتوقيع العقود، وإبرام الصفقات العسكرية والأمنية، ومكاتب متخصصة لمختلف الاستشارات الفنية، في الوقت الذي تقوم فيه بتسيير رحلاتٍ خاصة إلى إسرائيل لمسؤولين أمنيين وعسكريين أفارقة، أو تنظم دوراتٍ عسكرية وأمنية لمجموعاتٍ أفريقية خاصة داخل إسرائيل، يشرف عليها كبار الضباط في الجيش والمخابرات الإسرائيلية، حيث يتيح تدريبهم في إسرائيل اطلاعهم على آخر التقنيات وأحدث التكنولوجيا في مجالات الحرب والتجسس، ويستفيد من هذه الدوراتِ قادةُ مجموعاتٍ متمردة سودانية، ممن يظاهرون الحكومة بالعداء، ويقاتلونها لإسقاطها أو الانفصال عنها، وقد أعلن عددٌ من قادة المتمردين عن زياراتهم المتكررة لإسرائيل، ولقاءاتهم مع مسؤولين فيها.

وتتعاون إسرائيل في أفريقيا مع بعض الدول كالولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا، وتحاول التنسيق معهم فيما يتعلق بالأهداف المشتركة، ولكنها في الوقت نفسه تحاول أن تمنع دولاً أخرى كإيران والصين وأحياناً روسيا من أن يكون لهم موطئ قدم في أفريقيا، أو أن تتعاظم قوتهم فيها، لهذا فإنهم وحدهم أو بالتنسيق مع حلفائهم، يحاولون مجابهة إيران تحديداً، وقطع خيوطها في أفريقيا، ومنعها من أن تتغلغل فيها أكثر، فلا تكون أفريقيا لهم عمقاً عسكرياً، ولا منجماً استراتيجياً، ولا سوقاً اقتصادية، ولا حدائق خلفية لمزيدٍ من الكسب والاستفادة، خاصةً أن إيران قوةً اقتصادية منافسة، ولها برامج مكتملة، ورؤيا واضحة، واستراتيجية ممكنة ومقبولة.

متى يستيقظ العرب ويدركون أن أفريقيا في خطر، وأن مصالحهم فيها تتعرض للاحتلال والمصادرة، وأنه لم يعد لهم في الحديقة الأفريقية الغنية متسعٌ ولا مكان، فقد تغول عليها الإسرائيليون والأمريكيون والأوروبيون، وسيطروا عليها، وحازوا على خيراتها، وتمكنوا من حكامها، وأشرفوا على سياساتها، فأصبح ظهرهم فيها مكشوفاً، وأمنهم فيها خطراً، ومستقبلهم بين أهلها وعلى أرضها صعباً إن لم يكن مستحيلاً، وباتت سلة الغذاء التي كانوا يحلمون بها ضرباً من الخيال، وحلماً صعب المنال، وقد كان من الممكن أن تكون أفريقيا بوابةً للعزة ومعبراً لإستقلال الرأي والقرار، إذ أن من ملك قوت يومه فقد ملك قراره، ونحن بأفريقا كنا نملك قوت أجيالنا، وطعام شعوبنا لسنواتٍ تالية.

وقد كان العرب والمسلمون تاريخياً أرباباً لأفريقيا، ومرجعاً لقادتها، وسنداً لها في ملماتها وأزماتها، في القاهرة يجتمعون، وفي مكة يلتقون، وفي الخرطون يتشاورون، وفي حضرة القادة العرب يتصالحون ويتصافحون، يستأذنونهم ويستشيرونهم ويأخذون برأيهم، ولا يخرجون عن جمعهم، ولا يعترضون على كلمتهم، ولكنهم اليوم أبعد الدول عن همومها، وآخرهم نصرةً لقضاياها، وأقلهم تدخلاً فيها، واستفادةً من مقدراتها وخيراتها، فلا يهمهم من أمرها شئ، فلا يحزنون لمجاعةٍ أصابتهم، أو لجفافٍ حل بهم، أو لمصيبةٍ تعرضوا لها، وقد كانوا قديماً هم الغوث والعون والمساعدة والمدد، لا يسبقهم إليها أحد، ولا ينافسهم في القدر والقيمة والسخاء والجود أحد، ولا يمنون إذا أعطوا، ولا يشترطون إذا وهبوا، ولا يفرقون إذا هبوا وساعدوا، بل يعدلون ويساوون، ويكرمون ولا يهينون.

لكنهم اليوم قد تركوها نهباً لمن لا يرحم، وساحةً لمن يتآمر، وأرضاً براحاً لمن يسعى للخراب، ويخطط للحروب، ويعمل ضد سيادة ومصالح الدول العربية والإسلامية، في الوقت الذي سالت فيه الدماء الأفريقية، وكثرت بينهم الحروب الداخلية، وتعاظمت التناقضات البينية، وبحث المواطنون الأفارقة عمن يقف إلى جابنهم، ويساندهم في قضاياهم، ويعمل على حقن دماءهم، ورأب صدعهم، وإنهاء مشاكلهم.

إلا أنهم وجدوا أن العرب والمسلمين الذين كانوا لهم يوماً سنداً وعضداً، قد تخلوا عنهم، وانسحبوا من المعركة لصالح عدوهم، وقد كان بإمكانهم الثبات وعدم الانسحاب، خاصةً أنهم يملكون قدراتٍ اقتصادية كبيرة، وإمكانياتٍ بشرية هائلة، تمكنهم من الاستفادة كثيراً من الدول الأفريقية، والاستثمار فيها، ومضافعة ثرواتهم من خيراتها، ولعل العرب والمسلمين يدفعون اليوم مرغمين لعدوهم أكثر مما كانوا يعطون عن طيب خاطرٍ ورضا، فهم اليوم يمولون الغرب حملاتهم ضد جيوبهم التي كانت لهم في أفريقيا، وضد مخزونهم الذي كان كله لهم هناك مذخوراً ومخبوءاً، فيتكلفون دون عائد، ويدفعون دون أملٍ بالاستفادة والمنفعة.

أفريقيا ليست أرضاً للخسارة، ولا ساحةً للمغامرة والمقامرة، إنها مضمارٌ للفوز والكسب السريع، وأرضاً مباركة بسكانها الطيبين الفقراء البسطاء، وأهلها السود والزنوج والبيض والملونين، فأكثرهم منا، يدينون بديننا، ومن بقي منهم فإنه يؤيد قضايانا، ويؤمن بحقوقنا، ويسلم بثوابتنا، ويساندنا في نضالنا، وعلى استعداد للتضحية معنا، ومن بينهم السودان التي تمزقت أرضها على مرأى ومسمعٍ منا، ونال العدو من أطرافها، وهو يرى عجز العرب وتقاعس المسلمين، فأصبحت السودان دولتين، وعيون إسرائيل والغرب عليها لتتمزق أكثر، وتكون ثلاثة وأكثر، فمتى نستيقظ وندرك أننا على أبواب غزوٍ إسرائيليٍ جديدٍ وعنيد، يحيط بنا من كل مكان، ويحرمنا من كل قدرةٍ وطاقة، يستهدف وجودنا، ويتآمر على خيراتنا، ويروم شراً بأصدقائنا قبل إخواننا وحلفائنا.

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 26/آيار/2013 - 15/رجب/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م