مع استعداد الدبلوماسيين الروس والأميركيين لعقد مؤتمر سلام من أجل
سوريا، يشهد الشرق الأوسط اضطرابات غير مسبوقة منذ اندلاع ثورات الربيع
العربي قبل عامين. ففي سوريا تمخض ما بدا في مستهل الأمر وكأنه مجرد
حالة أخرى من التغيير الداخلي عن حرب أهلية انتشرت إلى ما وراء حدود
البلاد، فأثرت على جيرانها كافة. ومن الناحية التاريخية، ففي الأرجح أن
الأزمة السورية، وليس الربيع العربي، هي التي ستُعَد الحدث الأكثر
تأثيراً على منطقة الشرق الأوسط في هذا العقد ــ والبوتقة التي ستشكل
مستقبل المنطقة.
إن الأبعاد التي اتخذتها هذه الأزمة تستحق التركيز، والحكمة،
والزعامة من الأطراف كافة، وخاصة الولايات المتحدة. وتتطلب إدارة القوى
التاريخية التي تطلقها هذه الأزمة الذهاب إلى ما هو أبعد من المناقشة
المشتتة غير المنهجية الدائرة في الولايات المتحدة حول النوع الذي
ينبغي لها أن تقدمه، ولمن من الأطراف المشاركة في الصراع.
لقد ولى زمن الرؤية التبسيطية لصراع ينخرط فيه الديمقراطيون
الطامحون ضد حاكم مستبد مكفهر الوجه ــ السرد المعتاد (وإن لم يكن
دقيقاً بشكل كامل) في وصف الربيع العربي. فأنصار الديمقراطية،
والمقاتلون من أجل الحرية، والجهاديون، والمتطرفون السُنّة، وعناصر من
تنظيم القاعدة ــ وكلهم يتلقون الدعم من قِبَل دول وجماعات عربية
سُنّية ــ يشكلون الآن جانباً واحداً من جبهات المعركة. وفي مواجهتهم
يصطف الرئيس بشّار الأسد وأعوانه، والجماعات المتشددة الشيعية التي
تقاتل من أجل حماية حبال النجاة التي تربطها بإيران، والأقليات الدينية
التي تشعر بالخوف من الهيئة التي قد تصبح عليها حياتها بعد الأسد،
والطرف الأكثر شؤماً على الإطلاق، إيران ووكيلها اللبناني حزب الله.
ومع ارتفاع مستوى المخاطر إلى هذا الحد، فإن المبادرة الروسية
الأميركية لتنظيم مؤتمر سلام لم تكن موضع ترحيب فحسب، بل إنها تُعَد
مبادرة لا غنى عنها ولابد من التخطيط لها بعناية شديدة. ومن المرجح أن
نسمع عن إرجاء بعد إرجاء في الأيام المقبلة، حيث تحاول الأطراف
المختلفة اختيار ممثليها. ولكن الصبر أمر ضروري، لأنه بمجرد أن يبدأ
المؤتمر فلابد أن ينتهي إلى النجاح. فالجهود والمساعي الحميدة وحدها لا
تكفي لنيل الأوسمة.
والواقع أن المناقشة العامة الدائرة في أميركا الآن حول إمكانية
وكيفية تسليح أو تجهيز المعارضة السورية تصلح كاستعراض ثانوي مثير
للاهتمام. ولكنها بلا وزن على الإطلاق في التأثير على جسامة وتعقيد
القوى التاريخية الهائلة التي تشق طريقها الآن إلى الأمام، وتفرض قدراً
هائلاً من الإجهاد على المشهد السياسي في المنطقة ــ بل إنها بدأت في
تمزيقه إربا.
وعلى نحو مماثل، لا ينبغي لأحد أن يستخدم شكوك أميركا العظيمة في ما
يتعلق بالدور الذي تلعبه إيران في هذه الأزمة الإقليمية لمحاولة تقييد
مشاركتها في المؤتمر. فربما تكون إيران جزءاً من المشكلة، ولكن سواء
شئنا أم أبينا فإنها قد تشكل أيضاً جزءاً من الحل. والواقع أن الخروج
من هذه الأزمة قد يمثل فرصة كبرى: فالدور الإيراني في حل الصراع السوري
قد يحقق قدراً من التعاون يؤدي في نهاية المطاف إلى تقدم المحادثات
المحتضرة بشأن البرنامج النووي الإيراني.
لحل أي مشكلة، فعليك أن تجعلها أكبر، كما قال دوايت أيزنهاور ذات
يوم. ولكننا نحتاج أيضاً إلى تفهم حقيقة مفادها أن طموحات إيران
النووية لا توجد في فراغ. فهي جزء لا يتجزأ من أجندة أوسع، وبعض عناصر
هذه الأجندة مرئية في الأزمة السورية الجارية.
لقد انتشرت الأزمة حقاً إلى كل الدول المجاورة لسوريا ــ بما في ذلك
تركيا في الآونة الأخيرة، والتي شهدت تصدير التفجيرات الانتحارية إلى
مدينة الريحانية الهادئة المسالمة. وكان الرئيس الأميركي باراك أوباما
حكيماً عندما وجه الدعوة إلى رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان،
حليف منظمة حلف شمال الأطلسي، لزيارة واشنطن لإجراء محادثات حول سوريا
ومؤتمر السلام المرتقب. وربما لم تبد أي دولة مجاورة لسوريا مثل هذا
القدر من الاهتمام الذي أبدته تركيا بهذه الأزمة.
بيد أن العراق (بلد آخر يتعين على الولايات المتحدة أن تظهر أكبر
قدر ممكن من الاهتمام به) هو الذي يواجه الخطر الأعظم من التأثيرات
الممتدة إليه من الصراع. ويتظاهر البعض بأن تصاعد وتيرة العنف في
العراق ــ إلى مستويات غير مسبوقة منذ عام 2008 ــ ليس له أي علاقة بما
يحدث في سوريا. فهم يلقون بكل اللوم عن مشاكل العراق على كاهل رئيس
الوزراء نوري المالكي، السياسي الشيعي القوي الشكيمة الذي قاد حزب
الدعوة المهيب إلى رأس الائتلاف الشيعي الواسع الذي ساعده في الفوز
بفترة ولاية رئاسية ثانية في ديسمبر/كانون الأول 2010.
إن الشيعة أغلبية في العراق، وينبغي للسُنّة أن يتعايشوا مع هذه
الحقيقة. وهناك بكل تأكيد سبب وجيه للقلق إزاء مزاج المالكي، ومجموعته
الصغيرة من المستشارين، وميله إلى ممارسة السيطرة الشخصية في استخدام
سلطة الدولة، وسمعته المستحقة جزئياً في بذل الوعود الجوفاء.
ولكن المتطرفين السُنّة نفذوا نحو خمسين هجوماً انتحارياً في الشهر
الأخير، مما أسفر عن مقتل 500 شخص أغلبهم من المدنيين الشيعة. وفي
حادثة واحدة، قتلوا ثلاثين شخصاً واحتلوا وزارة العدل في وسط مدينة
بغداد، كما هاجموا مصالح كردية في كركوك والموصل.
بعبارة أخرى، فإن هذه ليست اللحظة التي قد يكون فيها أي زعيم في أي
مكان في وضع يسمح له بتقديم المزيد من التنازلات للمعارضة. فاليوم،
ينظم السكان السُنّة في إقليم الأنبار العراقي، بإلهام من إخوانهم في
سوريا المجاورة، "الجيوش القَبَلية" لخوض معركة مع الجيش الوطني
العراقي ــ وهذا يشكل تحدياً للسلطة المركزية لا يستطيع أن زعيم أن
يتجاهله.
إن مصير المنطقة بأسرها قد يتوقف على نتائج المؤتمر المرتقب.
وبالنسبة للولايات المتحدة بشكل خاص، فإنها لحظة تتشابك فيها مصالح
متعددة في وقت واحد. ولا نملك الآن إلا أن نأمل أن تكون هي أيضاً
مستعدة كما ينبغي لها.
* مساعد سابق لوزيرة الخارجية الامريكية
لشؤون شرق آسيا، وسفير سابق للولايات المتحدة
http://www.project-syndicate.org/ |